الرحالة العرب

حكايات من خاضوا رحلات العجب والموت

: وجاء في الحكم والأمثال العربية

 

ثمة أساطير لدى مختلف الشعوب عن الإنسان الأول، وخروجنا، نحن البشر، من البيضة الكونية أو رحم الأم، والسعي في الأرض. الحركة بدافع الاكتشاف والفضول والتمدد والصيد والمرعى وطلب العلم والبحث عن بشر يشبهوننا، أو هرباً من زلازل وبراكين وعواصف وأمواج هادرة ووحوش.

لقد كتب على الكائنات جميعاً أن تسعى وراء رزقها. تدب على الأرض وتحلق في السماء وتغوص في البحار. تخوض رحلة وراء رحلة من مشرق الشمس إلى مغربها، ومن أول العمر إلى أرذله. فها هي ذي الطيور تخفق بأجنحتها وعند مغيب الشمس تغني عائدة إلى أعشاشها. وأسماك السلمون تقطع مئات الأميال بين مياه دافئة وباردة كي تضع بيضها. فبأي علامات في البر والجو والبحر تهتدي تلك الكائنات؟

فكل إنسان هو بالضرورة "رحالة"، بحثاً عن معنى أو رزق، كنز أو حبيبة، سعادة أو أمان، قبسة نور أو نار.

ارتحل الشعراء والأمراء والتجار والطلاب والفرسان والمؤمنون والمؤرخون والصعاليك المتمردون على جنة القبيلة والمجانين والعشاق. فما الذي تبقى من أدب الرحلة العربية وسير الرحالة ورحيق 1500 عام من الحل والترحال؟

الشعراء أوائل الرحالة

مثلما هناك أول من أوقد ناراً، وأول من أقام كوخاً، وأول من نصب خيمة، لا بد أن يكون هناك أول من ظعن (ارتحل). المؤكد أن أول إنسان انتصب على قدميه، لا بد أنه قد خاض رحلة ما، فعبر نهراً أو مضى إلى غابة. وفي ثقافتنا العربية يمكن أن نعتبر الشعراء أول الظاعنين، فهم رحالة وراء القصيدة والحبيبة ومجد القبيلة، وقد سجلوا ذلك في نصوصهم الشعرية ضمن المقدمات الطللية وأغراض الفخر والوصف، وسنكتفي بإشارات مكثفة لثلاثة شعراء.

أنهكت الرحلة "الملك الضليل"، وأصابه المرض بالقروح، فوصف مأسوية النهاية بمقطع شعري لا مثيل له ومما قال

ومن الواضح أن قصصاً قد نسجت لاحقاً لبناء أسطورة "الملك الضليل" الذي انفض عنه كثر، لكنه استمر في رحلة الثأر وهو القائل

قبر امرؤ القيس

قبر امرؤ القيس

حلة الموت

كان امرؤ القيس أشهر شعراء عصر ما قبل الإسلام ولقب بـ"الملك الضليل" لأنه سار في متاهات طلباً للملك وثأراً لأبيه. وقد اشتهر بأنه قراع أكواب وكؤوس، فلما بلغه مقتل أبيه قال "لا صحو اليوم، ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر"، ثم أخذ يطلب بني أسد في كل مهب. وقد تحمس للثأر دون إخوته على رغم أن أباه طرده لإفراطه في اللهو، لذلك قال :

خاض رحلة ثأر مريرة، فبعدما قتل كثيراً من بني أسد، انفض عنه حلفاؤه لأن ثأره انتهى،إضافة إلى أن الملك المنذر حشد جيشاً ضده. هرب امرؤ القيس ولجأ إلى الشاعر السموأل بن عادياء الذي أجاره وضم ابنته"هند"إلى أهل بيته،واحتفظ له بدروعه .

وعلى رغم أنه كان حليفاً للقيصر "حاكم بيزنطة"، فإن رجلاً من بني أسد وشى به بأنه تغزل بابنة القيصر، فأرسل إليه الأخير حلة مسمومة أهداه إياها تكريماً له في الظاهر وللقضاء عليه في الباطن، فارتداها امرؤ القيس وركب حصانه ومضى في طريقه إلى أنقرة، فتقرح بدنه ومات هناك .

في معلقته الشهيرة قدم امرؤ القيس أجمل وصف لحصانه الذي شاركه معاركه وارتحاله:

واستعان المتلمس بمن يقرأ كتابه وعلم أن الملك أمر بقتله، مع ذلك أصر طرفة على موقفه وقال له "إن كان اجترأ عليك فما كان ليجترئ عليَّ". هرب الخال إلى الشام، ووصل طرفة إلى والي البحرين وسلمه الكتاب فسأله: هل تعلم ما أمرت به فيك؟ قال نعم، أمرت أن تجيزني وتحسن إليَّ". فرد عليه "إن بيني وبينك لخؤولة أنا لها راع، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك". مع ذلك أصر طرفة على عدم الهرب وأنه لم يفعل ما يبرر قتله. وعلى رغم الشكوك التي تحيط بالقصة التي رواها ابن السكيت، ارتحل طرفة بن العبد حاملاً بيده كتاب موته، وبالفعل مات مقتولاً ولم يبلغ الـ26

أمر بالقتل

شاعر آخر خاض رحلة عجيبة وغامضة، هو طرفة بن العبد المنتمي إلى قبيلة بكر بن وائل. عمل في رعي الأغنام بعدما استولى أعمامه على ميراثه من أبيه.

رحل إلى الملك عمرو بن هند، مع خاله المتلمس، ويقال إنه كان يجالس الملك حين قال بيتين في أخته، فغضب عمرو غضباً شديداً، وبعدما انصرف قال له خاله المتلمس "يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك". وقيل إنه هجا الملك وأخاه.

والمرجح أن عمرو وعده برد إبل له، ثم ماطله، فهجاه طرفة واستخف بانتقامه، فكتم الملك غيظه وأخبر طرفة وخاله أن يذهبا إلى عامله في البحرين وهجر بكتاب لنيل الجوائز منه، وفي الطريق قال المتلمس "يا طرفة، لست آمناً أن يكون قد أمر فينا بشر، فهلم ننظر في كتبنا هذه، فإن أمر لنا بخير مضينا فيه، وإن لم يكن لم نهلك أنفسنا"، لكن طرفة أبى فض ختم الملك.

أحب ابنة عمه عبلة بنت مالك، وتغزل فيها في كل شعره، لكن والدها رفضه لسواد بشرته، ومن باب التعجيز طلب لها مهراً ألف ناقة من نوق الملك النعمان المعروفة بـ"العصافير"، وهي مشهورة ببياضها وخفتها، فارتحل في طلبها ولقي في سبيل ذلك أهوالاً جساماً لكنه وصل أرض النعمان وساق النوق أمامه، فلحق به الملك على رأس كتيبة من الفرسان، استبسل عنترة في القتال حتى وقع في الأسر جريحاً، وفر أخوه شيبوب يخبر أهله بهلاكه.

لكنه شفي من جراحه وبعدها استدعاه النعمان ليعرف أي مجنون شجاع هذا الذي تجرأ عليه، وفي نهاية الأمر منحه النوق  إعجاباً به، لكن القصة انتشرت بنهايتين: الأولى سعيدة والأخرى حزينة.

فقيل إن والد عبلة رضخ أخيراً عندما عاد من رحلة المهالك يسوق النوق أمامه، فتزوج ابنة عمه وعاش سعيداً، وعمر حتى تجاوز الـ90. أما النهاية الأخرى فتخبرنا أن والد عبلة ماطله وزوجها لفارس آخر بعدما أشيع عن هلاكه؟

ألف ناقة

مات امرؤ القيس غريباً بعيداً من الديار، وقتل طرفة شاباً في البحرين، أما عنترة بن شداد فقد أنكره والده لأنه ابن أمة بمنزلة العبيد، اشتهر بالشجاعة والفروسية فلقب بأبي الفوارس، وهو القائل:

استكشاف مبكر

لقد كان الانتقال بين المدن والفيافي وصراعات القبائل والحروب مع الممالك المحيطة بهم، بمثابة استكشاف لهوية عربية مستقلة عن نفوذ الروم والفرس، لكنها ظلت هوية مفككة بسبب صراعات عرب الشمال والجنوب وحتى بين أبناء العمومة، فامرؤ القيس استمر في رحلة الانتقام حتى سقط مريضاً ووحيداً، والشيء نفسه حدث مع خاله "الزير سالم" الذي قتله رجلان في الصحراء.

ظلت تلك الهوية جريحة تختبر ما يمكن أن يصل إليه العرب على مستوى التمدد الجغرافي واللغة والشعر والقصص الديني والأساطير، إلى أن ظهر الإسلام فكان حدثاً كونياً لا مثيل له، ليس فقط من الناحية الدينية والعقائدية، لكن من النواحي الاجتماعية والسياسية وما يتعلق بأسئلة الهوية، فأخيراً تماسك العرب تحت كلمة سواء، وتجاوزوا حمية الجاهلية، وخاض المسلمون الأوائل رحلات وهجرات لنشر الدين والتعريف بتعاليمه، حتى قبل تأسيس عاصمتهم الأولى في المدينة المنورة ، ومنها الهجرة إلى الحبشة.

لقد ارتحلوا سريعاً في امتدادهم الجغرافي والثقافي، وأزاحوا عرشي قيصر وكسرى، لتأسيس نظام جديد قائم على العدالة والكرامة الإنسانية واتساع المدينة للجميع، وكان هذا إنجازاً عظيماً يستحيل على قبائل متناحرة أن تحققه، كما أضاف الإسلام أسباباً جديدة للارتحال إما لطلب العلم في الحواضر كالمدينة والكوفة والبصرة، وإما لأداء فريضة الحج. فبدأ المسلمون في تسجيل مشاهداتهم في كل البلدان التي يذهبون إليها، تزامناً مع ازدهار التدوين، الذي لم يكن منتشراً قبل ظهور الإسلام.

وقد انقسمت الرحلة في سنوات الإسلام الأولى إلى نوعين رئيسين: إما رحلة لها طبيعة تعبدية وتطهرية مثل الحج، وإما رحلة لأغراض ومنافع دنيوية، مع إمكانية المزج بين الغايتين، ومعظم الرحالة الكبار الذين عرفتهم الثقافة العربية والإسلامية، ارتبطوا دائماً بالحج وزيارة بيت الله الحرام. من ثم كان لكل رحلة دائماً جانب أسطوري حافل بالخيال واستدعاء قصص خرافية وانطباعات ذاتية، وأفكار دينية، في مقابل جانب آخر يرتبط بالتجارة والعلم والمغامرة.

لكن كل ما وصلنا من رحلات طوال القرون الأربعة الأولى ـ قبل وبعد ظهور الإسلام ـ أقرب إلى شذرات رحلات، بضعة أسطر تذكر هنا وهناك، والاعتماد في روايتها على المشافهة. لذلك يستغرب نقولا زيادة في كتابه "الجغرافيا والرحلات عند العرب"، أنه مع تعدد بواعث الرحلة ودوافعها، لم يصل إلينا منها إلا القليل.

وبدافع المغامرة والفضول جاءت رحلة "الفتية المغررين " في بحر الظلمات حتى ليظن أن العرب كانوا على وشك اكتشاف أميركا قبل كولومبوس بقرون طويلة.

فالعرب منذ نشأتهم خاضوا فرادى وجماعات مئات الرحلات لبناء ذاكرة وتاريخ وهوية ولغة ودين وأمة ودولة، لكن ما تبقى من القرون الأولى ليس سوى شذرات شعرية وسردية وخرافات.

إن شذرات الرحلات قبل وبعد ظهور الإسلام، طوال أربعة قرون، تتأرجح ما بين المألوف والعجائبي، لأن مفهوم الرحلة ذاته يعني اختفاء ثم ظهور المرتحل، غيابه ثم حضوره، مما يبرر سهولة تصديقه، وانتقاله من الحقيقة إلى الخيال.

من ذلك ما جاء في كتاب "صحيح مسلم" بأن تميماً الداري وكان رجلاً نصرانياً ثم بايع فأسلم، قد ركب في سفينة مع 30 رجلاً من لخم وجذام ، فلعب بهم الموج شهراً، فالتجأوا إلى جزيرة صغيرة، فلقيتهم دابة كثيرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت أنا الجساسة، ثم طلبت الدابة منهم الذهاب إلى أحد الرهبان في الدير، فأخبروا الراهب أنهم من العرب، فطرح عليهم أسئلة عن نخل بيسان وبحيرة طبريا وعن نبي الأميين الذي خرج من مكة. تنطوي القصة المذكورة على ثلاثة أفكار أساسية: أولها، ربط شبه الجزيرة العربية ببلاد الشام جغرافياً، وثانيها مكانة النبي محمد، وثالثها النبوءة عن المسيح الدجال.

ثمة صحابي آخر هو عبادة بن الصامت ينسب إليه أنه قام برحلة دبلوماسية إلى ملك الروم، ووصل إلى قسطنطينية فلاح له جبل أحمر قيل إن فيه أصحاب الكهف، ووصل إلى بيت عظيم في الجبل ورأى 13 رجلاً مضطجعين على ظهورهم وعلى كل واحد منهم جبة غبراء، والرواية مذكورة في معجم البلدان.

ولدينا أيضاً سفرة عثمان بن العاص الثقفي والي البحرين، الذي أبحر من عمان في غارة جريئة على ساحل السند قرب بومباي، كما أراد علاء الحضرمي إظهار جرأته بالتوغل في فارس حتى وصل إلى اصطخر لكن سفينته تحطمت.

تقاليد وآداب الرحيل

بفضل الإسلام أصبح للعرب إمبراطورية عظيمة مترامية الأطراف، من ثم ازدهر السفر في جنباتها، وعزز ذلك أن الرحيل كان فعلاً إيمانياً اتساقاً مع عديد من الآيات القرآنية التي تحض على السعي والسير في الأرض، والتدبر والتفكر في بديع ما خلق الله، وهو المعنى الذي تداوله أيضاً الشعراء والفقهاء، كقول الإمام الشافعي

إن وقوف الشمس لن يؤدي قطعاً إلى ملل العجم والعرب، وإنما إلى انهيار منظومة الحياة كلها في كوكب الأرض، فالسكون موت، والحركة جوهر الحياة.

وهكذا كان للسفر فوائد ومعان وغايات شتى، وازداد الوعي به مع محاولات الاتصال بالثقافات الأخرى في الهند والصين واليونان وبلاد فارس، وكما جاء في الأثر "اطلبوا العلم ولو في الصين"، هذا الانفتاح المعرفي والجغرافي، أسس مدرسة جغرافية عظيمة استفادت وأفادت من ازدهار التدوين والترجمة، خصوصاً بعدما اهتم الولاة في أمصارهم بتعبيد الطرق وتوفير المضايف والحراسات والرباطات، لخدمة الرحالة والمسافرين وعمال البريد.

أداب السفر

رد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفاق

اتخاذ رفيق

وداع الأهل

الصلاة وقت الخروج

السفر في البكور

السير في الليل

الرفق بالدابة

وفق ما ذكرها فؤاد قنديل في كتابه "أدب الرحلة في التراث العربي*

ساحل عمان قديما

ساحل عمان قديما

وقد اشتهر كثير من التجار والبحارة على ساحل عمان بالسفر وركوب البحر، منهم أبو عبيدة بن القاسم الذي اشتغل بتجارة المر مع الصين، وبحسب المستشرق كراتشكوفسكي فمن المرجح أنه قام برحلة عام 758، كما رويت أخبار عن تاجر عماني آخر هو النضر بن ميمون، وقيل إن محمد بن إسحق (غير صاحب السيرة) أمضى قرابة عامين في جزيرة قمارى (كمبوديا الآن). ويعتبر تميم بن بحر المطوعي أول جغرافي يصف الطريق البري إلى الصين.

كهف الرقيم

كهف الرقيم

وربما لم تعرف الثقافة العربية والإسلامية وظيفة "الرحالة" على النحو المتعارف عليه، إلا مع القرن التاسع. من أوائل هؤلاء كان محمد بن موسى المنجم، الذي ورد ذكره في كتاب "البلدان" لليعقوبي، حين قام برحلتين الأولى إلى بيزنطة لزيارة كهف الرقيم  وقيل إنه بين عمورية ونيقية، ليتحقق من وجود الجثث المحنطة المذكورة في القرآن، وهم سبعة أشخاص. وكان المفسرون الأوائل مختلفين في موضعهم، وفي معنى "الرقيم"، فقيل إنه اسم القرية، أو اسم الجبل الذي ضمهم، وقيل بل المقصود لوح رصاص كتبت عليه أسماؤهم.

ابن خرداذبة

ابن خرداذبة

وتطرق ابن خرداذبة لأهم تفاصيل رحلة المنجم الذي روى بنفسه، "فبدأنا بصعود الجبل إلى ذروته، فإذا بئر محفورة، لها سعة تبينا الماء في قعرها، ثم نزلنا إلى باب السرب فمشينا فيه مقدار ثلاثمئة خطوة". ويضيف "فصعدت بشمعة غليظة مع غلامي، فنظرت إليهم (الجثث) في مسوح تتفرك في اليد، وإذا بأجسادهم مطلية بالصبر والمر والكافور ليحفظها وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم.

يأجوج ومأجوج

الرحلة الثانية كانت برفقة سلام الترجمان، فمن وحي قصة ذي القرنين المذكورة في القرآن، وما زال الجدل حول تفاصيلها قائماً حتى الآن، وهل ذو القرنين هو نفسه الإسكندر الأكبر  المقدوني أم ملك آخر؟

خرج سلام الترجمان وهو رحال عربي من سامراء، إلى الأصقاع الشمالية من قارة آسيا بحثاً عن سد ذي القرنين، وكانت مدة الرحلة 28 شهراً.

وقيل إن الخليفة العباسي الواثق بالله، رأى في المنام حلماً تراءى له فيه أن السد الذي بناه ذو القرنين ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج ، قد انفتح، فأفزعه ذلك، فكلف الترجمان بالقيام برحلة ليستكشف مكان سد ذي القرنين. وسواء رحلة الترجمان إلى سد ذي القرنين، أو رحلة المنجم إلى أصحاب الكهف، في عهد الخليفة نفسه، فمن الجلي تشابه دوافع الرحلتين، حين كان الواثق محباً للمعرفة، ويرغب على ما يبدو في جمع أدلة تفسر القصص القرآني.

يقال إن الترجمان كان يتكلم 30 لساناً، وقد أمر الخليفة بأن يسير معه 60 رجلاً ووصله بـ5 آلاف دينار، كما وفر للرحلة النقود ومؤونة سنة و100 بغل تحمل الماء والزاد والكساء. ووصل إلى أرمينيا ثم تجاوزها إلى ملك الخزر، ومدن خربها يأجوج ومأجوج، والتقوا أقواماً يتكلمون العربية والفارسية.

ويلاحظ في سرد الرحلة أن الترجمان والفريق المصاحب له، كان يأخذ كتاباً من حاكم كل بلد ليدخل إلى البلد التالية له، وهو ما يشبه عهد أمان أو جواز سفر بلغة أيامنا. وبحسب ما نقل عن تلك الرحلة، فقد وصف السد بأنه في فج بين جبلين، وأعطى أوصافاً دقيقة له، ومما قاله: "ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مئتي ذراع في مئتي ذراع، وعلى باب هذين الحصنين شجرتان، وبين الحصنين عين عذبة، وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السد من القدور الحديد". وأضاف "فقلت لمن كان بالحضرة من أهل الحصون هل عاب من هذا الباب شيء قط؟ قالوا ما فيه إلا هذا الشق، والشق كان بالعرض مثل خيط دقيق. فقلت تخشون عليه شيئاً؟ فقالوا: لا.

ويرجح أن الترجمان وصل إلى ما يعرف باسم "بوابات الإسكندر "، وهي حصون بين بحر قزوين وجبال القوقاز، يقال إن الإسكندر بناها لمنع هجوم البرابرة المتوحشين، لكن الحقيقة أن من بناها ملوك الفرس. وفي رحلة العودة، مر الترجمان على خراسان ومنها إلى سمرقند، وعبر نهر بلخ ثم سار إلى بخارى وترمذ، ومات من الرجال في الذهاب 22 رجلاً وفي العودة 24 رجلاً. وعن ذلك قال "من مات منهم دفن في ثيابه، ومن مرض خلفناه مريضاً في بعض القرى.

ثم ورد نيسابور (مدينة في إيران) وبقي معه من الرجال 14 ومن البغال 23 بغلاً، وعاد إلى سامراء (في العراق) ، فأخبر الخليفة بما شاهده بعد رحلة استمرت 16 شهراً ذهاباً و12 شهراً إياباً.

يرجح المستشرق كرادي فو أن يكون الترجمان قد وصل إلى جبل القوقاز قرب دربند في داغستان. ولا يستبعد ألكسي فاسيليف (مؤرخ ومستعرب روسي) أن يكون سلام قد أخبر الخليفة بالحكايات المحلية التي سمعها من سكان البلدان التي وصل إليها.

من أهم ما ميز الرحلة خلوها من الغرائب والعجائب التي تعجب السامعين، وميل الترجمان للدقة في الوصف. مع ذلك، ظلت الرحلة موضع تشكيك من الباحثين والمستشرقين. ورأى البعض أنه ربما قام برحلة لكن ما كتب عنها هو مصنف أدبي يجمع بين المشاهدة والانطباعات والخيال، علماً أنه لا وجود لكتاب موثق خاص بالترجمان، مثلما لم يترك المنجم أية رسالة عن الرحلتين.

رحلة التاجر سليمان

يعود أصل كلمة "رحالة" إلى "رحال" أي كثير الانتقال، والتاء المربوطة للمبالغة، أما الرحل فهو كل متاع يعده الإنسان للرحيل، أو ما يوضع على الدواب للركوب كالسرج، وحط رحله أي أقام واستقر.

وإذا كان ما تبقى من رحلة المنجم إلى أصحاب الكهف، والترجمان إلى سد يأجوج ومأجوج، مجرد شذرات، فإن الرحلة التي حظيت بالتوثيق والتدوين المفصل نسبياً كانت لتاجر وليس رحالة، لم يعرف إلا باسمه الأول التاجر سليمان.

وأضاف إليها مدونها أبو زيد السيرافي، رحلة ابن وهب القرشي وهو تاجر ثري من أعيان قريش، ويؤرخ لها بنحو سنة 237 هجرية (بين سنتي 851 و852 ميلادية)، وقد وصل المخطوط إلينا من مكتبة باريس الأهلية ويعود الفضل في دراستها وتدقيقها إلى المستشرق الفرنسي رينو.

اثار قديمة في سيراف

اثار قديمة في سيراف

أبحر سليمان من سيراف وهي من أشهر الموانئ التجارية وتتبع محافظة بوشهر، وكان أهلها أغنى تجار بلاد فارس كلها، ولهم مساكن عالية، وذات طبقات عديدة من خشب الساج الغالي، لدرجة أن أحدهم أنفق في بناء داره 30 ألف دينار، ومع ذلك تجد من يملك فيها 4 آلاف دينار يرتدي ملابس بسيطة فلا تميزه في لباسه عن أجيره. وقد ألف أهل سيراف البحر لدرجة أن أحدهم لم يخرج من السفينة طوال 40 عاماً.

كانتون

كانتون

سارت الرحلة إلى مسقط، وصولاً إلى مضيق بالك شمال جزيرة سيلان، ثم إلى ساحل الملايو الغربي، ثم سايجون، وصولاً إلى ميناء خانفو أو كانتون في الصين ، حيث كانت تعيش مستعمرة عربية، وبلغت من قوتهم أنهم هددوا بقيام ثورة هناك.

كانت الرحلة من مسقط إلى الصين تستغرق أربعة أشهر. ووصف سليمان بالتفصيل الجزر والموانئ والمدن والسكان والمحاصيل والمنتجات. فمثلاً، يصف بحر هركند وبحر دلاروي، وما بينهما من جزائر يقال إنها نحو 1900 جزيرة تملكها كلها امرأة تدخر الودع (الصدف) في خزائنها، ويوجد بها عنبر عظيم القدر، القطعة منه مثل البيت، والعنبر نبات في قاع البحر فإذا اشتد هيجانه قذفه مثل الكمأة والفطر، والجزر عامرة بالنارجيل (الجوز الهندي)، وآخر هذه الجزر سرنديب ومنها مغاص اللؤلؤ.

ومن عجائب ما يرويه أنهم اصطادوا سمكة من البحر طولها 20 ذراعاً وحين شقوا بطنها أخرجوا سمكة من جنسها، وحين شقوا الثانية أخرجوا سمكة ثالثة، وكل هذا حي يضطرب. وفي البحر أيضاً سمكة يحكي وجهها وجه الإنسان تطير فوق الماء اسمها "سمك الميج"، ونوع آخر ذكر أنه يطير من الماء ويصعد على النارجيل فيشرب منه ثم يعود إلى الماء.

وفي جزيرة النيان إذا أراد الرجل أن يتزوج فعليه أن يأتي بقحف رأس رجل من الأعداء، فإذا قتل اثنين تزوج امرأتين. أما لنجبالوس ففيها خلق كثير عراة من الرجال والنساء اللاتي يسترن العورة بورق الشجر، بينما أهل اندامان يأكلون الناس أحياء وهم سود، طوال الأرجل، والأمر نفسه في ملجان حيث قوم من السودان عراة إذا وجدوا الإنسان من غير بلادهم، علقوه منكساً وقطعوه وأكلوه نيئاً، إلى جانب غذائهم المعتاد من النارجيل والسمك والموز.

ملوك الدنيا أربعة

وفي ميناء خانفو، يوجد مجتمع التجار  وثمة رجل مسلم يوليه صاحب الصين الحكم بين المسلمين، ويصلي العيد بهم. أما لباس أهل الصين من الكبار والصغار فهو الحرير، وإذا كان الشتاء لبس الرجل ثلاثة وأربعة سراويل، لكنهم لا يلبسون العمائم، وطعامهم الرز وربما طبخوا معه الكوشان (عصير العنب أو الخشاف) فيما يأكل الملوك خبز الحنطة واللحوم، وشرابهم النبيذ المعمول من الرز.

ومن عادتهم إذا مات أحدهم لا يدفن إلا في اليوم الذي مات في مثله من قابل، ويبكون على موتاهم ثلاثة سنين، ولا يقطعون عن الميت الطعام ظناً منهم أنه يأكل ويشرب.

بينما إذا مات الملك في سرنديب صير على عجلة مستلقياً على قفاه، ويجر شعر رأسه التراب، وامرأة بيدها مكنسة تحثو التراب على رأسه وتنادي: أيها الناس هذا ملككم، بالأمس قد ملككم وكان أمره نافذاً، وقد صار إلى ما ترون من ترك الدنيا وقد أخذ روحه ملك الموت، فلا تغتروا بالحياة بعده، ثم يهيأ له الصندل والكافور والزعفران ويحرق به على عادة أهل الهند.

وسواء الغني والفقير، الكبير والصغير في الصين، لا بد أن يتعلم الخط والكتابة على يد معلم المدينة، وهم منصفون في المعاملات والديون. وهم أهل بياض وجمال، وتجز نساؤهم شعورهن.

وفي الهند والصين يتحدثون أن ملوك الدنيا أربعة: ملك العرب، وملك الصين، ثم ملك الروم، ثم البلهرا (ملك الهند)، لكن سليمان يشير باقتضاب إلى ملوك لبلدان ومدن أخرى أقل شأناً.

ويقارن بين حب أهل الصين للملاهي بينما يعيبها أهل الهند، والحيطان عند الصينيين من خشب وعند الهنود من حجارة، لكنهم جميعاً يشهرون التزويج بالصنوج والطبول، وكلاهما لا يغتسل من جنابة.

وفي الهند إذا اغتصب رجل امرأة قتل، لكن إذا فجر بها على رضى منها، قتل الاثنان، بينما في الصين هناك طبقة من النساء تمتهن الدعارة أو بتعبيره "لا يردن الإحصان" فتنضم إلى "ديوان الزواني"، وتجعل في عنقها خيطاً في خاتم من نحاس مطبوع بخاتم الملك، وتدفع مبلغاً سنوياً لبيت المال، ويزول الإنكار عنها.

وإذا سرق السارق فلساً فما فوقه أخذت خشبة طويلة فيحدد طرفها ثم يقعد عليها حتى تخرج من حلقه.

ولا يهتم الصينيون بإطلاق اللحى والشوارب عكس الهنود إذ قد تصل لحية أحدهم إلى ثلاثة أذرع، ويشير إلى حذقهم في الصناعات المختلفة، فالرجل منهم يصور سنبلة عليها عصفور في ثوب الحرير، فلا يشك الناظر أنها سنبلة وفوقها عصفور.

رحلة السيرافي

وفي الكتاب الذي حققه عبدالله الحبشي تحت عنوان "رحلة السيرافي"، ذكر لقصة ابن وهب، وكيف تشكك الوالي في خانفو بقرابته للرسول محمد، وعندما اطمأن إلى صحة نسبه سأله كيف غلب العرب أجل الممالك؟

ويصف ابن وهب أهل الهند بأنهم عباد يعرفون بالبراهمة وشعراء يغشون الملوك ومنجمون وفلاسفة وكهان وأهل زجر للغربان وبها سحرة. كما يذكر بلاد الزنج وأنها واسعة ينبت فيها الذرة وقصب السكر وعند ملوكهم رجال يعرفون بالمخزمين قد خزمت أنوفهم. أما جزيرة سقوطرا فموقعها قريب من بلاد الزنج وبلاد العرب، وبها منابت الصبر الاسقوطري، الذي ينقل إلى مصر والشام واليونان، وأغلب أهلها نصارى.

وقد اعتادت مراكب أهل سيراف الوصول إلى بحر القلزم الذي تقذف أمواجه العنبر، والإقامة في جدة، لنقل الأمتعة من هناك إلى مصر.

وتختلف سفرة سليمان وابن وهب عما نسب إلى المنجم والترجمان، ليس فقط في تدوين التفاصيل، وإنما في وقوعها من دون تكليف من ملك، ويقال إن ابن وهب كان تاجراً ثرياً في البصرة لكنه خسر ماله بسبب ثورة الزنج في عهد الخليفة المهتدي، فأظلمت الدنيا في عينيه، فذهب إلى سيراف وركب البحر إلى الصين.

ولا يكتفي أبو زيد السيرافي بتدوين المنسوب إلى الرجلين، وإنما أضاف إليهما بعض أخبار الهند والصين.

وتعد الطريقة التي وصف بها سليمان وابن وهب رحلتيهما، وما مرا به من بلدان وبحار وغرائب وعجائب الشعوب، مصدراً أولياً لأهم كتاب أدبي في اللغة العربية وهو "ألف ليلة وليلة".

أشهر الرحالة العرب

إن كانت الرحلات الآنفة الذكر غريبة عن مسامعكم لقدمها، فلا بد أنكم سمعتم بأسماء بعض من أشهر الرحالة العرب والمسلمين الذين جابوا دولاً عدة من غرب أفريقيا إلى شرق آسيا، وفي ما يلي خمسة من أشهرهم.

الاسم: محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي الطنجي

تاريخ ومكان الولادة: 24 فبراير 1304، طنجة - المغرب

الألقاب: ابن بطوطة - "أمير الرحالين المسلمين"

يعد ابن بطوطة، المتحدر من قبيلة لواتة المغربية ومن عائلة تمارس مهنة القضاء، أحد أشهر الرحالة العرب والمسلمين على الإطلاق، إذ ارتحل على مدى نحو 30 عاماً واجتاز ما يقارب 121 ألف كيلومتر، وهي مسافة لم يقطعها أي رحالة قبله.

في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف بـ"رحلة ابن بطوطة"، يروي الرجل حكايات رحلاته التي بدأها عام 1325 وهو في سن الـ21، حين غادر طنجة في رحلة حج إلى مكة، ولم يعد إلى مسقط رأسه سوى بعد نحو 24 عاماً.

في رحلته الأولى، اجتاز ابن بطوطة الساحل الشمالي لقارة أفريقيا، فعبر في كل من الجزائر وتونس وليبيا وصولاً إلى مصر، حيث زار الإسكندرية والقاهرة. ومن البحر الأحمر اتجه إلى الأراضي الفلسطينية حيث زار الخليل وبيت لحم والقدس والمسجد الأقصى، ليعود ويتجه إلى دمشق في سوريا ومنها إلى مكة في السعودية.

بعد أداء فريضة الحج، اختار ابن بطوطة مواصلة رحلاته الاستكشافية، فتوجه في أواخر 1326 مع قافلة حجاج إلى العراق، حيث زار مدينة النجف وسط البلاد، ومن ثم توجه إلى واسط ومنها إلى البصرة جنوباً. ومن هناك، بدأ الرجل مسيرة إلى بلاد فارس، حيث زار آبادان وأصفهان ومدينة شيراز المزدهرة جنوباً، ليعود ويتجه شمالاً إلى بغداد التي كانت ما زالت مدمرة جراء غزو المغول، ليلتقي فيها أبو سعيد، آخر حاكم مغولي للدولة الإيلخانية. وبعدما رافق قافلة الملك إلى تبريز شمال إيران، توجه منها إلى الموصل شمال العراق فبغداد حيث انضم إلى قافلة حج إلى مكة، التي وصل إليها مرهقاً بسبب معاناته إسهالاً شديداً.

مسار رحلات العلامة ابن بطوطة (جامعة كاليفورنا – بركلي، مكتب الموارد للدراسات الدولية ودراسات المناطق)

مسار رحلات العلامة ابن بطوطة (جامعة كاليفورنا – بركلي، مكتب الموارد للدراسات الدولية ودراسات المناطق)

بعد قضائه نحو عام في مكة حيث تعافى جيداً، قرر ابن بطوطة مواصلة رحلاته، فاتجه إلى جدة على البحر الأحمر ومنها انطلق في أولى رحلاته البحرية نحو اليمن، فزار زبيد وتعز وصنعاء وعدن، التي انطلق منها إلى مدينة زيلع في الصومال. واصل سفره جنوباً حتى وصل إلى مقديشو ثم زار بلد البربر والمعروف بالقرن الأفريقي، ثم اتجه إلى بلاد الزنج فجزيرة مومباسا. من هناك تابع مسيرته الساحلية نحو جزيرتي بمبا وزانزيبار حتى وصل إلى كيلوا التابعة حالياً لتنزانيا، ليعود مجدداً أدراجه نحو عمان، حيث نجا وصديق له من الموت بعدما حاول مرشد استأجراه للقيام برحلة برية أن يقتلهما بهدف السرقة. ومن مضيق هرمز، قرر ابن بطوطة العودة لمكة لأداء فريضة الحج للمرة الثالثة، ووصلها في شتاء 1330.

بعد نحو عام آخر في مكة، انطلق ابن بطوطة في رحلة جديدة نحو ألانيا الواقعة على الساحل الجنوبي لأنطاليا، تركيا حالياً، التي وصل إليها قادماً على متن سفينة من ميناء اللاذقية في سوريا. ومن ألانيا اتجه نحو أنطاليا ثم قونية ثم سنوب على ساحل البحر الأسود. ومن هناك، اتجه إلى شبه جزيرة القرم فمدينة آزوف وغيرها من المدن، قبل أن يقوم برحلة إلى بولغار، وهي أعلى نقطة بلغها شمالاً في جميع رحلاته، ثم عاد جنوباً إلى أستراخان، وتوجه بعد ذلك نحو عام 1932، إلى القسطنطينية، في أول رحلة له خارج العالم الإسلامي. وبعد قضاء نحو شهر فيها، عاد إلى أستراخان ومنها إلى ساراي آل الجديد. واصل بعد ذلك مسيرته عبر بحر قزوين إلى بخارى وسمرقند في أوزبكستان اليوم. ومن هناك، اتجه جنوباً إلى أفغانستان

ثم عبر إلى الهند، التي وصل إليها عام 1933 وعمل فيها لصالح سلطان دلهي المسلم محمد تغلق.

مرسلاً من السلطان، توجه ابن بطوطة مع مرافقين إلى الصين. لكن في طريقهم، تعرضوا لهجوم وافترقوا ليجد ابن بطوطة نفسه وحيداً ومجرداً من كل شيء. تمكن العلامة من الإفلات من خاطفيه ومتابعة رحلته إلى الصين. ومر في طريقه على جزر المالديف فسريلانكا ثم ميناء شيتاغونغ في بنغلاديش. وتابع رحلته فعبر في كل من سيلهيت وأسام وجزيرة سومطرة، ثم أبحر إلى ملقة وبعدها إلى فيتنام وثم جزر الفيليبين، ليصل أخيراً إلى مدينة تشي وانتشو في مقاطعة فوجيان بالصين نحو عام 1345، حيث زار أيضاً بكين وهانغشتو وفوتشو وقوانغشتو، حيث قرر العودة لمسقط رأسه في المغرب، ليصل إلى طنجة نحو عام 1949، بعد أشهر قليلة من وفاة والدته وسنوات من وفاة والده، وكان حينها في سن الـ45.

لم يمض ابن بطوطة سوى فترة قصيرة في طنجة قبل أن يقرر الانطلاق في رحلة جديدة هذه المرة إلى بلاد الأندلس، حيث زار مالاغا وغرناطة، قبل أن يسلك طريق العودة للمغرب، حيث مكث فترة في مراكش.

رحلة ابن بطوطة الثالثة والأخيرة كانت باتجاه مالي، فانطلق في خريف 1351 وعبر جبال الأطلس حتى وصل إلى بلدة سجلماسة، حيث أمضى أربعة أشهر بانتظار الشتاء ليتمكن من عبور الصحراء. وواصل رحلته مع قافلة في فبراير (شباط) 1352 ليصل إلى قاع بحيرة الملح الجافة في تاغازا، ليعودوا ويتابعوا رحلتهم عبر الصحراء حتى وصلوا في أبريل (نيسان) إلى بلدة ولاته في موريتانيا. من هناك، تابع ابن بطوطة رحلته جنوباً حتى وصل إلى عاصمة إمبراطورية مالي، حيث قضى نحو ثمانية أشهر. في طريق مغادرته، زار تمبكتو وغاو أدنى النيجر وواحة تاكيدا، وتلقى رسالة من سلطان المغرب أبو عنان فارس يطلب منه فيها العودة لبلاده، وهكذا كان.

وصل ابن بطوطة إلى مدينة فاس بالمغرب عام 1354، حيث بدأ بطلب من السلطان، إملاء حكايات رحلاته على ابن الجزي، الذي دون كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، ويروي فيه ابن بطوطة كل ما شاهده وعاينه وتناوله من طعام خلال نحو 30 عاماً من الترحال، تعرف فيها إلى ملوك وسلاطين وعايش شعوباً من ثقافات مختلفة.

الاسم: محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس الحساني الإدريسي

تاريخ ومكان الولادة: 1100 ، سبتة - المغرب

الألقاب: الشريف الإدريسي - القرطبي - الصقلي

يعتبر الإدريسي من أهم الجغرافيين في التاريخ كونه رسم بعضاً من أولى خرائط العالم وقدم كتابه الشهير "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، الذي يعد أحد أعظم الأعمال الجغرافية في العصور الوسطى.

يعتبر الإدريسي من نسل النبي محمد لذا يلقب بالشريف. ولد في سبتة ودرس في جامعة قرطبة وعاش معظم حياته في صقلية.

أمضى الإدريسي سنوات شبابه الأولى في الترحال، فبدأ السفر مع بلوغه الـ16، وجاب جميع أنحاء شمال أفريقيا والأندلس ووصل إلى غرب أوروبا، حيث زار البرتغال وشمال إسبانيا وساحل فرنسا الأطلسي، وجنوب إنجلترا. كما اتجه في رحلاته إلى المشرق العربي حيث زار مصر والشام، وتجول كذلك في بلاد آسيا الصغرى (الأناضول).

المعلومات المفصلة التي جمعها عن هذه المناطق أكسبته شهرة كخبير جغرافي، فاستدعاه الملك النورماني روجر الثاني إلى قصره في باليرمو عاصمة صقلية نحو عام 1145، حيث أمضى بقية حياته في العمل على وضع خرائط للعالم وفي كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" بناءً على طلب الملك.

الخريطة التي رسمها الإدريسي للملك النورماني روجر الثاني (ويكيميديا كومنز)

الخريطة التي رسمها الإدريسي للملك النورماني روجر الثاني (ويكيميديا كومنز)

جهود الإدريسي أثمرت ثلاثة أعمال جغرافية بالغة الأهمية. أولاً، تمكن هذا الجغرافي من حفر خريطة العالم على كرة من الفضة تضمنت مدن العالم الرئيسة والبحيرات والأنهار والجبال. ثانياً، وضع الإدريسي خريطة للعالم تتألف من 70 خريطة لـ70 منطقة بعدما قسم العالم إلى سبع مناطق متساوية معتمداً على خطوط العرض، وقسم كل منها أيضاً إلى 10 أجزاء متساوية معتمداً على خطوط الطول. وثالثاً، أنجز الإدريسي كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" بعد 15 عاماً من العمل عليه، ليشرح فيه ما تتضمنه خريطة العالم التي رسمها مستنداً إلى مقارنة أعمال من سبقوه وإلى المعلومات والمشاهدات التي جمعها رسامون ومسافرون أرسلهم إلى مناطق مختلفة من العالم. والكتاب الذي حدد اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، يعرف أيضاً باسم "كتاب روجر"، وانتهى الإدريسي من كتابته قبل وقت قصير من وفاة الملك.

ترجم كتاب الإدريسي إلى أكثر من لغة واعتبر مرجعاً جغرافياً في أوروبا لعدة قرون تلت، أما الكرة الفضية فضاع أثرها بعد الاضطرابات التي عرفتها صقلية عام 1160. وفي عام 1166، توفي الشريف الإدريسي وهو في الـ66 في جزيرة صقلية.

الاسم: شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد النجدي

تاريخ ومكان الولادة: 1432، جلفار (رأس الخيمة) - الإمارات

الألقاب: الأميرال (أمير البحر) - "معلم بحر الهند" - "المعلم أسد البحار"

كان أحمد ابن ماجد ملاحاً وجغرافياً عربياً برع في مجاله حتى أرسى قواعد الملاحة وطور البوصلة التي نعرفها بصورتها اليوم. ولد في مدينة جلفار الساحلية لعائلة ملاحين واكتسب كثيراً من معارفه البحرية من والده وجده. فاعتباراً من سن العاشرة، كان يرافق والده في رحلاته البحرية حتى قاد تحت إشرافه أول رحلة وهو في سن الـ17.

يعود إليه الفضل في تأسيس علم البحار، إذ كتب أكثر من 40 كتاباً ورسالة وقصيدة أرسى فيها قواعد الملاحة في كل من البحر الأحمر والخليج العربي وبحر الهند وبحر الصين، كما ابتكر "البوصلة البحرية" المقسمة إلى 22 درجة، حتى أطلق عليه البرتغاليون لقب "أمير البحر".

ويعد كتابه "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" الذي ألفه عام 1490، من أهم الكتابات حول الملاحة البحرية، إذ يوضح ابن ماجد تاريخ علم البحر والمبادئ الأساسية للملاحة، ومنازل القمر، والخطوط الحلزونية، والفرق بين الإبحار الساحلي والإبحار في البحر المفتوح، ومواقع الموانئ من شرق أفريقيا إلى إندونيسيا، ومواقع النجوم، وحسابات الرياح الموسمية والأعاصير وغيرها من المواضيع المهمة للملاحين المحترفين، كما رسم كثيراً من الخرائط البحرية استناداً إلى رحلاته إلى شرق أفريقيا والهند وجنوب شرقي آسيا وربما حتى الصين.

صفحة من كتاب الرحالة ابن ماجد "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"  (ويكيميديا كومنز)

صفحة من كتاب الرحالة ابن ماجد "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"  (ويكيميديا كومنز)

وتميز ابن ماجد في كتابة الإرشادات الملاحية في نظم شعر يحفظها البحارة بسهولة إذ كان معظمهم أميين، فيستذكرونها وقت الحاجة في البحار لمراجعة المعلومات حول التوقيتات والاتجاهات ورصد النجوم والكواكب.

ويعيد البعض لابن ماجد الفضل في تطوير البوصلة التي ما زالت تستخدم اليوم، وكان يطلق عليها حينها اسم "الحقة". فالبوصلة الصينية التقليدية التي كان يستخدمها العرب كانت بدائية، تقوم على وضع قضيب مغناطيسي على عودي خشب خفيفين ووضعهما على وعاء فيه ماء فيطفوان وهما يحملان القضيب ويتحركان بحسب اتجاه القضيب الذي يؤشر إلى الشمال والجنوب. أما ابن ماجد فجاء ليثبت القضيب المغناطيسي من منتصفه على محور عمودي منصوب على قاعدة رسمت عليها الاتجاهات، وتبقى حركته حرة ويدور أفقياً ليشير نحو الشمال المغناطيسي. ويكون القضيب والعمود موضوعين في وعاء زجاجي يحفظهما ويسهل حملهما. البعض يعتبر أن ابن ماجد ابتكر البيت الزجاجي للبوصلة فقط ولم يكن هو من ثبت القضيب المغناطيسي من وسطه مع الحفاظ على حركته.

الاسم: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي

تاريخ ومكان الولادة: 946، القدس - فلسطين

الألقاب: الواوي - البشاري

وصفه المستشرق النمسوي لويس سبرنغر بأنه "أكبر جغرافي عرفته البشرية قاطبة، ولم يسبقه شخص في اتساع مجال أسفاره وعمق ملاحظاته وإخضاعه المادة التي جمعها لصياغة منظمة". فالمؤرخ والرحالة والجغرافي محمد المقدسي، أمضى 20 عاماً في السفر عبر أقاليم العالم الإسلامي بغية وصفها وصفاً جغرافياً دقيقاً لناحية طبيعتها وتضاريسها ومواردها ومدنها وطرقاتها.

ولد المقدسي في القدس بفلسطين لعائلة بنائين، وامتهن التجارة التي فتحت أمامه مسارات السفر والترحال.

مع بلوغه سن الـ20، انطلق المقدسي في أولى رحلاته إلى جزيرة العرب بهدف أداء الحج. وهناك، قرر تكريس جهوده لدراسة الجغرافيا، فبدأ سفره في أنحاء العالم الإسلامي على مدى 20 عاماً، جاب فيها شبه الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر والمغرب العربي وبلاد فارس، حتى وصل إلى الهند.

في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، قسم المقدسي العالم الإسلامي إلى 14 إقليماً، ستة منها عربية، وهي: جزيرة العرب والعراق وأقور (الجزيرة الفراتية الواقعة بين سوريا والعراق وتركيا) والشام ومصر والمغرب. وقسم الإقليم إلى كور، وهو شبيه للمحافظات اليوم، وجعل لكل كورة قصبة أي عاصمة، فضلاً عن المدن والقرى الأخرى. وتحدث عن كل إقليم في قسمين، الأول يصف فيه مناطق الإقليم والمراكز الحضرية فيه، والثاني يتحدث فيه عن شؤون السكان وتنوعهم العرقي وفئاتهم الاجتماعية، كما يتطرق إلى التجارة والموارد المعدنية والآثار والعملات والبيئة السياسية. واستخدم المقدسي في كتابته عن كل إقليم لغة ومصطلحات سكانه، لذلك يشمل كتابه كثيراً من المفردات والتعابير غير المفهومة للبعض.

وفيما تضمن كتابه وصفاً دقيقاً وشاملاً لما شاهده وعاينه في المناطق التي زارها وعاش بين أهلها، اعتمد في وصفه للمناطق التي لم يزرها كالأندلس مثلاً، على شهادات وكتابات أشخاص محل ثقة.

ويعتبر المقدسي أول من رسم خرائط عربية ملونة، فرسم الحدود والطرق بالأحمر والرمال بالأصفر والبحار بالأخضر والأنهار بالأزرق والجبال بلون التراب.

الاسم: ولي الدين أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن خلدون

تاريخ ومكان الولادة: 1332، تونس - تونس

الألقاب: "أبو علم الاجتماع"

يعتبر ابن خلدون واحداً من أعظم المفكرين والمؤرخين في العالم العربي والعالم ومؤسس علم الاجتماع، ومدونته "المقدمة" تعد من أهم الدراسات التاريخية في العالم الإسلامي، التي قدم فيها قراءة تاريخية خالية من الخرافات والآراء الشخصية، فكان أول من طبق المنهج العلمي على الظواهر الاجتماعية.

على مدى حياته، تولى مناصب رفيعة في قصور السلاطين في شمال أفريقيا وفي الأندلس، منها كتابة العلامة في المراسيم والقضاء بين الناس والحجابة كما عين سفيراً. إلى ذلك، اختبر في حياته السجن والنفي وانخرط في الشؤون السياسية، وكان كثير التقلب في تحالفاته وولاءاته.

تنقل ابن خلدون ما بين تونس والمغرب والجزائر والأندلس وبلاد الشام ومصر التي قضى فيها بقية حياته ومارس القضاء والتعليم. وبعد غرق سفينة كانت تقل زوجته وأولاده قبالة سواحل الإسكندرية، قرر أخيراً أن يؤدي فريضة الحج في مكة، ليعود بعدها إلى مصر.

تميزت كتابات ابن خلدون باعتماده منهجاً علمياً في تحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، يقوم على الملاحظة والتحليل والتفكير ثم التوصل إلى النتيجة، فضلاً عن المقارنة ما بين عصره وعصور أسلافه، وهي أدوات بحث اجتماعي ما زالت معتمدة حتى اليوم. ويعتبر ابن خلدون أول من أبرز ارتباط الأهداف التاريخية وتطورها، وأول من أكد ارتباط العلاقات الاجتماعية الاقتصادية.

كتابة بخط يد ابن خلدون لمسودة "المقدمة" (ويكيميديا كومنز)

كتابة بخط يد ابن خلدون لمسودة "المقدمة" (ويكيميديا كومنز)

لابن خلدون عديد من المؤلفات في أكثر من مجال، كالاجتماع والتاريخ والفلسفة، ومن أهم مؤلفاته "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر". وتعتبر "المقدمة"، وهي أولى مدونات هذا العمل والتي شرح فيها ابن خلدون كيفية تطور المجتمعات وتعاملها مع المتغيرات مما يؤدي إلى تقدمها أو انهيارها، أساساً لعلم الاجتماع الذي نعرفه اليوم.

كتابة
شريف صالح

تحرير
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
مريم الرويغ

رئيس التحرير
عضوان الأحمري