القنبلة الذرية

كيف اخترعنا سلاحاً يهدد وجودنا

تتزايد مخاوف البشرية من استخدام السلاح النووي يوماً بعد آخر، فشبح الحرب النووية أطل برأسه مع التهديدات التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ لمح في أكثر من مناسبة أن بلاده يمكن أن تستخدم هذا السلاح إن تطلب الأمر.

وعلى رغم أن البعض استبعد إقدام روسيا على هذه الخطوة في إطار حربها الضروس مع الغرب على الأرض الأوكرانية، فإنه لا يمكن تجاهل كلام "القيصر" وعدم أخذه على محمل الجد، لا سيما أن بلاده تمتلك أكبر ترسانة نووية في العالم.

لذلك فإن كبسة زر واحدة من بوتين قد تؤدي إلى نشوب حرب نووية تدمر كوكب الأرض وتبيد البشرية جمعاء. قد يفعلها حقاً... فمن الذي سيمنعه في حال خسر الحرب المصيرية؟ وهل تقف الويلات التي سبق أن عرفها العالم جراء استخدام هذا السلاح رادعاً أمامه؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

 "جحيم لم يسبق أن شهدته الإنسانية على كوكب الأرض"...

تجربة "ترينيتي" النووية الأولى في التاريخ (غيتي)

تجربة "ترينيتي" النووية الأولى في التاريخ (غيتي)

البداية كانت بـ"الولد الصغير"!

صباح السادس من أغسطس (آب) عام 1945، كان العالم على موعد مع أول هجوم بقنبلة ذرية في التاريخ، حلت الكارثة بهيروشيما في اليابان.

يروي أحد الناجين من الكارثة، "احترق كل شيء وماتت الناس والطيور والحيوانات وحرقت الأشجار ودمرت المباني، وبقيت الآثار ممتدة لسنوات".

تعتبر الولايات المتحدة أول وآخر دولة استخدمت الأسلحة النووية وذلك في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. ألقت القنبلة التي أطلق عليها اسم "الولد الصغير" وتزن أربعة أطنان.

وبلغ نصف قطر دائرة الدمار الذي أحدثته القنبلة نحو 1.6 كيلومتر، وامتدت النيران التي أشعلتها على مدى 11.4 كيلومتر مربع، مما أدى إلى مقتل خمس سكان المدينة البالغ عددهم حينها 350 ألفاً، وأسفر الانفجار عن تدمير نحو 90 في المئة من هيروشيما.

الرجل البدين

مع ذلك لم تستسلم طوكيو، فألقت أميركا قنبلة ثانية عرفت باسم "الرجل البدين" على مدينة ناغازاكي، مما أجبر اليابانيين أخيراً على رفع الراية البيضاء.

أودت هاتان القنبلتان بحياة ما يقارب 220 ألف شخص على الفور، كما لقي ما يزيد على 200 ألف آخرين مصرعهم جراء التسمم الإشعاعي والأمراض المرتبطة به طوال السنوات اللاحقة، وحتى اليوم لم تتعاف اليابان من الأضرار الناجمة عن الضربتين.

كان الهجوم على مدينتي هيروشيما وناغازاكي الأول والوحيد الذي عرفته البشرية، لكنه فتح الطريق أمام سباق تسلح نووي لا سيما بين القوتين العظميين الصاعدتين بعد الحرب العالمية الثانية، أميركا والاتحاد السوفياتي (روسيا اليوم).

أول قنبلة نووية في التاريخ

ساعات قبيل فجر 16 يوليو (تموز) 1945، دشنت الولايات المتحدة العصر النووي بتجربة "ترينيتي" (الثالوث)، حين فجرت أول قنبلة نووية في صحراء ولاية نيومكسيكو وبلغت قوة انفجارها 20 ألف طن من مادة "تي أن تي".

كان الضوء المنبعث من الانفجار مرئياً على مسافة 290 كيلومتراً، وتردد صوت الانفجار على مسافة نحو 160 كيلومتراً.

أجريت العملية كجزء من "مشروع مانهاتن" الذي ترأسه الفيزيائي روبرت أوبنهايمر. تذكروا هذا الاسم جيداً لأننا سنتحدث عنه بإسهاب في ما بعد.

في إحدى المناسبات استذكر أوبنهايمر التجربة النووية الأولى في التاريخ بالقول "كنا نعلم أن العالم لن يكون هو نفسه. كان عدد قليل من الأشخاص يضحكون، وكان هناك عدد قليل من الأشخاص يبكون. كانت الغالبية صامتة".

سباق التسلح النووي

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى بدأ عصر نووي جديد، إذ شرعت دول عدة بتجارب كثيرة تحت الماء وتحت الأرض وفي الغلاف الجوي لصناعة هذا السلاح.

فبين عامي 1946 و1949 أجرت الولايات المتحدة ست تجارب إضافية، وفجرت عام 1952 أول قنبلة هيدروجينية في العالم.

وتعتبر تجربة "كاسل برافو" (قلعة برافو) أكبر سلاح نووي تفجره أميركا في تاريخها عام 1954 بجزر مارشال.

أدى التفجير إلى كارثة كبيرة نتج منها تدمير جزيرة إيلوجلاب (Elugelab) بأكملها، إذ بلغت قوة الانفجار 15 ميغا طن، وهو ما يعتبر أقوى بألف مرة تقريباً من القنبلتين اللتين استخدمتا ضد اليابان.

وتعد الولايات المتحدة أكثر دولة قامت بتجارب لأسلحة نووية في التاريخ، بلغ عددها 1032 تجربة بين عامي 1946 و1990. هذه التجارب لم تمر مرور الكرام لأنها تسببت في خسائر بشرية كبيرة، فالغبار الإشعاعي الناجم عنها أسفر عن مقتل ما بين 340 ألفاً و690 ألف أميركي بين عامي 1951 و1973.

وتعتبر أميركا والاتحاد السوفياتي مسؤولين عن 85 في المئة من إجمالي التجارب النووية في العالم، إذ أجرى الاتحاد السوفياتي بدوره 715 تجربة نووية بين عامي 1949 و1990. وكانت أولى تجاربه بعد أربع سنوات من إلقاء قنبلتي اليابان، وعرفت باسم "جوا 1" وشكلت بداية سباق التسلح النووي خلال الحرب الباردة.

"القيصر"... أقوى قنبلة نووية في العالم

فيما تعتبر أميركا أكثر دولة قامت بتجارب نووية، إلا أن أكبر خمسة تفجيرات نووية في تاريخ البشرية هي روسية، أبرزها على الإطلاق "قنبلة القيصر" أو كما تعرف في روسيا "إيفان الكبير".

والقيصر قنبلة هيدروجينية تعد أقوى قنبلة نووية في التاريخ، ألقتها روسيا على أرخبيل نوفايا زمليا بالمحيط المتجمد الشمالي عام 1961.

يومها صعدت السحابة الناتجة من الانفجار إلى عنان السماء بمسافة تقدر بـ64 كيلومتراً، أي نحو ثمانية أضعاف قمة "إفريست"، أعلى قمم العالم، بينما بلغ عرضها 40 كيلومتراً. أما قطر كرة النار فكان 4.6 كيلومتر، لذلك من كان يعيش على بعد ألف كيلومتر تمكن من مشاهدة الانفجار.

قدرت قوة القنبلة الهائلة بأكثر من 50 ميغا طن، وطافت الموجات الناتجة من الانفجار حول الكرة الأرضية بأكملها ثلاث مرات، كما أحدثت هزة أرضية شعر بها ربع سكان الأرض. فلا بد أن من شاهدها وشعر بها حسب ذلك اليوم نهاية العالم.

تجربة "كاسل برافو" النووية الأميركية (وزارة الطاقة الأميركية)

تجربة "كاسل برافو" النووية الأميركية (وزارة الطاقة الأميركية)

انفجار "قنبلة القيصر" الروسية (الإدارة الروسية للطاقة الذرية)

انفجار "قنبلة القيصر" الروسية (الإدارة الروسية للطاقة الذرية)

أكبر 10 انفجارات نووية
في تاريخ البشرية

"إيفان الكبير"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1961
القوة التدميرية: 50000 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 60 كيلومتراً

"التجربة 219"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1962
القوة التدميرية: 24200 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 38-40 كيلومتراً

"التجربة 147"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1962
القوة التدميرية: 21100 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 39 كيلومتراً

"التجربة 174"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1962
القوة التدميرية: 20000 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 38 كيلومتراً

"التجربة 173"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1962
القوة التدميرية: 19100 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 38 كيلومتراً

"قلعة برافو"

الدولة: الولايات المتحدة
المكان: حلقية بيكيني
التاريخ: 1954
القوة التدميرية: 15000 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 34 كيلومتراً

"قلعة يناكي"

الدولة: الولايات المتحدة
المكان: حلقية بيكيني
التاريخ: 1954
القوة التدميرية: 13500 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 33 كيلومتراً

"التجربة 123"

الدولة: الاتحاد السوفياتي
المكان: نوفايا زمليا
التاريخ: 1961
القوة التدميرية: 12500 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 32 كيلومتراً

"قلعة روميو"

الدولة: الولايات المتحدة
المكان: حلقية بيكيني
التاريخ: 1954
القوة التدميرية: 11000 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 29 كيلومتراً

"إيفي مايك"

الدولة: الولايات المتحدة
المكان: حلقية إنيويتوك
التاريخ: 1952
القوة التدميرية: 10400 ميغا طن
ارتفاع الدخان: 29 كيلومتراً

أعضاء جدد في النادي النووي 

أصبحت المملكة المتحدة ثالث دولة تجري اختبارات للأسلحة النووية أوائل خمسينيات القرن الماضي، وفجرت أولى قنابلها الذرية في أكتوبر (تشرين الأول) 1952.

 منذ ذلك العام وحتى 1991 أجرت بريطانيا 45 تجربة نووية، معظمها كان بالتنسيق مع الولايات المتحدة ابتداءً من عام 1961.

كما دخلت فرنسا النادي النووي عام 1960، ثم لحقت بها الصين بعد أربع سنوات.

فجرت فرنسا أولى قنابلها النووية عام 1960 وعرفت باسم "اليربوع الأزرق"، وفي سجلها 210 تجارب نووية بين 1960 و1996.

كانت فرنسا مسؤولة عن مقتل 30 ألف جزائري، إذ تشير تقارير جزائرية إلى أن باريس أجرت 57 تجربة نووية في صحراء الجزائر الكبرى أسفرت عن مقتل مدنيين وعسكريين وسببت أمراضاً وتشوهات لسكان المناطق المجاورة.

أما الصين فأجرت أولى تجاربها النووية عام 1964 بالقرب من بحيرة "لوب نور" في تركستان الصينية. وبعد 32 شهراً فقط، اختبرت أولى قنابلها الهيدروجينية مما جعلها أسرع دولة تنتقل من التفجير الذري إلى التفجير الهيدروجيني الحراري. وبالمجمل، أجرت بكين 45 تجربة بين 1964 و1996.

رسمياً، أصبحت الهند سادس دولة تطور أسلحة نووية، وأجرت تفجيرها "السلمي" الأول عام 1974.

بعدها انضمت باكستان إلى سباق التسلح عام 1998، بينما أجرت كوريا الشمالية أول تجربة نووية لها تحت الأرض عام 2006.

أما إسرائيل فقد بدأت برنامجها النووي في خمسينيات القرن الماضي، لكنها لم تختبر أي سلاح ولا تكشف صراحة عن برنامجها النووي.

جنوب أفريقيا من جهتها حصلت على أسلحة نووية عام 1982، وفق معهد مونتيري لدراسات حظر الانتشار النووي، لكنها لم تجر أي تجربة. وبعد 10 سنوات شرعت في تفكيك ترسانتها، مما جعلها الدولة الوحيدة التي تخلت بشكل طوعي عن برنامجها النووي.

بالمجمل تم إجراء ما لا يقل عن 2000 تجربة نووية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف التسعينيات، وتسببت هذه التجارب في خسائر مادية وبشرية كبيرة.

تجربة نووية بريطانية (الحكومة الأسترالية)

تجربة نووية بريطانية (الحكومة الأسترالية)

أشخاص يشاهدون إجراء تجارب نووية فرنسية في صحراء الجزائر (أ ف ب/غيتي)

أشخاص يشاهدون إجراء تجارب نووية فرنسية في صحراء الجزائر (أ ف ب/غيتي)

مسؤول صيني يعلن نجاح اختبار نووي (ويكيبيديا)

مسؤول صيني يعلن نجاح اختبار نووي (ويكيبيديا)

الترسانة النووية العالمية

تقديرات عدد الرؤوس النووية لعام 2022

المجموع
12705

البداية من ألمانيا 

خاضت الولايات المتحدة مع ألمانيا سباقاً محموماً لامتلاك القنبلة النووية في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. وقتذاك، كان العالم برمته يخشى أن يمتلك الزعيم النازي أدولف هتلر السلاح النووي.

بدأت برلين برنامجها النووي المعروف باسم "نادي اليورانيوم" بسرية تامة عام 1939، بعد أشهر فقط من اكتشاف العلماء الألمان الانشطار النووي.

أصبحت الإدارة الأميركية على علم بالبرنامج النووي الألماني بعدما وجه العالم ألبرت أينشتاين رسالة إلى الرئيس فرانكلين روزفلت، حذره فيها من إمكانية حصول برلين على السلاح الذري بعد التقدم الذي حققته في مجال الانشطار النووي.

لكن البرنامج النازي لم يكتب له النجاح لأسباب عدة، أبرزها قلة التمويل والدعم، ومغادرة كبار العلماء الألمان لا سيما أن بعضهم كانوا من المهاجرين اليهود الذين فروا من هتلر.

في عام 1942 قررت الحكومة الألمانية الاستمرار بالمشروع ولكن بشكل متواضع. أدرك العلماء حينها أن المتطلبات الفنية لإنتاج القنبلة الذرية التي كان يسعى هتلر إلى امتلاكها ستستغرق سنتين على أبعد تقدير، في حال حصول البرنامج على أقصى قدر من الدعم، لذلك تم تحويل الموارد الألمانية للجهود الحربية.

وفي عام 1943 أطلقت الولايات المتحدة مهمة "ألسوس"، وهو مشروع استخباراتي شاركت فيه بريطانيا بهدف مراقبة تطور البرنامج النووي الألماني. وسعى الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية إلى تخريب وتدمير المشروع الألماني بأي ثمن، فشنوا ثلاث هجمات على مصنع "فيمورك" في النرويج التي كانت تحت السيطرة الألمانية. وكانت هذه المنشأة الوحيدة في العالم التي تنتج كميات كبيرة من الماء الثقيل المستخدم في إنتاج الأسلحة النووية.

أبرز تلك الهجمات وقع عام 1943 عندما شن سلاح الجو الأميركي هجوماً على الموقع ودمر أجزاءً كبيرة منه. ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أمر هتلر بنقل المشروع إلى ألمانيا، لكن الباخرة التي كانت تحمل المعدات والمخزون المتبقي من الماء الثقيل غرقت بعدما هاجمتها الطائرات البريطانية ودمرتها في عرض البحر.

تشير معظم المصادر إلى أن ألمانيا لم تقترب من تطوير القنبلة النووية التي كان هتلر يحلم بها، لكنها تقدمت فقط في البحث الأولي، بينما تفيد مصادر أخرى بأن هتلر اقترب من امتلاك السلاح النووي في نهاية الحرب العالمية الثانية ما كان يمكن أن يغير نتيجة الصراع.

"مشروع مانهاتن"

تمكنت الولايات المتحدة من امتلاك السلاح النووي قبل أن تسبقها إليه ألمانيا النازية، وذلك بعد إطلاقها "مشروع مانهاتن" عام 1942.

إلا أن فكرة تصنيع قنبلة نووية كانت لمعت في عقل الأميركيين في أوائل 1939، عندما التقى الفيزيائي الإيطالي المهاجر إنريكو فيرمي مع مسؤولي وزارة الخارجية في جامعة كولومبيا لمناقشة استخدام المواد الانشطارية في الأهداف العسكرية.

في ذلك العام توصل فيرمي إلى نتيجة مفادها بأن إطلاق نيوترونات اليورانيوم على اليورانيوم المنشطر يمكن أن يتسبب في انشطار ذرات يورانيوم أخرى تحدث تفاعلاً متسلسلاً يؤدي بالمحصلة إلى انطلاق كميات هائلة من الطاقة.

لكن الدافع الرئيس لإطلاق المشروع الأميركي كانت رسالة أينشتاين إلى روزفلت، ومفادها: ألمانيا تعمل على تصنيع سلاح قوي قد يؤدي إلى دمار شامل لا يمكن وصفه.

على أثر ذلك أمر الرئيس الأميركي بإنشاء فريق من العلماء والمسؤولين العسكريين للبحث عن الدور المحتمل لليورانيوم وإمكانية توظيفه في تصنيع الأسلحة.

وفي أواخر 1941 أعطى الضوء الأخضر لإنشاء قنبلة ذرية عبر "مشروع مانهاتن". حينها وصف المهندس الأميركي روبرت فورمان كيف أطلق المشروع استناداً إلى الخوف: الخوف من أن يكون العدو قد امتلك القنبلة فعلاً.

ويعتبر "مانهاتن" من أكبر المشاريع العلمية في التاريخ، إذ عمل فيه أكثر من نصف مليون شخص من علماء ومتخصصين وعسكريين.

في البداية، كان البحث قائماً في عدد قليل من الجامعات فقط، لكن الاختراق الكبير حصل في أواخر 1942 عندما قاد فيرمي مجموعة من الفيزيائيين لإنتاج أول تفاعل نووي متسلسل. بعد هذا الإنجاز تم تخصيص مزيد من الأموال لبناء المنشآت النووية، وتقدم المشروع بسرعة هائلة.

وفي 1943 عين الفيزيائي الأميركي من أصل ألماني روبرت أوبنهايمر على رأس المشروع وشاركه في إدارته عدد من العلماء المرموقين، وكانت مهمتهم تصميم أول قنبلة نووية، وهو ما حصل في عام 1945.

لم تقف روسيا موقف المتفرج فحصلت هي الأخرى على سلاحها النووي بعد أربع سنوات، لتكر السبحة مع المملكة المتحدة وفرنسا والصين والهند وباكستان.

فريق "ألسوس" يفكك "آلة يورانيوم" في ألمانيا (Brookhaven National Laboratory, courtesy, AIP Emilio Segrè Visual Archives, Goudsmit Collection)

فريق "ألسوس" يفكك "آلة يورانيوم" في ألمانيا (Brookhaven National Laboratory, courtesy, AIP Emilio Segrè Visual Archives, Goudsmit Collection)

موقع مشروع مانهاتن حيث صنعت أول قنبلة نووية في العالم (غيتي)

موقع مشروع مانهاتن حيث صنعت أول قنبلة نووية في العالم (غيتي)

الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي (غيتي)

الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي (غيتي)

هل أوبنهايمر أبو القنبلة النووية فعلاً؟

غالباً ما يشار إلى أوبنهايمر بأنه أبو القنبلة النووية، ويبدو لكثير أنه هو الوحيد الذي يحمل براءة اختراعها. لذلك يتساءل كثر كيف له أن يحمل هذا اللقب بينما لم يكن هو من اكتشف أن الطاقة النووية تنتج من خلال انشطار ذرات اليورانيوم بضربات النيوترونات.

هنا يبرز اسم فيرمي كأحد مكتشفي الانشطار النووي، الذي أنتج أول تفاعل نووي متسلسل في الولايات المتحدة، كما سبق أن ذكرنا. وفيرمي عالم أميركي من أصول إيطالية فر من النظام الفاشي وهاجر إلى أميركا.

كما تجدر الإشارة إلى أن أوبنهايمر لم يكن ممن شاركوا في بحوث الانشطار النووي في أوائل أربعينيات القرن الماضي، بل كان يقوم بأبحاث ودراسات حول الفيزياء الفلكية وموضوعات أخرى من بينها النجوم النيوترونية.

ويجب ألا ننسى أن فيرمي كان الفيزيائي الأول الذي حذر من التطبيق العسكري للانشطار النووي. لذلك يرى كثر أن فيرمي هو مهندس العصر النووي بحق، ولا يقل أهمية عن أوبنهايمر، كما يستحق مع غيره من العلماء مكانة الأبوة في صناعة القنبلة الذرية. ويعتبر هؤلاء أن "مشروع مانهاتن" كان نتاج عمل جماعي لا يوجد فيه بطل منفرد، حتى فيرمي أو أوبنهايمر أنفسهما.

لكن ذلك لا يقلل من شأن أوبنهايمر بتاتاً، فقد كان هذا العالم من أبرز الفيزيائيين الذين أسهموا في تطوير القنبلة الذرية، وهو من قاد "مشروع مانهاتن" وأشرف على التجربة الذرية الأولى في تاريخ البشرية.

وبطبيعة الحال لم يبدأ الحديث عن الذرة في القرن الماضي فحسب، وإنما عرفته البشرية قبل ذلك بكثير، لذلك تبرز أسماء علماء عرب في هذا المجال، من بينهم جابر بن حيان.

مم تتكون الذرة وكيف يحصل الانفجار النووي؟

في مركز كل ذرة توجد نواة مؤلفة من بروتونات ونيوترونات مرتبطة بشكل وثيق، كما هي الحال في ذرة اليورانيوم المستخدمة في الأسلحة النووية. هذه الأسلحة تنفجر جراء تفاعلات متسلسلة بين البروتونات والنيوترونات، ولكن كيف يحصل ذلك؟

عندما يتم إطلاق نيوترون حر إلى نواة ذرة انشطارية مثل اليورانيوم تنقسم الذرة الواحدة إلى ذرتين أصغر حجماً تعرفان باسم "الشظايا الانشطارية"، وتطلق بالتوازي عدداً من النيوترونات مما ينتج منه طاقة حرارية كبيرة.

هذه النيوترونات الجديدة تضرب نواة ذرات اليورانيوم الأخرى. وفي كل مرة تنقسم أو تنشطر هذه الذرات يتحرر مزيد من النيوترونات لشطر مزيد من ذرات اليورانيوم، وهو ما ينتج منه تفاعل متسلسل يؤدي في نهاية المطاف إلى إصدار طاقة هائلة وحدوث انفجار ذري كبير.

"إيفان الكبير"

كيف انفجرت أقوى قنبلة ذرية في التاريخ؟

"قيصر"

هي عبارة عن قنبلة هيدروجينية تعرف أيضاً باسم السلاح النووي الحراري، وتوصف عادة بأنها نسخة أكثر تقدماً وتمتلك قدرة تدميرية أكبر من القنبلة الذرية بأضعاف مضاعفة.

في حين أن القنابل الذرية التقليدية تستخدم انشطار اليورانيوم أو البلوتونيوم في معظم الحالات، فإن القنابل الهيدروجينية تحتاج أيضاً إلى نظائر إضافية من الهيدروجين، تسمى الديوتيريوم والتريتيوم.

عند إحداث انصهار لهاتين الذرتين في ظل ضغط وحرارة مرتفعين، تتولد ذرة "هيليوم" إضافة إلى نيوترون واحد وطاقة هائلة تزداد قوة كلما ازدادت عمليات الانصهار بين الذرات.

وبناءً على ذلك تعتمد القنبلة الهيدروجينية تقنية الاندماج أو الانصهار بين عناصر الهيدروجين لتستخدم النيوترونات الناتجة منها في إذكاء الانشطار بقنبلة ذرية أخرى تكون في داخلها أيضاً.

لذا تعمل القنبلة الهيدروجينية على مرحلتين:

المرحلة الأولى تبدأ عندما تحدث القنبلة الذرية عند انفجارها انشطاراً ابتدائياً يولد حرارة عالية وموجة إشعاعية.

هذه الحرارة العظيمة تطلق المرحلة الثانية من خلال ضغط وصهر عناصر الهيدروجين، واليورانيوم والليثيوم في القنبلة الثانية، محدثة ما يعرف بالاندماج النووي الذي ينتج بالمحصلة طاقة حرارية قوية جداً تؤدي إلى انفجار هائل.

ماذا يحدث عندما يقع الانفجار وما أضراره؟

تطلق الكرة النارية الناتجة من الانفجار النووي أربعة أنواع من الطاقة

موجات انفجارية

ضوءاً مركزاً

حرارة

إشعاعاً.

وفي أقل من ثانية واحدة ستظهر كرة من البلازما
أو كرة النار، حرارتها أكبر من حرارة الشمس.

وقتها سيتبخر كل شيء البشر والشجر
والمنازل والمباني والسيارات وغيرها،

ضمن نطاق يتراوح ما بين كيلومترين وثلاثة كيلومترات.
يحدث ذلك لأن القوة الحرارية سترفع حرارة الأرض الواقعة
تحت بؤرة الانفجار إلى نحو سبعة آلاف درجة مئوية.

وفي حال لم يتبخروا سيعاني البشر الذين
يوجدون على بعد ثلاثة كيلومترات أو أكثر
من موقع الانفجار حروقاً مروعة.

كل هذا سيحصل في حال كنا نتحدث عن سلاح نووي
يتراوح وزنه ما بين 10 و20 كيلو طن، وهو حجم القنبلتين
اللتين دمرتا هيروشيما وناغازاكي.

ولو افترضنا أن القنبلة كانت أكثر وزناً، ما الذي سيحدث يا ترى؟

في غضون بضع ثوان أخرى ستنطلق موجات حارة هائلة ستحرق الأخضر واليابس. ويعتمد نطاق الموجة الحارة على قوة القنبلة، فإذا كانت هيدروجينية، شبيهة بقنبلة القيصر، فقد يصل مداها إلى 200 كيلومتر أو أكثر، أي إننا نتحدث عن مسافة نقطعها بالسيارة في غضون أربع ساعات، وهو ما يعني بالنتيجة دماراً شاملاً لكل شيء.

أما النظر إلى الكرة النارية والضوء المركز الناتج من الانفجار فيمكن أن يؤدي إلى عمى دائم أو تلف في العين، أو فقدان البصر لفترة وجيزة، في أحسن الأحوال. وفي ما يتعلق بالأضرار الناتجة من الموجات الارتجاجية أو الصدمية فقد تؤدي إلى تهدم بيوت ومبان أو تطاير أناس في الهواء.

الغبار النووي

كل شيء داخل كرة النار هذه يتبخر ويرتفع للأعلى، مشكلاً سحابة الفطر أو عيش الغراب الذي نراه عادة بعد كل انفجار.

أما المواد الموجودة داخل سحابة الفطر فتتحول إلى جسيمات تشبه الغبار وتتساقط على الأرض. يعرف هذا بالغبار النووي، وهو مجموعة هائلة من الرقائق المشعة قد تحملها الرياح لأميال بعيدة عن مكان الانفجار.

قد يؤدي تعرض الإنسان إلى الإشعاع النووي بشكل عام إلى اختلال وظيفة الجهاز العصبي المركزي، وعدم قدرة الجسم على إنتاج كريات دموية جديدة، وغالباً ما يسفر عن الموت في حال التعرض لكميات كبيرة منه.

ويصيب الإشعاع النووي الإنسان بعد الانفجار مباشرة أو من الغبار النووي المتساقط. وقد ينجو الإنسان في حال لم يتعرض بشكل مباشر للإشعاع، لكنه قد يواجه مزيداً من خطر الإصابة بأمراض السرطان المختلفة، لا سيما أن الإشعاع قد يبقى في الجو لمدة طويلة جداً ويستمر تأثيره لسنوات عدة. لذلك شهدت نسبة الإصابة بأمراض السرطان ارتفاعاً ملحوظاً خلال السنوات الـ10 الأولى بعد استهداف هيروشيما وناغازاكي بالسلاح النووي.

ولا تقتصر أضرار التلوث النووي على حياة الإنسان وصحته، بل تمتد إلى تلويث وتسميم البيئة التي نعيش فيها من ماء وغذاء وتربة وغيرها.

هل ينفع الندم؟

يعرف العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية ما اقترفته أيديهم، ومنهم أوبنهايمر الذي قال بعد أول تجربة نووية في التاريخ:

(غيتي)

(غيتي)

ومثله فيرمي الذي عارض مشروع بناء القنبلة الهيدروجينية. وبعد اكتشافه التفاعل النووي شعر بالحزن والضيق حين أدرك أن قنبلة نووية واحدة قادرة على تدمير مدينة بأكملها.

أما أينشتاين فقال

(أ ف ب)

(أ ف ب)

أي إنه لم يكن ليحذر أميركا من خطورة المشروع الألماني الذري، وهو الأمر الذي دفعهم إلى البدء في "مشروع مانهاتن".

المشكلة اليوم أن عدد الرؤوس النووية في العالم آخذ في الارتفاع على رغم معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وأصبحت هذه الأسلحة تمتلك قدرة تدميرية أكبر، وهي أكثر تطوراً وخطورة من تلك التي كانت تصنع قبل عقود.

لذلك يعيش العالم الآن كابوس السلاح النووي المكدس بالآلاف على كوكبنا، أما نزعه فأصبح ضرورة ملحة كي لا تعيش البشرية تحت وطأة أهوال تدمير الأرض.

كتابة وإعداد
فراس بارودي

تحرير
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
عمر المصري

الإشراف على التنفيذ
نوف الحربي

رئيس التحرير
عضوان الأحمري