هجرة المتوسط

المسار الأكثر خطورة في 2023

  خرج أهالي قرية أبنوب فرحين وهم يودعون أبناءهم وأبناء الأصدقاء والجيران الذين "كرمهم ربنا" وتمكن ذووهم من جمع "مصاريف" سفرهم.

غالبية الركاب الـ650 على متن المركب الذي أبحر من السواحل المصرية في صيف عام 2022 كانوا أطفالاً من هذه القرية الصغيرة في مدينة أسيوط في صعيد مصر.

الكل علق أحلام جني المال وطموح شراء قيراط أو قيراطين لبناء بيت وإنجاب المزيد من العيال على هذا الصغير الذي ركب المركب لتوه في طريقه إلى إيطاليا. ولمَ لا؟ وكل أسرة دفعت "تحويشة العمر" للسمسار مسؤول تحقيق الأحلام؟!

كان من المفترض أن يبحر المركب من مصر إلى ليبيا تبعاً لخط السير ومنها إلى إيطاليا رأساً (أو غرقاً)

لكن المركب ضلّ طريقه، ووجد الصغار أنفسهم مبحرين من ليبيا إلى تونس، ومن تونس إلى اليونان، ومن اليونان إلى إيطالياً أخيراً

لم تغرق المركب كغيرها المئات، لكن كثيرين من ركابها الصغار ماتوا جوعاً وعطشاً، ومنهم خمسة أطفال من أبناء قرية أبنوب.

هؤلاء ماتوا جوعاً وعطشاً ليلحقوا بخمسة من شباب القرية توفوا قبلهم بأسابيع، لكنهم غرقوا في عرض البحر المتوسط بين ليبيا وإيطاليا، شأنهم شأن 20 ألفاً آخرين قضوا في مسار الهجرة نفسه منذ عام 2014.

إنه مسار وسط المتوسط للهجرة، أو المسار الأكثر خطورة في العالم في 2023.

تاريخ من الهجرة 

الهجرة عبر المتوسط لم تبدأ بين عقد وضحاه أو عقب صراع مسلح تحول إلى مزمن أو هرباً من أوضاع اقتصادية صعبة تصل درجة القحط والعوز. هو مسار قديم قدم التاريخ.

في التاريخ القديم، عبر ضحايا العبودية البحر المتوسط من الجنوب صوب الشمال الأوروبي.

لكن موجات الهجرة أو التنقل عبر المتوسط لم تكن جميعها من الجنوب صوب الشمال. أوروبيون اعتادوا العبور اختيارياً صوب الإمبراطورية العثمانية بحثاً عن الفرصة والأمل، أو هرباً من العدالة، أو لتحسين مستوى معيشتهم.

وعقب سقوط الأندلس، هرب اليهود والمسلمون من الاضطهاد السياسي والديني صوب اليونان وإيطاليا، وكذلك إلى شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

وعلى مر العصور، ظل البحر المتوسط معبراً ومساراً اختيارياً لآلاف الجنود والحجاج والساسة والمسافرين، وبينهم كثيرون حالمون بحياة أفضل على الجانب الآخر من المتوسط.

آخر مسارات الهجرة من شمال المتوسط إلى جنوبه اختفى بحلول القرن العشرين. أصبح الاتجاه واحداً: من الجنوب صوب الشمال.

الموجة الجماعية الأولى كانت لمزارعين فقراء توجهوا من شمال أفريقيا إلى أوروبا، وهم المزارعون الذين ساءت حياتهم ولحقت بهم الأضرار بسبب المستعمر الأوروبي في بلدانهم. وعلى رغم انتهاء الاستعمار واستقلال هذه الدول، إلا أن أحوال شعوبها لم تتحسن كثيراً.

وفي سبعينيات القرن الماضي، بدأ العمال المتوجهون من جنوب المتوسط صوب الشمال يتزايدون، لا سيما في ظل ترحيب دول شمال المتوسط الأوروبية لحاجتها الشديدة لهم.

اليوم، تتخذ أحلام الحياة الأفضل على الجانب الآخر من المتوسط أشكالاً أكثر راديكالية وعوامل أعتى اضطرارية.

الأسباب الكلاسيكية للهجرة

الحياة على جانبي المتوسط متناقضة، وهو ما يكسب الرحلة صوب الشمال جاذبية لدى البعض من أهل الجنوب. لكن الجاذبية تتحول مسألة حياة أو موت حين تتحول مناطق عدة في جنوب المتوسط إلى كرات لهب طاردة، الهارب منها ناج ولو مات في الطريق، والباقي فيها ميت ولو بقي على قيد الحياة.

النزاعات المسلحة

هي السبب الأبرز لهروب السكان، فالإحصاءات الأممية تشير إلى أن نحو نصف المهاجرين غير الشرعيين يفرون من أوطانهم التي وقعت في براثن النزاعات والحروب على مدى سنوات.

الأحوال الاقتصادية والمعيشية

يأتي حلم تحسين الأحوال الاقتصادية والمعيشية في المرتبة الثانية بين أسباب الهجرة.

التعرض للاضطهاد

يلجأ كثيرون للهجرة هرباً من الاضطهاد بسبب العرق أو الانتماء أو الدين.

الفساد

البعض يهرب بسبب تفشي الفساد المالي والإداري في بلده لدرجة تجعل الحياة غاية في القسوة.

التغير المناخي

يتوقع أن يدفع "غليان المناخ" و"غضب الأرض" أو التغير المناخي بأعداد المهاجرين وطالبي اللجوء في المستقبل القريب جداً إلى معدلات ليست في الحسبان، لينافس ربما الهجرة هرباً من الحروب.

أعداد العابرين وأنماط الموت

أعداد العابرين، أو من يحاولون العبور، شهدت قفزات متسارعة في السنوات القليلة الماضية. تصاعد أحداث وأزمات دول الجنوب بين حروب وصراعات وجفاف وفقر، إضافة لما تبقى من رغبة إنسانية فطرية في حياة أفضل، تدفع بالأعداد إلى زيادة غير مسبوقة.

أكثر من 2.5 مليون شخص عبروا من جنوب البحر المتوسط إلى شماله منذ السبعينيات وحتى 2016

عام 2015 سجل ذروة العبور عبر المتوسط مع أكثر من مليون مهاجر

بعد 2015 اتجهت الأعداد للانخفاض نسبياً لكنها أصبحت أشد فتكاً بالعابرين

يتوقع أن يسجل عام 2023 أرقاماً قياسية، إن لم يكن في عدد العابرين ففي عدد الضحايا

في 2018، عبر نحو 142 ألفاً، في 2020 عبر نحو 96 ألفاً، وفي 2021 تم الإبلاغ عن أكثر من 123 ألف عبور فردي

- على رغم انخفاض عدد العابرين ارتفع عدد الضحايا، في 2021 توفي وفقد نحو 3231 شخصاً في البحر المتوسط وشمال غربي المحيط الأطلسي ارتفاعاً من 1881 في 2020، ونحو 1510 في 2019، و2227 في 2018.

Source: Table A.1. in Appendix, Italian Ministry of the Interior, 2017.

2023 العام الكارثي

ظن العالم أن الربع الأول من عام 2023 هو الأكثر دموية في أعداد الغرقى والمفقودين بين الآلاف التي تحاول عبور المتوسط. لكن الربع الثاني كان أكثر دموية. وما من مؤشرات تدل على أن الربعين الأخيرين سيكونان أفضل حالاً.

النصف الأول من 2023 سجل زيادة للمرة الأولى في أعداد العابرين نحو أوروبا منذ عام 2017. فبين شهري يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران)، مات ما لا يقل عن 1874 شخصاً.

هذا العدد على رغم ضخامته المروعة، إلا أنه أقل بكثير من الأعداد الحقيقية للمفقودين الذين لا يُستدل على جثامينهم، بل وأحياناً لا تكون أسماؤهم ومسارات هجرتهم مدونة من الأصل.

مهاجرو المراكب... في البدء كانوا فيتناميين

الاستخدام الأول لمصطلح "مهاجرو المراكب" أو "ناس المراكب" يعود لعام 1975، وهو عام نهاية حرب فيتنام.

آلاف الفيتناميين فروا بحراً عقب انهيار حكومة فيتنام الجنوبية. وبحسب النظام الجديد في جمهورية فيتنام، كانت مغادرة البلاد من دون إذن خرقاً للقانون.

تقدير عدد "مهاجري المراكب" الفيتناميين يتراوح بين 800 ألف ومليون ونصف المليون شخص. نسبة كبيرة منهم، لا تقل عن 10 في المئة، قضت غرقاً أو قتلاً. الكثيرون ماتوا جوعاً وعطشاً، أو راحوا ضحية القراصنة، أو بسبب الزحام الشديد على متن المراكب الصغيرة.

نحو 62 ألف فيتنامي كانوا قد لجؤوا إلى دول جنوب شرقي آسيا بحلول 1978، وارتفع الرقم إلى 350 ألفاً في منتصف 1979.

في البداية، كانت الدول القريبة من فيتنام ترحب بالمهاجرين وتمنحهم صفة اللجوء، لكن في السنوات اللاحقة ومع زيادة الأعداد، تحولت سياسة التعامل مع المهاجرين في هذه الدول من مرحبة إلى متوجسة.

في عرض المتوسط الآن

أحداث إقليمية كبرى عصفت – وما زالت – بالمنطقة العربية وأفريقيا والشرق الأوسط تجعل من الهجرة عبر المتوسط المسار الأكبر والأشهر والأكثر خطورة في العالم اليوم.

تتعدد الأسباب وأحياناً تتجمع وتتشابك، والمراكب واحدة. عوامل الهجرة عبر مراكب المتوسط لا تقتصر على تشرد الملايين أو تعرضهم للخطر والفزع والضرر جراء النزاعات، كما الحال في سوريا واليمن وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وجنوب السودان والسودان وإثيوبيا، والفقر والبطالة وشح الفرص في نيجريا وغينيا وساحل العاج وغامبيا والسنغال ومالي وجيبوتي وإريتريا، يضاف ذلك إلى الضغوط الاقتصادية الآخذة في التفاقم ما يزيد الرغبة الجامحة في حياة أفضل كما في مصر وتونس والمغرب.

مهاجرو المراكب عبر المتوسط لا يقتصرون على سكان جنوب المتوسط أو الجنسيات العربية أو الأفريقية فقط. فهؤلاء باتوا من جنسيات مختلفة يقطعون آلاف الأميال براً وكذلك بحراً للوصول إلى إحدى دول جنوب المتوسط، لا سيما ليبيا وتونس وإلى حد ما مصر، للانطلاق منها صوب أوروبا. أغلب هؤلاء يأتون من بنغلاديش وباكستان والهند وأفغانستان.

مركب صيد في اتجاه الجنة أو الآخرة

مراكب الصيد الخشبية لم تكن في العقود القليلة الماضية من الصناعات اليدوية ذائعة الصيت والانتشار. ظل اسمها مقروناً بصفة "الاندثار" سنوات طويلة. وفجأة، دبت الحياة في الحرفة المندثرة.

من تونس والمغرب إلى ليبيا وكذلك مصر، تشهد صناعة المراكب أو القوارب الخشبية صحوة كبيرة. كما يشهد ترميم القديم والمتهالك منها انتعاشة غريبة.

انتعاش مسار الهجرة غير النظامية عبر المتوسط بث الحياة في صناعة ظن الجميع أنها انتهت.

ورش بدائية تنشط بعيداً من الأعين، ومراكب متهالكة يجري ترميمها ولو شكلياً أملاً وطمعاً في المكسب الكبير لبيعها لوسطاء الوسطاء.

حرفي سوري يعمل في بناء قارب من خشب (أ ف ب)

حرفي سوري يعمل في بناء قارب من خشب (أ ف ب)

صيادو سمك يعملون في بناء قارب من خشب في تونس (أ ف ب)

صيادو سمك يعملون في بناء قارب من خشب في تونس (أ ف ب)

حراس حدود ليبيون ينقذون 35 مهاجراً حاولوا العبور إلى أوروبا في يوليو 2017 (أ ف ب)

حراس حدود ليبيون ينقذون 35 مهاجراً حاولوا العبور إلى أوروبا في يوليو 2017 (أ ف ب)

السمسار ووسطاء الوسطاء

وسطاء الوسطاء هم مجموعات مغلقة على نفسها من السماسرة من جنسيات متعددة. البعض يعتبرهم تجار بشر، وأصحاب الشأن، أي الراغبين في الهجرة، ينظرون إليهم على أنهم المخلصون والمنقذون من براثن الفقر أو مخالب الحرب أو كليهما.

وأحياناً يكونون "الملائكة" القادرة على تنفيذ حلم الهجرة صوب الشمال. إنه حلم الثراء والرخاء والرفاه، أو حتى حلم الانتقال من وضعية ميت بقلب ينبض إلى خانة "على قيد الحياة".

حلقة سماسرة الهجرة غير النظامية تبدأ بشخص يعرف شباب القرية أو الحي أو المدينة الصغيرة وأطفالها. بحرص بالغ يروج لمحاسن الهجرة غير الشرعية. قصص النجاح الملهمة التي حققها من عبروا في سنوات سابقة لها مفعول السحر.

السمسار الصغير في القرية يؤدي إلى سمسار متوسط في "المخزن" وآخر أو آخرين أكبر في مراحل التحميل والوصول حال تحققه.

كلفة الهجرة غير الشرعية من جنوب المتوسط إلى شماله تقدر بنحو 4500 دولار أميركي، لا ترد في حالة الغرق أو تستبدل في حالة الفقدان.

الرحلة من البيت إلى البحر

يتم الاتفاق على نقطة يتجمع فيها شباب وأطفال القرية أو الحي وتكون سرية. يتم نقل المجموعة عبر سيارة نقل أو ميكروباص في اتجاه المخزن.

عادةً يكون المخزن مصنعاً صغيراً أو مزرعة أو بيتاً مهجوراً قريباً من البحر، ويتم تحصيل مبالغ مالية عن كل "رأس" يتم تخزينها لمصلحة مالك المكان.

وتتراوح مدد إقامة المهاجرين في المخزن بين بضعة أيام إلى بضعة شهور بحسب الظروف الأمنية والأحوال الجوية وأجواء الترتيب والتنظيم.

في اللحظة صفر، التي لا يتم إخبار المهاجرين بها إلا في حينها، يتم تحميلهم على متن زوارق مطاطية تنقلهم إلى مركب الصيد الخشبي المنتظر على بعد بضع كيلومترات من الساحل سواء في مصر أو ليبيا أو تونس أو المغرب.

المهاجرون الآتون من دول أفريقية أو آسيوية يبدأون رحلة الهجرة بمساعدة سماسرة إضافيين حيث التجهيز للعبور البري الصعب وأحياناً الجوي المكلف إلى دولة الانطلاق على ساحل المتوسط. 

من أفريقيا إلى أوروبا رأساً أو غرقاً

هجرة سكان شمال أفريقيا إلى بلدان خارج القارة عبر المتوسط أعلى بكثير من انتقالهم إلى دول أخرى في أفريقيا نفسها. كما انضمت إليهم في السنوات الـ10 الماضية جنسيات أخرى من أفغانستان وباكستان والهند وبنغلاديش وغيرها.

مسارات عدة يمنحها – وأحياناً يبتلعها – المتوسط، أبرزها:

من الجانب الغربي لجنوب المتوسط (المغرب) صوب إسبانيا
من الوسط (ليبيا وتونس) صوب إيطاليا لا سيما مدينة لامبيدوزا

مسار إسبانيا كان المفضل على مدار سنوات طويلة، لكن التعاون بين إسبانيا والمغرب أدى إلى تقليص عدد المهاجرين.

موجات الهجرة غير النظامية لآلاف السوريين عقب تفجر الأحداث في سوريا تزامناً مع سقوط نظام الرئيس الليبي السابق الراحل معمر القذافي وشيوع الفوضى في ليبيا ورياح ما يسمى بـ"الربيع العربي"، أدت إلى تسيّد مسار الهجرة غير الشرعية المتوجه إلى إيطاليا. كما أنه المسار المفضل لدى المهاجرين من دول أفريقية وآسيوية عدة.

للهجرة والغرق وجه طفولي

نحو 11600 طفل، أي ما يعادل 428 طفلاً أسبوعياً، وصلوا إلى شواطئ إيطاليا آتين من شمال أفريقيا منذ مطلع العام الحالي 2023. هذا العدد يمثل زيادة بمقدار الضعفين مقارنةً مع الفترة نفسها من عام 2022.

يغادر أغلب الأطفال من ليبيا وتونس بعد رحلات بالغة الخطورة من بلدانهم في جميع أنحاء أفريقيا وشمالها العربي.

ما لا يقل عن 289 طفلاً توفوا أو فُقدوا في 2023 الذي لم ينتهِ بعد، أثناء سعيهم للهجرة عبر طريق وسط البحر الأبيض المتوسط من شمال أفريقيا إلى أوروبا. بمعنى آخر، نحو 11 طفلاً يلقون حتفهم أو يُفقدون في كل أسبوع أثناء سعيهم، أو سعي ذويهم من خلالهم، للتمتع بالأمان والسلام والحصول على فرص أفضل.

منذ عام 2018، لقي 1500 طفل حتفهم أو باتوا في عداد المفقودين في مسار الهجرة ذاته. ويعادل هذا الرقم واحداً من كل خمسة مهاجرين توفوا أو فقدوا أثناء محاولة العبور.

هذه هي الأعداد الموثقة، أما الأعداد الفعلية فتفوقها بمراحل. العديد من حوادث تحطم القوارب وغرقها والتي لا ينجو فيها أحد لا يتم تسجيلها، ولا يعلم بها إلا السمسار وأهل المهاجر.

في أغلب حالات فقدان الأطفال يتكتم الأهل على ما جرى خوفاً من المحاسبة. البعض من الأهالي يدفع بالابن التالي في محاولة جديدة، إما صابت أو خابت. وبينهم من يحاول أن يقايض السمسار ووسطاء الوسطاء من منطلق استبدال البضاعة التالفة. السمسار من جهته يرفع راية "البضاعة المباعة لا ترد أو تستبدل"، حتى لو كانت "البضاعة" طفلاً.

المنظمات الأممية والحقوقية تدفع في اتجاه السماح للأطفال باللجوء الفوري والحصول على الأمان والفرص التي جاؤوا من أجلها. الأنظمة والأحزاب السياسية الأوروبية تختلف في مواقفها تجاه الأطفال المهاجرين بشكل عام.

الملاحظ أن أغلب الدول الأوروبية، وهي دول المقصد، تحولت من درجات الترحيب وفتح الأبواب المتباينة إلى درجات التضييق وصد الأبواب المختلفة، بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا.

صبي صغير ينزل من قارب إلى مالطا بعدما أنقذ ومجموعة مهاجرين آخرين في عام 2014 (أ ف ب)

صبي صغير ينزل من قارب إلى مالطا بعدما أنقذ ومجموعة مهاجرين آخرين في عام 2014 (أ ف ب)

ألمانيا الحلم وإيطاليا القبلة

بلغ عدد اللاجئين المسجلين في ألمانيا حتى نهاية 2022 رقماً قياسياً جديداً إذ تجاوز ثلاثة ملايين لاجئ، ثلثهم أوكرانيون يليهم السوريون.

وفيما تم قبول أغلب طلبات اللجوء المقدمة خلال 2022، تم إلزام 255 ألف شخص على المغادرة بعد رفض طلباتهم، علماً أن عدد طالبي اللجوء في ألمانيا سجل رقماً قياسياً في العام المذكور، إذ بلغ 1.14 مليون طلب.

أما إيطاليا فظلت القبلة المثالية لآلاف المهاجرين غير النظاميين على مدار سنوات. ففي عام 2014، ألغت إيطاليا عقوبة الهجرة غير الشرعية وجعلتها جريمة إدارية وليست جنائية.

"ليونة" القوانين الإيطالية المختصة بالهجرة مقارنةً بدول متوسطية أوروبية أخرى جعلتها الأكثر استقبالاً لمراكب المهاجرين غير النظاميين.

غير أن صعود التيار اليميني في إيطاليا انعكس فوراً على ملف الهجرة، وهو ما يحدث في أي دولة ترجح فيها الكفة لليمينيين. فقد وصل الأمر بروما إلى فرض حالة الطوارئ في عموم البلاد في أبريل (نيسان) الماضي لمدة ستة أشهر لـ"مواجهة أزمة الهجرة غير النظامية المتدفقة على الحدود".

إيطاليا والأطفال

على رغم توجه القوانين والسياسات الإيطالية صوب تحجيم ومواجهة وتقليص الهجرة غير النظامية إليها، تظل إيطاليا قبلة رئيسة للمهاجرين، لا سيما الأطفال.

المراكب التي تقل مهاجرين غير شرعيين إلى إيطاليا إما يتم اعتراضها في البحر من قبل السلطات الإيطالية، أو ترسو على شواطئها.

في الحالة الأولى، تدون الشرطة أسماء المهاجرين ومن ثم تتحقق من أعمار المشكوك في أنهم قصر، فإن ثبت ذلك تتخذ إجراءات الحماية ويتم إيداع الأطفال في دار رعاية إلى أن يبلغوا 18 سنة.

الطفل المقيم في دار رعاية في إيطاليا يعتبر نفسه محظوظاً وتحتفل أسرته بهذا الإيداع لأنه يضمن له إقامة في إيطاليا بعد خروجه عقب إكمال سن الـ18.

في هذا المكان، يعلم الصغار اللغة الإيطالية وربما حرفة وبعض المهارات. لكن ما لا يعلمه الولد وأهله أن العمل في إيطاليا ليس مضموناً أو مربحاً أو سهلاً، فغالباً ما تكون ظروف العمل بالغة الصعوبة والمقابل المادي بالغ التدني.

قصص الأطفال المصريين الذين "نجحوا" في الوصول إلى إيطاليا وأودعوا دور الرعاية كثيرة، حتى أن بعضهم لا يزيد عمره على 11 سنة.

وأغلب هؤلاء يشعر بالحاجة الملحة للعمل لمساعدة أهله على سداد ديون تكبدوها من أجل تسفيره. لذا يحاول بعضهم الهرب من الدار للبحث عن عمل. وإن نجح في الهروب وحصل على عمل، فإنه يكون عملاً غير رسمي وغير مجدٍ مادياً، ويسمى بـ"العمل الأسود".

وفي حال لم يتم اعتراض المركب ووصل المهاجرون إلى مقصدهم حيث سمسار التشغيل، يتعرض الأطفال لأحد احتمالين، إما الوصول إلى أقاربهم أو معارفهم الذين يتولون شؤونهم، أو يقعوا ضحية الاستغلال بأشكاله، بدءاً بالحياة على الهامش بحكم عدم قانونية الإقامة، ومروراً بظروف العمل بالغة القسوة، وانتهاءً بالاستغلال الجنسي.

مصطلحات الهجرة

لاجئ

شخص يحتاج للحماية ولا يمكنه العودة إلى بلده الأصلي خوفاً من التعرض للاضطهاد أو العنف أو بسبب ظروف أخرى أخلّت بالنظام العام بشكل كبير.

المهاجر

شخص ينتقل من مكان إلى آخر لأسباب مختلفة تتراوح بين الضغوط الاقتصادية أو التضييقات السياسية أو القيود الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو غيرها.

الأطفال غير المصحوبين

الذين انفصلوا عن الوالدين ولا تتم رعايتهم من قبل الكبار الذين بحكم القانون أو العرف هم مسؤولون عنهم.

الأطفال المنفصلون عن ذويهم

الذين انفصلوا عن الوالدين أو الرعاية الأولية القانونية أو العرفية.

دولة المنشأ

الدولة التي نشأ فيها المهاجر أو طالب اللجوء.

دولة المقصد

الدولة التي يعتزم المهاجر أن يعيش أو يعمل فيها.

ممر الهجرة

مسار الهجرة بين دولتين توجد بينهما صلات هجرة منتظمة.

تهريب المهاجرين

النقل غير المصرح به لشخص ما بموافقته عبر الحدود إلى دولة ليس مواطناً أو مقيماً فيها. وعلى عكس الإتجار، لا يشمل التهريب عنصري الاستغلال أو الإكراه.

 

معاً "ضد" قوارب الهجرة

تشهد منطقة المتوسط حراكاً ملحوظاً في ملف مهاجري المراكب. دول الشمال تدفع لوقف إبحار القوارب من دول جنوب المتوسط، وهذه الأخيرة إما غير قادرة على السيطرة الكاملة أو تبحث عما يتيح لها هذه السيطرة.

اجتماعات واتفاقات ومعاهدات متواترة تجري حالياً بين دول المنشأ ودول المقصد. مساعدات مالية يجري تقديمها من دول الشمال أو الاتحاد الأوروبي لدول الجنوب، وأبرزها تونس، من أجل تعزيز قدراتها على مكافحة الهجرة غير النظامية عبر المتو سط.

هذه الاتفاقات تنص ببساطة على دفع المال في مقابل منع الهجرة من المنشأ. وهذا يعني ترك آلاف المهاجرين في الصحراء في طريقهم من دول أفريقية إلى إحدى دول جنوب المتوسط استعداداً لركوب البحر، أو استمرار احتجازهم في هذه الدول، أو إعادتهم من حيث قدموا.

هذه الاتفاقات تحوي أحياناً بنوداً تتعلق بتنمية المجتمعات المحلية التي تصدر المهاجرين، وذلك على سبيل حل المشكلة جذرياً، ولكنها تبقى دائماً قاصرة وقصيرة النظر وبعيدة من الاستدامة.

رجال ونساء السياسة والأمن يثمنون هذه الاتفاقات ويعتبرونها شراكة سياسية وأمنية "تكافح" الهجرة غير النظامية. خبراء الاجتماع والهجرة والتنمية يعتبرونها اختزالاً أمنياً يكبح جماح الهجرة بصرامة وربما بعنف، مع بقاء الأحوال والظروف المتسببة في الهجرة على حالها.

حق أم منة أم ليسوا منا؟

اللجوء حق مكفول في كل القوانين والأعراف الدولية لا سيما اتفاقية عام 1951 والبروتوكول المكمل لها في عام 1967 وغيرهما من القوانين الضامنة لحق الإنسان في اللجوء والهجرة.

لكن حق وقدرة وسعة صدر الدول المستقبلة للمهاجرين وطالبي اللجوء تصل إلى نقطة التشبع حين تحتدم موجات الهجرة وتتواتر بسرعات تفوق قدرة الدول والشعوب المستقبلة على الاستيعاب، لذا يعتبر البعض اللجوء "منة" من الدول المستقبلة.

منطقة جنوب المتوسط والمناطق المجاورة واقعة في سلسلة من الصراعات التي تكاد لا تتوقف، وتفجّر أوبئة، وأزمات مناخ ضارية تلوّح بالجفاف والجوع والخراب.

ومنطقة شمال المتوسط وما حولها تشهد صعوداً لأحزاب وتيارات اليمين المتطرف المعادي للأجانب، لا سيما أولئك الآتين من دول وثقافات وأعراق بعينها يشكلون أغلب النازحين واللاجئين.

خبير دراسات السكان والهجرة المصري أيمن زهري يقول إن اللجوء حق مكفول في كل القوانين والأعراف الدولية لا سيما اتفاقية 1951 الخاصة بالحرب العالمية الثانية، وبروتوكول 1967 المكمل لها والذي عدّل تعريف اللاجئين ليشمل كل الجنسيات من جميع أنحاء العالم. وهذا يعني بحسب زهري، أن ملف الهجرة واللجوء يدار من منظور غربي حتى اللحظة.

ويقول الخبير إن الحلول الدائمة لمشكلة اللاجئين تكمن في ثلاثة مفاتيح رئيسة هي: في حال كان اللجوء لظرف طارئ فيمكن عودة النازح أو اللاجئ إلى بلده مع زوال الظرف الطارئ، والثاني هو التوطين في البلد الذي نزح إليه، والثالث هو نقل النازح أو طالب اللجوء إلى دولة ثالثة.

الحل الأول غير وارد حالياً في أغلب الأوضاع، إذ إن أغلب الصراعات أمدها طويل، وأغلب النازحين وطالبي اللجوء تطول مدة إقامتهم في البلد الذي نزحوا إليه. فكلما طال أمد الإقامة، تصعب العودة.

الحل الثاني هو منح النازح أو طالب اللجوء جنسية الدولة التي لجأ إليها، وقد أصبح ذلك أمراً نادر الحدوث.

أما الحل الثالث يتم في أضيق الحدود، ولا تزيد أعداد من تمت إعادة توطينهم في دولة ثالثة على أربعة آلاف شخص على مدار سنوات.

لا يعتقد زهري أن صعود تيارات اليمين في العديد من الدول الأوروبية سبب رئيسي في تغير "المواقف الإنسانية والحقوقية" تجاه اللاجئين. بل يرجح كفة "اختيار" المهاجرين أو اللاجئين الجدد، ويقول "نستقبل من: البيض أم السود؟ المسلمين أم المسيحيين؟ لذلك بدا اللاجئون الأوكرانيون جاهزين لنزول الملعب".

ويقول إن الهجرة في نهاية الأمر يتلاعب بها السياسيون ويحسمها الاقتصاد، وأحياناً يميل البعض إلى عدم استقبال "من ليسوا منا". ويضيف، "الاقتصاد هو الذي يحدد من يدخل ومن يبقى على الأبواب ومن تتم إعادته فوراً أو يُترك ليغرق في البحر. السياسي نفسه قصير وينتظر الانتخابات المقبلة. أما الاقتصاد فيحتاج استقراراً واستدامة وحسن اختيار الأصول والموارد والعمالة الرخيصة".

 

كتابة
أمينة خيري

تحرير وإعداد
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
عمر المصري

الإشراف على التنفيذ
نوف الحربي

رئيس التحرير
عضوان الأحمري