Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البنزين بين إيران وفنزويلا

هناك دروس كثيرة يمكن لدول الخليج الاستفادة منها

ناقلة النفط الإيرانية "فورتشن" على السواحل الفنزويلية (تويتر)

وصلت أولى حاملات البنزين الإيرانية إلى المياه الفنزويلية أول من أمس، تليها أربع ناقلات أخرى. واستغرب البعض كيف استطاعت إيران إيصال هذه الشحنات إلى الطرف الآخر من العالم على الرغم من وجود حصار اقتصادي على طهران... وعلى فنزويلا أيضاً. ويتّضح ممّا كُتب، بخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي عن الموضوع، أن هناك جهلاً مركباً: قانونياً-اقتصادياً-سياسياً-تاريخياً! 

موضوع إيران وفنزويلا ليس موضوع خبر، أو نقل خبر، أو التعبير عن رأي. الموضوع موضوع دراسات وأبحاث متخصّصة تستغرق سنوات. حتى مقالات الرأي، يجب أن تكون نتيجة أبحاث وتجارب، وليس مجرد فرصة لذكر رأي ما، من دون بحث وخبرات.

ولعلّ أهم ما في الأمر، من وجهة نظري، هو: كيف انتقلت فنزويلا من دولة غنية إلى دولة فقيرة يأكل بعض سكانها القطط والكلاب كي يعيشوا، من دون وجود أي حرب؟ كيف تحوّلت دولة تتمتّع بأعلى احتياطات للنفط في العالم إلى دولة تستجدي البنزين؟ وكيف تحوّلت شركة النفط الفنزويلية من شركة عملاقة إلى قزم لا يستطيع حتى تشغيل مصفاة واحدة؟ والأهم من ذلك كله، كيف تحوّلت إيران من بلد يعتمد بشكل شبه كبير على واردات البنزين إلى دولة مصدّرة للبنزين؟ هناك دروس كثيرة يمكن لدول الخليج الاستفادة منها، سأذكر بعضها في هذا المقال.

نظرة تاريخية

-  منذ حوالى 15 عاماً، في بداية 2006 تحديداً، كتبتُ مقالاً في "الاقتصادية" بعنوان "درس من عام 2005: حرّروا أسعار البنزين"، طالبت فيه برفع الدعم عن أسعار البنزين قبل حلول كارثة، لأن الدعم الحكومي لأسعار السلع مصيبة اقتصادية، لها عواقب سيئة، نرى بعض آثارها الآن في فنزويلا، التي كانت تتمتّع بالسعر الأدنى للبنزين في العالم. ثم كرّرتُ هذا المطلب في مقالات لاحقة عدّة حتى أُلغي أو خُفّض الدعم في غالبية الدول الخليجية، فتوقّف ذلك النوع من المقالات. لو فعلت فنزويلا ما فعلته الحكومات الخليجية، لما كانت تعاني من أزمة بنزين خانقة. فقد انتقلت من كونها صاحبة أرخص بنزين في العالم، إلى واحدة من الأعلى سعراً في العالم. كان البنزين الفنزويلي الرخيص يُهرَّب إلى الدول المجاورة، فانتعشت عصابات التهريب وجيوب المسؤولين الذين غضّوا الطرف عن هذه العمليات. فتفاقمت خسائر شركة النفط الفنزويلية التي صارت تدعم البنزين داخل البلاد وخارجها لأنها كانت تبيعه بأقلّ من تكلفة إنتاجه.

الدرس هنا: دعم أسعار البنزين مشكلة أكبر مِمّا يتوقّع المواطن، ويحتاج إلى حلول صارمة لإنقاذ البلد من الهاوية.

-  ومنذ حوالى 11 سنة، وفي الأول من مايو (أيار) عام 2009، نشرت "الاقتصادية" مقالاً لي بعنوان "نقطة ضعف إيران: البنزين!"، ذكرتُ فيه أن طهران من أكبر مستوردي البنزين في العالم، وأنها مقبلة على أزمة خانقة: "ستعاني إيران أزمة بنزين خانقة إذا تم تشديد عقوبات مجلس الأمن الدولي بحيث تشمل هذه العقوبات منع تصدير البنزين إلى إيران، أو إذا قامت الولايات المتحدة بالضغط على الدول المصدّرة للبنزين بوقف صادراتها لإيران، أو في حالة شنّ هجوم أميركي على إيران!". تلته مقالات أخرى تتحدث عن عمق الأزمة، ثم مطالبة بعض أعضاء مجلس الشيوخ بفرض حظر على صادرات البنزين إلى إيران. طهران كانت تعاني من أزمة بنزين شبيهة إلى حدّ ما بما يحصل في فنزويلا، إلّا أنّ خوف النظام من فرض "حظر بنزيني" يهدّد مستقبله، جعله يتبنّى سياسات صارمة نتج منها التحوّل من دولة مستوردة للبنزين إلى دولة مصدّرة له. أجبر الرئيس الإيراني وقتها محمود أحمدي نجاد، وبدعم كامل من النظام، سيارات الأجرة وغيرها في المدن على التحوّل من البنزين إلى الغاز المضغوط، أسوةً بما فعلته العاصمة الهندية نيودلهي وقتها. ثم قُنّن صرف البنزين عبر إصدار بطاقات لكل السائقين لا تسمح لهم بشراء البنزين المدعوم حكومياً إلّا بكميات محددة. ومن يريد أن يحصل على كميات أكثر، عليه أن يدفع سعراً أعلى أو يلجأ إلى السوق السوداء حيث كانت الأسعار قريبة من السعر الأعلى الذي حدّدته الحكومة. حصل ذلك خلال فترة بسيطة من الزمن، وما سهّل الأمر هو وفرة الغاز في إيران. ثم اعتُمدت سياسة بناء مصافٍ بسيطة للحصول على البنزين، وحصل ذلك أيضاً. واستطاعت الحكومة تفادي كارثة اقتصادية وسياسية. بشكل عام، الحصول على البنزين من النفط الخفيف سهل جداً، ولا يحتاج إلى مصافٍ معقّدة. حتى الأشخاص العاديين، إضافةً إلى "داعش" وغيرها كانوا يحصلون على البنزين بطرق بدائية للتكرير في كل من سوريا والعراق. توافر الغاز والنفط الخفيف مع الخوف من سقوط النظام مكّنا طهران من النجاح في تحويل إيران من مستورد للبنزين إلى مصدّر له.

الدرس هنا: عندما يتهدّد مصير النظام، علينا أن لا نستغرب قيامه بما يضمن صموده، حتى لو قال الخبراء إن ذلك صعب للغاية أو مستحيل.

-  كانت فنزويلا محلّ اهتمام لبحوثي منذ بداية التسعينيات وحتى الآن. وكان أول مقال كتبتُه عن النفط الفنزويلي باللغة العربية عام 1998. وفي بداية عام 2002، كتبتُ مقالات عدّة عن إضراب عمال النفط في فنزويلا وأثر ذلك في أسواق النفط العالمية. وفي مارس 2002، كتبتُ مقالاً في جريدة "الوطن السعودية" بعنوان "في الوقت الذي يتم فيه تهديد العراق، التغيير قد يحصل في فنزويلا!" توقّعتُ فيه أن تنظّم الولايات المتحدة انقلاباً ضد الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز. ومِمَّا ورد في ذلك المقال: "أميركا ناقمة على تشافيز لأنه غيّر المعادلة السياسية في أميركا اللاتينية، وغاضبة لأنه يثير الرأي العام في المنطقة ضدها، وثائرة لأنه يدعم الثوار الكولومبيين الذين تحاربهم واشنطن مع بوغوتا وتكاد تجنّ بسبب زيارته لكل من إيران وليبيا والعراق وكوبا. أميركا لا تريد أن ترى غيفارا آخر في المنطقة، ولا تريد استنساخ كاسترو جديد. وفهم تشافيز اللعبة، فناور وشاور وأخذ وأعطى، و"بلعت" أميركا المقلب حين اكتشفت أنه خلال تلك الفترة قد "طيّر" أعوانها من الجيش ومن شركة النفط الفنزويلية". 

وحصل انقلاب عسكري مدعوم أميركياً بعد شهر تقريباً من كتابة المقال، إلّا أن تشافيز عاد إلى السلطة بعد ثلاثة أيام نتيجة فشل الانقلاب. صفّى حساباته مع العمال المضربين الذين شاركوا في الانقلاب ضده، فطرد غالبيتهم وتم "حشو" شركة النفط الفنزويلية بموظفين من أتباع النظام بغض النظر عن مؤهلاتهم، وكانت تلك الخطة بداية سقوط هذا الصرح الضخم. 

موافقة الولايات المتحدة على عودة تشافيز وقتها كانت على خلفية اعتمادها الكبير على النفط الفنزويلي. وقد عانت المصافي الأميركية كثيراً عندما أضرب العمال قبل الانقلاب. الأمر الآن مختلف تماماً بسبب ثورة النفط الصخري من جهة، والحظر النفطي على واردات النفط الفنزويلي من جهة أخرى.

هناك دروس اقتصادية وسياسية عدّة من هذه التجربة. أهمها أنه يجب إبعاد شركات النفط الوطنية عن السياسة، وأن شركات النفط الوطنية بحاجة إلى الكفاءات والمهارات بناء على قدراتهم وليس على ولائهم السياسي. والدرس السياسي الذي لم تستوعبه الولايات المتحدة هو أنه لا يمكن الثقة بالمعارضة الفنزويلية، التي فشلت في انقلابات متتالية عدّة، حتى يومنا هذا، وبدأت بعض الفئات الشعبية تفقد الثقة بها.   

ومن الدروس التاريخية أن علاقة فنزويلا بالنظام الإيراني قديمة وقوية، وليست وليدة الأحداث الأخيرة كما ظنّ البعض. وكانت حكومة تشافيز تنسّق مع طهران في دعم النظام السوري بالنفط والبنزين! نعم، كانت كراكاس تقدم المحروقات للنظام السوري مجاناً... كما فعلت في فترة من الفترات مجاناً لسكان ولاية نيو جيرسي... تحدياً للحكومة الأميركية! تأمين الوقود بالمجان "تحدياً" يدلّ على العقلية التي يجب أن يتجنّبها أي إنسان، لذلك لا غرابة في ما وصلت إليه فنزويلا اليوم.

انهيار شركة النفط الفنزويلية سببه تسييس الشركة وقطاع النفط، إذ سُرّح المهندسون والموظفون الأكفاء المعارضون لتشافيز، فذهبوا إلى بلاد أخرى استفادت من خبراتهم مثل دول الخليج والنرويج. وما النمو الذي شهده قطاع النفط الكولومبي إلّا بسبب توظيف الآلاف من الفنزويليين الذين هاجروا من بلادهم إلى الدولة المجاورة، كولومبيا. ونظراً إلى أنّهم وُظّفوا بعد تسريح العمال في 2002 من جماعة النظام، استمرت الشركة بالتدهور وفقدت جزءًا كبيراً من إنتاجها وقدرتها التكريرية، إلّا أنّ هناك أمراً أخر أسهم في انهيار شركة النفط الفنزويلية: استمرت الحكومة في عصرها حتى لم يعد بإمكان الشركة الاستثمار في عمليات الصيانة، فساءت الأمور بشكل متسارع، جاءت بعدها العقوبات الأميركية التي زادت الطين بلّة. ولا يمكن إنكار دور العقوبات التي منعت وصول البنزين الطبيعي الذي كانت البلاد تستورده من الولايات المتحدة لمزجه مع النفط الثقيل، أو بعض المواد التي تُضاف إليه.

الدرس هنا: يجب أن تحتفظ شركة النفط الوطنية بجزء من عائدات النفط للتوسّع في عملياتها من جهة، والإنفاق على عمليات الصيانة من جهة أخرى.

ما الذي يحصل الآن؟

اجتمعت عوامل عدّة، ذُكر بعضها أعلاه، أدت إلى إغلاق المصافي الفنزويلية، الأمر الذي نتج منه شحّ كبير في إمدادات البنزين. وعلى الرغم من أن التسعير الحكومي يجعل المادة الأساسية في فنزويلا الأرخص في العالم، لا معنى لذلك إذا لم تكن متوافرة. الحل هو تهريبها من الدول المجاورة مثل كولومبيا والبرازيل، حيث سعرها مرتفع، ولن يحصل التهريب إلّا إذا ارتفعت أسعار المادة الحيوية في فنزويلا في السوق السوداء بشكل يعكس هذا الواقع، وهذا ما حصل، فتزايدت أسعاره بشكل كبير حتى وصلت إلى ما يعادل 7-15 ريالاً سعودياً للتر الواحد! ندرة البنزين وارتفاع أسعاره بهذا الشكل، شلّا الحركة في البلد، إلّا أنّ انتشار فيروس كورونا خفّف من حدّة الأزمة.  

الآن فنزويلا تبحث عن بلد تستورد منه البنزين، ولكن العقوبات الأميركية المفروضة عليها، تجعل الدول الأخرى غير راغبة في إمداد كراكاس بالبنزين. في الوقت ذاته، لدى إيران فائض بسبب زيادة الإنتاج من جهة، وانخفاض الطلب نتيجة كورونا من جهة أخرى، وهي الأخرى تعاني عقوبات أميركية عليها. أضف إلى ذلك العلاقات التاريخية بين النظامين وخبرة إيران في حلّ أزمة البنزين وخبرتها في التلاعب على العقوبات، فكان منطقياً أن تتعاون طهران مع فنزويلا في حلّ هذه المشكلة وربما غيرها. ما تقوم به إيران حالياً أكبر من موضوع إرسال خمس ناقلات نفط، إذ إنّ ذلك هو الحلّ على المدى القصير. ولكن على المدى المتوسط، تساعد طهران كراكاس على إعادة تشغيل مصافيها لحلّ مشكلة البنزين تماماً وذلك عن طريق تقديم المعدّات والأدوات والخبرات إليها بواسطة طائرات شحن ضخمة تنطلق في رحلات مباشرة من إيران إلى فنزويلا وتستغرق حوالى 15 ساعة. 

والعلاقات الإيرانية لا تقتصر على مجال النفط ولكن تمتد إلى مجالات أخرى. و"حزب الله" اللبناني ناشط في فنزويلا لدرجة أن الفنزويليين من أصل لبناني يضعون صور وأعلام الحزب على سياراتهم وفي محالهم التجارية.

هل تتدخل الولايات المتحدة؟

خرجت ناقلات البنزين الإيرانية من الخليج على مرأى من البحرية الأميركية في بحر العرب، وعبرت باب المندب على مرأى من الأميركيين، وأبحرت في البحر الأحمر كله، ثم عبرت قناة السويس، ودفعت رسوم القناة بالعملة الصعبة، وخرجت منها إلى البحر المتوسط على مرأى من الأسطول الأميركي المرابط هناك، ثم خرجت إلى المحيط الأطلسي، واتّخذت مساراً في المياه الدولية محاذياً لغرب أفريقيا، ثم انحرفت غرباً عندما صارت قبالة فنزويلا. وهناك إشاعات نشرها بعض المسؤوليين الإيرانيين مفادها بأنّ إرسال الناقلات تم بالتنسيق مع واشنطن، وهذا ممكن، بخاصة أن السفن، وعلى خلاف ما تفعل عادة، استمرت في بث أماكن وجودها طوال الرحلة. وعلى الرغم من أن المعارضة الفنزويلية أكدت أن استيراد البنزين من إيران يدلّ على سوء إدارة الرئيس مادورو، إلّا أنّها مقتنعة بأنه الحل الوحيد حالياً للتخفيف من الأزمة، على اعتبار أن استمرارها ليس في صالح أحد.

الفكرة هنا أنه كانت هناك فرص عدّة أمام الأميركيين للتدخل، ولم يتدخلوا. والحكومة المصرية حليفة للولايات المتحدة، ومع ذلك سمحت للسفن الإيرانية بالعبور لأسباب قانونية وسياسية. وهنا لا بد من التنويه أن العقوبات المفروضة على طهران هي عقوبات "أميركية" وليست "دولية" ولا تتبنّاها الأمم المتحدة، بل على العكس، فإنّ عدداً كبيراً من الدول الأوروبية والآسيوية تعارضها. هذه العقوبات الأميركية غير ملزمة لإيران، التي تستطيع أن تبيع وتصدّر كما تشاء. لهذا، لجأت حكومة ترمب إلى معاقبة المشترين، واستغلت السيطرة الأميركية على النظام المالي العالمي لمراقبة أي مدفوعات تذهب إلى طهران. وفي ظل محدودية العقوبات الأميركية، ليس هناك أي مشكلة قانونية في تصدير البنزين الإيراني إلى فنزويلا، أو مرورها في قناة السويس.

السؤال الأخير: ماذا تستفيد إيران من مساعدة فنزويلا؟

إيران بحاجة إلى أي إيرادات يمكنها الحصول عليها، ذهباً أو نقداً، وبأي عملة. ومن الواضح أن الطائرات الإيرانية التي تشحن المعدّات النفطية تعود محمّلةً بشيء ما. البعض يقول إن العائد ذهباً، وآخرون يقولون إنها مواد أخرى، والبعض الآخر أنه روبل روسي. ومن الواضح أن الحكومة الفنزويلية تتصرّف كالغريق، ومستعدّة لدفع أي ثمن لإنقاذها من الغرق، والإيرانيون يدركون ذلك ويجدون فيه فرصة تجارية نادرة. إلّا أنّ إنعاش قطاع النفط الفنزويلي يعني زيادة الإيرادات الحكومية، الأمر الذي يمكن أن يفتح سوقاً للبضائع الإيرانية في البلاد. فالمصلحة التجارية لطهران واضحة تماماً، حتى على المدَيَيْن المتوسط والطويل.

من الناحية السياسية، إيران تحتاج إلى أي شيء للتغطية على انتشار فيروس كورونا، ووصول السفن الخمس يعطيها ذلك، ليس أمام شعبها فقط، ولكن أمام كل داعميها في الدول المختلفة. إيران وداعميها سيستغلّون الموضوع وسيعتبرونه نصراً لهم وهزيمة للولايات المتحدة، مع أن كل الحمولة، مليون ونصف مليون برميل فقط.  

المزيد من آراء