على الرغم من أن أول تصريحاته التي أطلقها بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الإيرانية بأن بلاده لن تتفاوض مع أميركا في شأن برنامج الصواريخ الباليستية، أو حول الميليشيات التابعة لها في الشرق الأوسط، فإن رد البيت الأبيض كان واضحاً، وهو أن صاحب القرار الحقيقي في طهران هو المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، وهو ما يفسره بعض المراقبين بأن واشنطن تترقب الخطوة المقبلة التي يتوجب على المرشد الأعلى اتخاذها، وهي أن يختار المسار الذي ستنتهجه طهران في المستقبل، فإما أن يواصل المسار الحالي في السياسة الداخلية والخارجية، أو أن يستخدم فوز الرئيس الجديد كسبب ظاهري لتغيير المسار الذي تتبعه إيران حالياً، وخاصة أن خامنئي لا بد من أنه يشعر الآن بالثقة الكافية التي قد تجعله يدفع النظام في اتجاه جديد وهو مطمئن تماماً بأن الرئيس الجديد لن يكون بالتأكيد حصان طروادة في القصر الرئاسي، ولكنه جندي المشاة الذي اختاره بعناية.
مغزى تصريحات رئيسي
بدأت الاختبارات مبكراً بين النظام الإيراني والولايات المتحدة عقب الإعلان عن فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية، وقبل أن يتولى السلطة في أغسطس (آب) المقبل، فقد حاول رئيسي أن يبرز أنيابه ويظهر ولاءه للمرشد الأعلى علي خامنئي عبر إطلاق تصريحات شعبوية بأن إيران تحت حكمه لن تتفاوض حول برنامج الصواريخ الباليستية، أو في شأن الميليشيات التابعة لها في المنطقة، ليسارع البيت الأبيض إلى القول إن المرشد الأعلى في إيران لا يزال هو صانع القرار في البلاد، في محاولة لحسم التكهنات في شأن ما إذا كان الرئيس الجديد للبلاد يمكن أن يؤثر على المحادثات في شأن البرنامج النووي الإيراني وما يحيط بها من عناصر أخرى.
وعلى الرغم من اللهجة الحازمة التي استخدمها رئيسي في رفضه لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن، فإن تفسير ذلك يعود في جزء كبير منه، إلى افتقار الرئيس الجديد أي خلفية دبلوماسية، فقد كان رئيساً للسلطة القضائية منذ 18 شهراً ولم تكن لديه خبرة في الحكم أو السياسة بعد أن أمضى حياته المهنية في النظام القانوني كمُدّعٍ عام وقاضٍ.
كما أن تعهد رئيسي برفض التفاوض في شأن قضايا الصواريخ والميليشيات، والتي تقع خارج الاتفاقي النووي لعام 2015 لم يكن مفاجئاً، إذ إنه كان يردد المواقف التي اتخذها كمرشح وتتماشى مع آراء المرشد الأعلى للبلاد الذي يضع السياسات الرئيسة لإيران.
وبالنسبة للإدارة الأميركية، كان ما يسمى "انتخاب" إبراهيم رئيسي نتيجة متوقعة سلفاً، فقد كان واضحاً منذ البداية أن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي، اتخذ كل خطوة ممكنة للتأكد من فوز رئيسي الذي يعد أحد المقربين الأكثر ثقة بالنسبة له، لكن بينما كان خامنئي يقوم بهذه العملية، كشف من دون أن يدري عن تفاقم أزمتين قائمتين بالفعل تواجهان "الجمهورية الإسلامية".
عدم شعبية النظام
أولى هذه الأزمات أن الانتخابات أكدت بما لا يدع مجالاً للشك عدم شعبية النظام الإسلامي الحاكم في إيران، إذ كان من الواضح أن سلسلة الإجراءات التي أشرف عليها خامنئي لمنع العديد من المرشحين الطامحين من خوض انتخابات الرئاسة بمثابة دعوة للاستيقاظ لدى غالبية الشعب الإيراني، بل بين أنصار النظام السياسي الذين أصيب بعضهم بالذعر.
وليس أدل على ذلك من نسبة المشاركة الرسمية للناخبين، التي بلغت نحو 48 في المئة، على الرغم من أن الرقم الحقيقي قد يكون أقل بكثير، في وقت أشار فيه دليل آخر إلى حال الغضب والاستياء، وهو أن 4.2 مليون صوت من أصل 28.9 مليون أدلوا بأصواتهم، تركوا بطاقات الاقتراع خالية في تجاهل واضح لفتوى خامنئي بأن ترك بطاقات الاقتراع فارغة حرام شرعاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلاوة على ذلك، أظهرت نسبة المشاركة في العاصمة طهران، التي بلغت 26 في المئة فقط، أكبر قدر من الاحتجاج الصامت على سياسات النظام، فقد كانت أدنى نسبة إقبال على صناديق الانتخابات بشكل رسمي يجري تسجيلها منذ انطلاق الثورة الإسلامية عام 1979، كما أنها تقل بشكل كبير عن نسبة الإقبال على الانتخابات البرلمانية في العاصمة عام 2020، والتي بلغت 42.6 في المئة.
ولهذا، فإن الاتجاه المتزايد نحو مقاطعة الانتخابات الصورية التي يمكن فقط لعدد قليل من المرشحين المنتقين خوض الانتخابات حسب رضا وموافقة المرشد الأعلى، يشكل ما يرقى إلى أزمة شرعية خلقها خامنئي نفسه الذي يتردد في إلغاء الانتخابات تماماً حفاظاً على ادّعاء الديمقراطية الشكلية التي يمكن لأي مراقب أن يراها عملية مفضوحة وعارية.
مظلة النظام تضيق
أما الأزمة الثانية التي عمّقتها الانتخابات فتتمثل ليس فقط في إقصاء خامنئي المرشحين الإصلاحيين والمعتدلين في هذه الانتخابات، بل استبعد أيضاً العديد من الشخصيات البارزة الأخرى المحافظة التي لها سجل وتاريخ حافل داخل النظام الإيراني نفسه مثل علي لاريجاني رئيس البرلمان السابق، ومحمود أحمدي نجاد الرئيس السادس لإيران وغيرهما من الأشخاص الذين تم استبعادهم في هذه الدورة الانتخابية، والذين من المؤكد أن لديهم الآن أسباباً كثيرة للغضب والضغينة ضد النظام، ما يشير إلى أن المظلة الواسعة لـ"الجمهورية الإسلامية" التي كانت تضم في جنباتها الكثيرين، أصبحت تضيق بالفعل وتبدو أصغر حجماً مما كانت عليه في الماضي.
مسار جديد أم قديم؟
وعلى الرغم من أن إبراهيم رئيسي، البالغ من العمر 60 عاماً، هو أحد المقربين الأكثر ثقة لدى المرشد الأعلى يعادي التعامل مع الولايات المتحدة والدبلوماسية مع الغرب، إلا أنه من المحتمل بالنسبة إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن يكون هناك أمل واحد وسط الاحتمالات والمسارات الأخرى المظلمة، وهو أن خامنئي، بعد أن أشرف على نتيجة الانتخابات التي كان ينتظر نتيجتها بقدر كبير من الاطمئنان، قد يشعر الآن بالثقة الكافية لدفع النظام في اتجاه جديد.
ففي حين يستطيع خامنئي أن يختار المضي قدماً في المسار الحالي للسياسة الداخلية والخارجية الإيرانية، إلا أن بوسعه أيضاً استخدام فترة حكم إبراهيم رئيسي كسبب لتغيير المسار القديم، وبخاصة إذا اتفقت واشنطن وطهران على العودة للالتزام بالاتفاق النووي، وما قد يشجع خامنئي على ذلك أن رئيسي، بخلاف الرؤساء السابقين لن يكون بالتأكيد حصان طروادة في القصر الرئاسي، وإنما جندي المشاة الذي اختاره خامنئي بنفسه.
مصير الاتفاق النووي
ويبدو أن لدى الإدارة الأميركية إحساساً متزايداً بضرورة التوصل إلى صفقة في شأن الاتفاق النووي خلال ستة أسابيع من الآن قبل تنصيب رئيسي وفريقه الجديد من المتشددين، وهو أمر من شأنه أن يفيد حكومة رئيسي إذا بدأت ولايتها بالتزامن مع تخفيف العقوبات من خلال صفقة متجددة، فضلاً عن قدرتها على تحصيل مليارات الدولارات من الأموال الإيرانية المجمدة في الخارج، ومئات الملايين من عائدات النفط اليومية، وخاصة أن تحسين الاقتصاد وسبل عيش الناس كان أحد تعهدات حملة رئيسي.
ومع ذلك، فإن هناك تخوفات من أن التوصل إلى عودة الطرفين الأميركي والإيراني إلى الالتزام بالاتفاق النووي سينزع أي حافز لدى حكومة رئيسي للتفاوض حول الصواريخ والميليشيات حتى مع فرض تعهد الإيرانيين بذلك.
وستكون حكومة رئيسي مختلفة، وأكثر تشدداً من حكومة روحاني، فبينما أصرت إيران دائماً على أن قدراتها العسكرية ليست مطروحة للنقاش، إلا أن الرئيس الحالي حسن روحاني، أوضح أنه سيكون على استعداد للقاء أي شخص إذا كان ذلك مفيداً لبلاده، كما قال أيضاً إن المفاوضات الأوسع مع الولايات المتحدة يمكن أن تكون ممكنة تحت مظلة الاتفاق النووي بمجرد عودة الأميركيين إلى اتفاق 2015، الذي تخلى عنه الرئيس دونالد ترمب في 2018، ووصفه بأنه ضعيف للغاية قبل أن تفرض إدارته نحو 1600 عقوبة على إيران.
وثمة تعقيد إضافي يتمثل في أن رئيسي سيصبح أول رئيس إيراني في الخدمة تفرض عليه الحكومة الأميركية عقوبات حتى قبل توليه منصبه، بسبب فترة عمله كرئيس للقضاء الإيراني المنتقد دولياً، وهو وضع قد يعقد زيارات الدولة وخطبه في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة.