Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حمدي أبو جليل يروي تاريخ صحراء الفيوم وتحولاتها

رواية "يدي الحجرية" توثق عالم البدو وطقوسه الاجتماعية والثقافية

الروائي المصري حمدي أبو جليل (اندنبدنت عربية)

في روايته "يدي الحجرية" (الهيئة العامة للكتاب)، يعود الكاتب حمدي أبوجليل إلى جذوره البدوية مازجاً بين الرواية والسيرة الذاتية وبين خطين من التاريخ، أحدهما شخصي والآخر واقعي، ليرصد بدقة ملامح مجتمع البادية ويوثق العديد من التحولات الاجتماعية التي طرأت على "البدو"، والتي لم يطرق عوالمها، على ثرائها، كثير من الكتاب.

ومن عالم البادية حيث قبيلة الراوي التي استوطنت صحراء الفيوم ثم شريطها الخصب، انطلق الكاتب في رحلة أخرى إلى مدينة تولوز الفرنسية لينسج ثنائية سردية تجمع بين الشرق والغرب، ويزاوج بين جنوبين متضادين في الثقافة والحضارة متشابهين في طبائع الإنسان، وظل يتجول بين كلا الفضائين طوال رحلة السرد.

ثنائيات ومقارنات

ومثلما عدد الكاتب فضاءاته المكانية عدد كذلك أصوات السرد، فلم يكتف بصوت الراوي الذي بثه عبر أسلوب من السرد الذاتي، بل أفسح مجالاً آخر لصوت "مراية" الفرنسية وإن لم يتح لها المساحة ذاتها، وإنما كان حرصه الأكبر على رصد الأحداث في كل فضاءات السرد وفق رؤية الراوي والذي كان هو نفسه كاتب النص.

أما في ما يتعلق بالفضاء الزمني للأحداث، فقد تدفق السرد في إيقاع زمني غير منتظم قادته الشخوص وحددت وجهته، حيث فرضت كل شخصية خطاً زمنياً خاصاً بها. وهكذا تراوح الإيقاع بين لحظة راهنة وأخرى ماضية اقتنصها الكاتب بواسطة تقنيات الاسترجاع أو عبر استجلاء الذاكرة الجمعية، وما وثقته من تراث شفهي حول أحداث تنفتح على تاريخ شخصي وتاريخ عام.

وعبر تلك الثنائيات المتقابلة عقد الكاتب مقارنات ضمنية بين الماضي والحاضر الشرق والغرب، وأبرز تحيزاً ضمنياً تارة ومعلناً تارة أخرى إلى جانب بعض مظاهر الحضار الغربية، غير أنه لم يغفل انتقاد ما بها من مواطن العطب مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس والعرق واللون، وأبرز في المقابل عنصرية أخرى تنضح بها المجتمعات الشرقية، وتمييز على أساس الانتماء القبلي.

تاريخ "الرماح"

ينحدر الكاتب أو الراوي من قبيلة الرماح وهي البقية الباقية من واحدة من الهجرات الكبرى في التاريخ البشري، مما أتاح له الغوص في تاريخ موغل في القدم ليمرر عبر سرده حمولات معرفية كثيفة، اشتملت على قضايا وأحداث كبيرة لعب فيها أبناء قبيلته أدواراً تاريخية مفصلية فارقة.

تتبع أبو جليل أصول قبيلته التي تعود لشاب من بني سليم أحب فتاة من بني هلال، وانضم لتغريبتهم الشهيرة التي هاجرت إلى مصر واستقرت في شمال الصعيد خلال العصر الفاطمي، ثم هاجرت منها بإيعاز من الخليفة المستنصر بعد أن أشار عليه رجال بلاطه بالاستفادة من الطبيعة المحاربة للبدو في استعادة تونس من يد الخارج على الدولة الفاطمية المعز بن باديس، وبعد أن نجحوا في مهمتهم هاجروا إلى المغرب وعادوا بعد قرون للاستقرار في مصر مرة أخرى أثناء عهد محمد علي باشا.

ومن عهد محمد علي الذي شهد بداية إخضاع العربان وإرغامهم على الاعتراف بقوانين الدولة، واصل الكاتب تتبع سيرتهم وصراعاتهم التي بلغت أوجها في عهد سعيد باشا، والذي أقام فيهم مذبحته الشهيرة على غرار مذبحة جده للمماليك في القلعة، لكن مذبحة سعيد كانت انتقاماً لهزيمته من شباب وفرسان الرماح، فقتل من شيوخهم 40 شيخاً في بيت أم حليجة. "انطلق إلى ساحة المعركة وسط عاصفة من الزغاريد، فظن جيش سعيد أن الرماح جاءهم مدد من الغيطان والأحراش القريبة، وتشجع فرسان الرماح وهزموه وسقط سعيد من فوق حصانه وخاض في الغيطان والترع والمصارف حتى اختبأ في سراي أم حليجة" صـ 54.

ثم تطرق إلى دور القبيلة في إشعال ثورة 1919، إذ كان شبابها هم الشرارة الأولى للثورة بعد أن انتفضوا من أجل ابن عمهم وعمدتهم حمد باشا الباسل الذي نفته سلطة الاحتلال مع سعد زغلول إلى جزيرة مالطا.

ومن المتن إلى الحواشي تسلل الكاتب ليبرز تاريخاً مهملاً ومسكوتاً عنه من الاستعلاء والتعصب القبلي والثأر والدم السلب والنهب، وغيرها من الرذائل التي كانت معلماً أصيلاً من معالم البداوة، وسلوكاً وثيقاً بالقبائل البدوية وسبباً في إثارة القلاقل وزعزعة الاستقرار حتى بعد إخضاعهم ودمجهم في المجتمع الزراعي، إذ كانت خلافاتهم مع الحكومات المتعاقبة نتيجة استمرار قيامهم بأعمال السلب والنهب، واعتبارهم أن العمل بالزراعة أمر مشين لا يليق بالبدوي القيام به، حتى إن انتفاضتهم خلال ثورة 1919 قاموا خلالها بسرقة المصالح الحكومية والسكك الحديد وخطوط التليفونات.

الفلكلور البدوي

خلال رصده للتحولات الاجتماعية والتغيرات التي طرأت على العربان وتركهم حياة الرعي والترحال إلى الزراعة والاستقرار، اعتنى الكاتب بتوثيق كثير من العادات والطقوس والتقاليد القبلية، فرسم البيئة البدوية رسماً دقيقاً، والتقط كثيراً من تفاصيلها مثل ما يتعلق بالأواني والمساكن والأعراس والألعاب والاحتفالات والمآتم، وحتى الأشعار واللهجة، ليعبر عن رغبة ضمنية في توثيق تراث محلي ربما كان يخشى اندثاره.

وبالمثل حاول التقاط تفاصيل أخرى من الثقافة الغربية تتعلق بالمأكل والملبس والعادات وعمد إلى تفسيرها... "كدتُ أتقيأ على الناس بمجرد أن لمستُ صدر البطة وانبثق الدم، لا أعرف لماذا يأكلونها هكذا، مراية بررت الأمر بالميراث الدموي الروماني، فالعرب يأكلون بأيديهم والصينيون يأكلون بالعيدان الخشبية، بينما نحن نغز بل نطعن طعناً بالشوك والسكاكين". صـ 101.

وتعددت مستويات الصراع في البناء الروائي بين صراع خارجي كان قطباه البدو والحكومة المصرية تارة، وتارة أخرى بين البدو مع بعضهم بعضاً، إضافة إلى مستوى آخر من الصراع الداخلي الذي احتدم داخل الراوي مرات لينقسم بين قيمه ونوازعه البشرية الرديئة.

الاقتراب من "التابوهات"

اقترب الكاتب اقتراباً فلسفياً من كثير من "التابوهات" الجنسية والدينية، ووضع جوانب من الحضارتين الشرقية والغربية في موقف المراجعة، وذلك عبر سرد أحداث تبدو متشابهة ومتباينة في آن، فرصد قيام أجداده بمظاهرة ضد الإنجليز مطالبين بعودة ابن عمهم حمد الباسل من منفاه من دون أن يتوانى الثوار عن سرقة كل ما تطاله أيديهم، وفي المقابل اندلعت أول مظاهرة ضد الكنيسة في تولوز الفرنسية ووقعت على إثرها مجازر فظيعة، وأيضاً قيام ثورة الطلبة التي هتف فيها الثوار للحياة المشتركة والجنس المشترك، وهو ما لم يخف الكاتب انبهاره به.

وجسّد اقتراباً آخر من "التابوه" الديني بما عقده من مقارنات ضمنية بين الكنيسة التي حاكمت عالماً مثل غاليليو لقوله بكروية الأرض، وما يمنحه الفقه الإسلامي الرحب من فتاوى متعارضة "تنتج مسلماً حراً مثل نجيب محفوظ، ومسلماً إرهابياً مثل أسامة بن لادن " صـ 185.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد استدعى أبو جليل بعض الموروث الديني عبر تقنيات التناص المباشر وغير المباشر بما يتسق مع رؤاه، وإلى جانب الظلال الفلسفية أضفى ظلالاً سياسية على نسيجه الروائي، فاشتبك مع بعض القضايا السياسية لا سيما الدولية، مثل قضية تعاطف الرأي العام الغربي مع الكيان الإسرائيلي وانبهاره بالتجربة الإسرائيلية الذي صنعته الآلة الإعلامية المُضللة، وانهيار ذلك الانبهار على أعتاب الواقع.

استدعى الكاتب عبر النص قصائد من الشعر البدوي بما يتسق مع هدفه في توثيق تاريخ قبيلته، وما تناقل من أخبارها عبر التراث الشفهي، لا سيما وأن الشعر كان بمثابة الأداة الإعلامية الوحيدة للقبائل في الماضي، وقد أكسب المزج بين جنسي الرواية والشعر البناء جمالية وفرادة، وعبر تعبيراً حياً عن واقع فئة من فئات المجتمع المصري ذات خصوصية تاريخية جغرافية ديموغرافية وثقافية فريدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة