لا يُساسُ العربُ إلا بالنبوة (ابن خلدون).
حين رحل الإسلام في حقائب كثير من المستشرقين من العلماء المؤرخين واللسانيين والمترجمين والنقاد، ومهما كانت النوايا، فقد رحل هذا الإسلام إلى أوروبا وأميركا مضمّخاً بالثقافة الروحية والشعر والسؤال الفلسفي والعقل وفضول المعرفة.
ويذكُرُ القارئ ما صرفه المفكر الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) من عمره بحثاً عن الحلاج، مرتحلاً ومنقباً ما بين بغداد والبصرة وحواضر أخرى، عن كثير من أخباره وأشعاره وأفكاره، محقّقاً ومترجماً ودارساً، لقد أخرج لويس ماسينيون الحلاج من دائرة "النسيان" التي رماه فيها التاريخ الرسمي، لقد رحل الحلاج كصوت ثقافي وشعري وفلسفي وديني روحي استثنائي من دائرة الثقافة الإسلامية إلى الثقافة الإنسانية، وكل ذلك بفضل ماسينيون، فأصبح صوتاً مثيراً للقراءة الممزوجة بالإعجاب في العالم الفرنكوفوني ومنه إلى الغرب بعامة، ومثله حين ترجم البريطانيون خصوصاً تجربة الشاعر المتصوّف حافظ الشيرازي الذي أضاء جانباً آخر من هذه الثقافة الإسلامية الإنسانية الكبيرة المليئة بالحيرة والحرية وسؤال الوجود.
ولا بد أن نُذَكِّر هنا أيضاً بفضل البروفيسور أندريه ميكيل وما قام به من تسويق لصورة الإسلام الحضاري من خلال دراساته وترجماته عن الشعر وأخبار العرب والمسلمين، ويكفي التذكير بكتابه المرجعي "الجغرافيا الإنسانية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن الحادي عشر"، وهو في أربعة أجزاء لنقف على الرسالة التي قدمها هذا الباحث العميق للإضافة الحضارية للإسلام في بناء التاريخ الإنساني، وحين أنجز جاك بيرك ترجمته للقرآن بعد أن صرف فيها أزيد من 20 عاماً، وما كتبه أيضاً من دراسات وترجمات عن الأدب العربي، كان في ذلك يبحث عن محاورة المسلم في جغرافيته من خلال ما شكله النص المقدس من سلوكيات وتصورات عن العالم والآخر.
خلال ثلاثة قرون وأكثر رحل الإسلام إلى الغرب، بشكل عام، في صورة إيجابية لا تتعارض بشكل صارخ مع المحيط الإنساني العام، حتى وإن حاول بعض الأصوات العنصرية ذلك، لقد قدمت هذه الأصوات العالمة صورة إيجابية عن الإسلام الثقافي المتسامح الموجود داخل الشعر والتصوّف وألف ليلة وليلة وغيرها، وهو إسلام لا يتعارض في جوهره الثقافي مع فكرة التعايش مع الآخر، لأن الإسلام الثقافي هو إسلام الحب والحياة والجمال والحرية.
اليوم، في هذا الزمن التكنولوجي المعقّد، حين نتابع الثرثرة والتعليقات والفيديوهات المنشورة على وسائط التواصل الاجتماعي، المرتبطة أساساً بالإسلام وبالتدين وبحقوق المرأة وبالحرية الفردية والتوجهات الجنسية وحقوق الإنسان والصراعات في الشرق الأوسط والأوضاع في مناطق الحروب الأهلية، نخلص وبوضوح إلى النتيجة الأساسية التالية: لقد وصل الإسلام المتوحّش إلى أوروبا واختفى الإسلام الثقافي، لقد حطّ في أوروبا إسلام متوحش أنتج نموذجاً لإرهابي أوروبي أكثر عنفاً ودموية من الإرهابي الذي يعيش في بلاد الإسلام، مشارقه ومغاربه.
ما السبب يا ترى، وكيف نشأت هذه الظاهرة السياسية الدينية المزدوجة، ظاهرة ولادة الإرهاب الأوروبي الإسلامي؟ وكيف انتقلنا من الإسلام الثقافي المليء بالحياة إلى الإسلام المتوحّش المليء بالموت، إسلام بالأحزمة الناسفة؟
في بداية القرن العشرين، كانت المجتمعات العربية والمغاربية تحلم بتغيير بنيوي اجتماعي وسياسي وثقافي على النموذج الأوروبي، وكانت صورة الغرب هذا في مخيال العربي والمغاربي هي رمز للعمل المنتج والعلم المفيد والثروة ضد الفقر والثقافة العميقة واحترام المدينة كفضاء عمومي والفنون والنظام وحرية المرأة والمواطنة، كان هذا الحلم هو حلم النخبة والعامة على السواء.
والمجتمع العربي والمغاربي في المدينة كما في الريف، كل فضاء بحسب إيقاعه، كان نموذجُه في التطور والرقيّ هو الغرب، وبالتالي فهو يبحث عن المشي على خطاه من دون أن يتعارض ذلك مع إسلامه الثقافي والشعبي البسيط، هذا لا يعني مطلقاً أن صورة الغرب كانت ملائكية، فالغرب هو أيضاً الاستعمار والقمع، وهذا الأمر لم يكن مستبعداً في تفكير النخب التنويرية العربية والمغاربية التي تميز ما بين الغرب المفيد والغرب المُستفيد.
منذ مطلع القرن العشرين ناضلت الأنتيليجانسيا العربية والمغاربية التنويرية الليبرالية وبقوة من أجل توطين النموذج الغربي الإيجابي في مجتمعها المتخلف والمستعمَر والمفقر، ولقد سافر بعض رجالات هذه النخبة إلى هذا الغرب بحثاً عن "استيراد" نموذج جديد للحياة في البلد الأصل، كل ذلك من خلال البحث عن مشروع اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي، وبدأ ذلك من خلال تعلم لغة الآخر، والاطلاع على الآداب الجديدة، والتفكير في الترجمة، وتنظيم الأحزاب السياسية، والتخلص من الخلافة ومن الإدارة العثمانية والانتقال إلى حكامة جديدة، ووضع آلية معاصرة لإدارة البنوك، وإعادة النظر في المدرسة المنكوبة، ونقد العدالة المعطوبة، ونشر ثقافة حقوق الإنسان المهضومة، وخروج المرأة إلى سوق العمل والعلم.
ولم يكن لهذه الإنتيليجانسيا مدينية كانت أم ريفية، وهي ترحل إلى الغرب، من هاجس سوى البحث عن تغيير لواقع حال المواطن والمجتمع في العالم العربي والمغاربي حين العودة إلى أرض الوطن.
يذكّرنا التاريخ ببعض أسماء النخب المؤسسة لحركة التنوير والتغيير التي رحلت إلى الغرب من الكتاب والأدباء والفنانين والمؤرخين والسياسيين ورجال القانون، والذين عادوا بأفكار عملت على هزّ القناعات البالية للمجتمع، والدفع به إلى أفق سؤال حضاري جديد، إلى آفاق معركة حضارية ودينية متنورة، ويمكننا أن نُذَكِّر هنا بتجارب كل من طه حسين، ومحمد عبده، والطهطاوي، وتوفيق الحكيم، ومحمود المسعدي، ومحمد بن اشنب، وجورج أبيض، وشكيب أرسلان، وأحمد الشدياق، وغيرهم... لقد رحلوا للتعرف على الآخر في فضائه، للتفكير في هذا الآخر، للتفكير في الأنا من خلال مرآة هذا الآخر، رحلوا بنِيّة العودة وصناعة الأنا على نموذج الآخر المتطور.
عادت هذه الأنتيليجانسيا إلى بلدانها وهي تسعى إلى خلق حراك إيجابي منتج داخل مجتمعاتها وبالأساس ما يتصل بوضعية المرأة والحرية الفردية وحرية الرأي وحرية المعتقد وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة.
لكن حدثاً مفصلياً وقع في العالم العربي، سيجهض حلم هذه الأنتيليجانسيا التنويرية في نقل الغرب إلى البلدان العربية والمغاربية، إنها ولادة حزب "الإخوان المسلمين" في مصر عام 1928، إنها اللحظة التاريخية التي جرى فيها اغتيال حلم الأنتيليجانسيا التنويرية الليبرالية في عصرنة المجتمع على الطريقة الغربية.
لقد قلب الإخوان المسلمون منذ نشأة تنظيمهم حلمَ الفرد والجماعة في العالم العربي والمغاربي، رأساً على عقب، فبعد أن كان طه حسين ورفاقه يبحثون عن تأسيس النموذج الغربي في المجتمع الإسلامي المتخلف، أصبح الإخوان المسلمون يبحثون عن تأسيس نموذج إسلامي في الغرب، وبدأ الإخوان يذيعون في الناس "حلم" تحويل المجتمع الغربي المتقدم إلى نموذج للمجتمع الإسلامي المتخلف، لأن الإسلام هو الأصل، والمسلم هو الإنسان النموذجي الذي يجب أن يُصَدَّر إلى الخارج، وأن المسلم عليه أن لا يقلد غيره بل على الآخر الكافر أن يهتدي بالمسلم، وهكذا سقط الحلم التنويري وانتهك مشروع تطوير المجتمع على الطريقة الغربية التقنية والفلسفية والإدارية.
وقد وجد الإخوان المسلمون في الجهل والتخلف المعششين في المجتمع العربي والمغاربي فرصة لزرع أفكارهم السلفية مستثمرين في الخطاب الديني الفروسي.
هكذا تحولت فكرة "النهضة" كما دعت إليها النخب التنويرية إلى فكرة "فتوحات" جديدة عند الإخوان المسلمين، وتحوّلت عملية البحث عن سبل لـ "تمدين" المجتمع الإسلامي عند التنويريين إلى عملية البحث عن طرق لـ "أسلمة" المجتمع الغربي عند الإخوان المسلمين! إنها المفارقة التاريخية العجيبة.
وبسرعة انتشر وجود أيديولوجيا الإخوان المسلمين في البلدان المغاربية وبلاد الشام، وتوسع من طريق البعثات التعليمية (حالة الجزائر الخارجة من الاستعمار) أو من طريق انتشار الكتب (كتب سيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وزغلول النجار...) والمجلات ومختلف المنشورات التي أغرقت السوق الثقافي.
وأعلنت الحرب التكفيرية ضد طه حسين وعلي عبد الرازق والطاهر الحداد وخليل القباني ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وصولاً إلى حسين مروة وفرج فودة والطاهر جاووت وعبد القادر علولة ونجيب محفوظ ومهدي عامل ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، حرب ضد التنوير الليبرالي في النقد والتاريخ والشريعة والشعر، وفتحت محاكم التفتيش الجديدة أبوابها وأطلق الإخوان المسلمون والوهابية ميليشياتهما في الجامعات والمؤسسات التربوية والثقافية واستوطنت ثقافة التكفير حقول السياسة والقانون والأدب والفلسفة والجمال.
ولم يكن المجتمع العربي والمغاربي الضحية الوحيدة لهذا الفكر التكفيري الظلامي، فقد أرسل الإخوان المسلمون جيشاً من جنودهم إلى الدول الغربية، الأوروبية والأميركية، هذه المرة ليس للتّعَلُّم واستجلاب الخيرات الفكرية والتقنية والتكنولوجية من الغرب بل ليُعَلِّم، أي الإخوان المسلمون، أبناء الجالية المسلمة هناك، يعلمونهم مبادئ السلفية والسلفية الجهادية وجهاد النكاح ونشر فقه التكفير، وبدأ البحث عن طرق "أسلمة" الغرب الكافر بتحريض الجيل الجديد من أبناء الجالية المسلمة وتجنيده ضد المجتمع الذي استقبلهم وعلّمهم وحماهم من خلال مظلة حقوق الإنسان ومنحهم حق المواطنة وسمح لهم بتأسيس المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية والمدارس القرآنية.
وكرد فعل على هذا الوضع، ظهرت ثقافة "الكراهية" والعنصرية ضد المسلمين في أوروبا وأميركا، إن الإسلام البدوي المتوحّش في أوروبا هو واحد من الأسباب التي أسمت في ظهور الإسلاموفوبيا في الأوساط السياسية الأوروبية والأميركية كرد على التكفير والدعوة إلى الحرب المقدسة والجهاد.
لقد وُلد الإسلام البدويّ المتوحّش في المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية والمدارس القرآنية للجمعيات الإسلامية التي جرى تدشينها في أوروبا وأميركا، واستولى على منابرها أئمة متطرّفون يدعون إلى ثقافة الكراهية ومحاربة الاختلاف في العقيدة والاعتداء على حقوق المرأة والمجموعات الاجتماعية ذات التوجهات الجنسية المختلفة، وهي المنابر التي ستكون عبارة عن مراكز لتجنيد الانتحاريين في الشرق أو في البلدان الأوروبية نفسها كما حدث في فرنسا (باطاكلون وشارلي إيبدو في باريس ومدينة نيس وغيرهما) وفي بروكسيل وألمانيا وإسبانيا والدول الإسكندنافية وغيرها، أو كما حدث في سوريا وليبيا وأفغانستان.
وربّ ضارة نافعة، لقد كانت الحروب الدينية الهمجية والدموية التي عاشتها شعوب بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط (الجزائر، مصر، سوريا، ليبيا، السودان، اليمن) والتي أشاعت الخراب والخوف والفقر والمرض والتقسيم، كانت عامل وعيٍ حادٍ وعفوي فردي وجماعي جعل المواطن البسيط يبدأ في مراجعة قناعاته حيال بعض المسلمات الخطيرة التي آمن بها في فترة سابقة متأثراً بالأفكار الداعشية ومختلف أشكال الفكر الديني الإسلامي المتطرف، إلا أن المسلم في أوروبا ظلّ في غيبوبته الداعشية، مستمراً في حالة من الانبهار بأفكار الدين البدويّ المتوحّش كطريقة لاندماجه الفروسيّ حالماً بتحويل هذا العالم الأوروبي الذي يعيش فيه، من "مجتمع الخنازير" كما يصوّره لهم الدعاة الجهاديون إلى مجتمع الصفاء الداعشي الإخواني على الطريقة الأفغانية أو الليبية أو السورية أو العراقية.
وحتى اليوم، لا يزال الإسلاموي الأوروبي أكثر عنفاً ودموية من الإسلاموي في بلاد الإسلام، ويتجلى ذلك بوضوح في النقاشات والتعليقات والفيديوهات التي تُثار كلما كان الحديث عن الإسلام والدولة الإسلامية والمرأة والجهاد وحقوق الإنسان.