Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

100 عام على رحلة 3 رسامين أوروبيين إلى تونس لاستيعاب ألوانها

معرض في بيرن السويسرية يتذكر كيف أحدثت مبادرة جون كلي ورفيقيه تغييراً في المزاج الفني الغربي

"القيروان – 1" من لوحات ماكي "التونسية" (موقع الفنان)

في شهر أبريل (نيسان) 2014 كان الحدث الفني في متحف بول كلي في مدينة بيرن السويسرية حدثاً مثلثاً، أو بالأحرى كان حدثاً واحداً بثلاثة رؤوس. وعلى رغم أن ذلك الحدث كان متوقعاً منذ زمن بعيد، وربما نقول منذ مئة عام تماماً، فإنه أتى مدهشاً وكاد يكون مفاجئاً. وهنا يقتضي التوضيح كيما يبدو وكأننا نطرح لغزاً: كان الحدث معرضاً فنياً ثلاثياً يشترك فيه ثلاثة مبدعين رحلوا جميعاً منذ زمن بعيد لكن أعمالهم باقية من بعدهم. ولا سيما منها تلك الأعمال التي تبرر وجودهم معاً في معرض مشترك. وهي بالتحديد اللوحات والمبدعات الفنية الأخرى التي حققوها معاً خلال رحلة مشتركة قاموا بها إلى الشمال الأفريقي، ولا سيما تونس التي توافقوا في عام 1914 على زيارتها معاً في رحلة فنية تضعهم على تماس مع الضوء والحياة الغرائبية كما مع الشمس والطبيعة. ففي ذلك الحين كان شمال أفريقيا يعني ولا سيما بالنسبة إلى فناني الشمال الأوروبي البحث عن اللون في كل صفائه وإشراقه، كما البحث عن مواضيع جديدة تكون ممتزجة تماماً بذلك الضوء الغامر. وكان الثلاثة من الناطقين بالألمانية اثنان منهم سويسريان والثالث ألماني: بول كلي، ولويس مويليت، وأوغست ماكي. وكانوا حينها في شرخ شبابهم وبحثهم عن جديد فني يخوضون مغامرته.

نهم إلى الشمس والرسم

إذاً قبل المعرض المشترك بمئة عام تماماً، وقبل أسابيع من اندلاع الحرب العالمية الأولى سافر بول كلي ولويس مويليت وأوغست ماكي إلى تونس حاملين الخفيف من متاعهم وكثيراً من ألوانهم المائية بخاصة ومن ريشهم ولوحاتهم البيضاء القماشية والورقية وراحوا ينتقلون من مكان إلى آخر ويرسمون ويصورون. ولعل اللافت في الأمر أنهم كانوا يرسمون بنهم غريب وكأن لديهم إحساساً بأن العالم سوف ينتهي عما قريب ولديهم هم مهمة يتعين عليهم إنجازها قبل ذلك. ولسوف يصدق هذا الشعور خصوصاً بالنسبة إلى أوغست ماكي في الأقل. فهو في الحقيقة لن يلبث بعد العودة من تلك الرحلة التي لن تدوم سوى أسبوعين على أية حال، أن يجند في القوات الألمانية ما إن تندلع الحرب العالمية الأولى بعد الرحلة بنحو أربعة أشهر ليكون واحداً من أول ضحاياها فيقتل في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، ولم تكن سنه تزيد على 27 سنة، بينما سيعمر مويليت الذي كان يكبره بسبع سنوات حتى عام 1962 محتفظاً عن تلك الرحلة بأحلى الذكريات ولكن كذلك بأغرب الصور الفوتوغرافية وأجملها، أما بول كلي فسيعيش حتى عام 1940 ليصبح واحداً من كبار المجددين في عالم الفن التشكيلي، وهو الذي سيشكل من ناحية جنسيته نقطة وسطى بين ألمانية ماكي وسويسرية مويليت، إذ كان سويسرياً من أصل ألماني.

إنتاج ضخم لأيام قليلة

إذاً لم تدم تلك الرحلة يومها سوى 14 يوماً ولكن حجم الإنتاج الفعلي الذي حققه الفنانون الشبان الثلاثة خلال تلك الأيام كان مدهشاً، فقد أنتج بول كلي 33 لوحة مائية و13 رسماً، وأنتج أوغست ماكي بدوره 33 لوحة مائية و79 رسماً. وفي المقابل قد يبدو مويليت أقل إنتاجاً في هذين المجالين من زميليه، لكن ذلك كان بصورة موقتة فقط. فهو اختزن في ذاكرته وعلى أوراقه وفي ملفاته عشرات التفاصيل التي عبرت عن الانبهار الذي تولد لديه من تلك المواجهة مع الضوء والألوان في شمال أفريقيا، ولسوف يستفيد مما اختزنه حين سيقوم وحده بزيارات طويلة ومثمرة، بل حتى تحول بعضها إلى تلك الإقامات اللاحقة له في المغرب وإسبانيا، لكنه على أية حال لم يضع وقته في تونس خلال الرحلة التي نتحدث عنها إذ إنه كهاو للتصوير الفوتوغرافي راح يلتقط الصور بالعشرات، وهي الصور التي سوف يشكل عرض عديد منها مساهمته الرئيسة في معرض بيرن المشترك بعد الرحلة بقرن كامل من الزمن.

نتائج طويلة الأمد

والحقيقة أن النتائج المثمرة لتلك الرحلة لم تكن منسية قبل معرض عام 2014، بل كانت ذاكرة الفن الحديث تحتفظ بها ليس فقط على شكل لوحات ورسومات بل حتى كصور فوتوغرافية، بل كرحلة تم استيعابها في تاريخ الفن "باعتبارها لحظة أساسية في النتاجات الفنية في القرن العشرين: فقد تركت بصماتها في الأقل على الألوان المائية الحديثة". ولئن كان مويليت قد فضل البقاء بعيداً من الاهتمام كثيراً بالتنظير لتلك التأثيرات، مكتفياً بتحقيق رسوم لم تعد فيها غرائبية الضوء المشرق مسألة ينبغي التوقف عندها بصورة خاصة، إذ راحت أساليبه تبدو شرقية من تلقائها، فإن التأثير الأكبر والتنظير الأكثر وضوحاً بدا عند بول كلي الذي جراء غياب ماكي المبكر بات يعتبر أكبر الثلاثة وأشهرهم ومن ثم أكثرهم ارتباطاً بعوالم الشرق وصولاً إلى اشتغاله على حروفية شرقية ما، لكن تميز كلي في هذا المضمار لم ينتج وحسب عن تلك الرحلة، بل سيكون لاحقاً على علاقة أكثر زخماً بناها مع مصر التي سيزورها وحده في شتاء عامي 1928 – 1929، ليبدو لاحقاً وحتى نهاية حياته مفتوناً بقوة الإشارات الحروفية الهيروغليفية والمكونات الهندسية للمناظر الطبيعية في الطوبوغرافيا المصرية وطبقات الحقول والصور الظلية التي رصدها بقوة في منطقة الهرم. صحيح أن كاتالوغ معرض عام 2014 لم يفته أن يذكر ذلك كله، لكن معروضاته كانت وقفاً بالطبع على رحلة عام 1914. وفي عام 1914 كانت القصة حكاية أخرى: كانت حكاية فنان مبتدئ لا يزال على رغم تميزه الفني الواضح غير مؤتلف تماماً مع عالم الألوان الذي تخلقه الشمس وطبيعة الشرق فتحقق ذلك الائتلاف، ليؤكد الفنان نفسه أنه قد تحول إلى خبير تلوين رائع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جذور فنانين شبان

وهذا أمر أكده على أية حال الكاتالوغ – الوثيقة الفنية، الذي صدر لمناسبة معرض عام 2014، مذكراً بأن لويس مويليت كان في الأصل صديق طفولة بول كلي في مسقط رأسيهما بيرن، وأنه كان هو من أقنع رفيقه بالقيام بتلك الرحلة إذ كان سبقه إليها، حيث استوعب الأبعاد اللونية وسحر المشاهد المحلية الملونة وراح يحدث كلي عنها كالحالم حتى انتهى إلى إقناعه بالقيام بها. أما بالنسبة إلى الرسام الألماني أوغوست ماكي (1887-1914) فهذا الرسام الشاب أكد ذاته بالفعل، بين جذوره المنتمية إلى أسلوب "الضواري" وصولاً إلى انتقاله المبكر إلى تيار التعبيرية إنما مروراً برسامي جماعة "الفارس الأزرق" الذين كانوا شديدي القرب من الطبيعة بشكل عام، وتمكن من أن يعيش خلال رحلة الـ14 يوماً والأشهر القليلة التي بقيت له من بعدها قبل أن تلتهمه الحرب فترة أخيرة من السعادة المبهرة والتصويرية. أما بالنسبة إلى بول كلي فإنه وكما أشرنا سيبقى أكثر الثلاثة تأثراً بذلك الحدث الكبير الأول في حياته الفنية، وكان حدثاً سيترك آثاره على حياته الفنية كلها، لكنه سيعبر عنه في عديد من النصوص النظرية التي سوف يصدرها لاحقاً، ناهيك بأن نزوعه الشرقي هذا سوف يتجاوزه حيث إنه من طريقه بالتحديد سوف يمارس فعله في عديد من الفنانين الذين إما سيزورون الشمال الأفريقي ومصر والشرق بصورة عامة على خطاه، وإما سيرسمون حرارته وألوانه محاكين معلمهم الكبير.

في نهاية المطاف وكما يخبرنا معرض بيرن في عام 2014 حمل ثلاثة فنانين شبان من الشمال الأفريقي إلى صقيع أوروبا ألواناً وشمساً وذكريات عابقة بالحنين. والسؤال الذي لا بد من طرحه هنا على سبيل الختام: هل تراهم تركوا في تونس من يتذكرهم ويحن إلى ذلك الزمن الوديع الذي راح فيه ثلاثة شبان أوروبيين ينقلون المشاهد والأضواء وحرارة الشمس على شكل أعمال فنية؟ هل رصد أحد من أهل البلاد ذلك الحضور الغريب وكتب عنه أو دون ما يتعلق به؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة