Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المعلقات تاريخ العرب على أستار الكعبة (1 -5)

التنقيب في "السبع الطوال" بين مدونتين كشف عن أصولهم وأيامهم وتطور لغتهم

أرخ الشعر العربي القديم تفاصيل الحياة اليومية لعرب ما قبل الإسلام (اندبندنت عربية) 

ملخص

التشكيك في صحة الشعر الجاهلي خلال القرن العشرين أسفر عن مدونة كشفت عن أصول وتاريخ العرب

للمعلقات من بين تراث العرب ألف حكاية وحكاية، فقد عدّها القدماء والمحدثون واسطة العقد في الثقافة العربية القديمة. وبقدر ما استحوذت إلى جوار الشعر الجاهلي على حركة التدوين في القرن الثاني الهجري، بقدر ما خضعت للفحص والتحقيق خلال حركة التأليف في القرن العشرين الميلادي. بين التدوين في العصور الأولى والتحقيق في تسعة عقود مضت خرجت لنا مدونة ضاربة في جذور التاريخ تخبرنا عن أصول العرب أياماً ووقائع ولغة وسلالة.

صمت وعاصفة

ثمة "أباطيل وأسمار" جرت فيما ترسخت حقائق وأسانيد عبر ما يقرب من 100 عام مضت من المراجعات النقدية، بدأت في عشرينيات القرن الماضي التي تقترب ذكراها المئوية مع سنواتنا التي نحياها اليوم في القرن الحادي والعشرين.

في عام 1926 كان المشهد الثقافي العربي على موعد مع فجر جديد. لم يكن الكتاب الذي أصدره طه حسين "في الشعر الجاهلي" سوى الصرخة الأولى التي أطلقتها المطابع آنذاك، بعدها منع من النشر ووصل أمره إلى قبة البرلمان المصري، لينتهي به المطاف إلى تعديل قال عنه صاحبه "هذا كتاب السنة الماضية، حذف منه فصل وأثبت مكانه فصل، وأضيفت إليه فصول، وغير عنوانه بعض الشيء"، حسب ما قدم الطبعة الثانية لكتابه الذي بات عنوانه "في الأدب الجاهلي".

انطلق صرير الأقلام على وجوه الصحف يقدم مراجعات نقدية من كافة تيارات الثقافة العربية التي سادت خلال القرن العشرين، وانتهت إلى فتح علمي وثق مسيرة تراث العرب، وبات من نافلة القول إن كثيراً مما أشيع من آراء ومذاهب عن تاريخ اللغة والثقافة العربيتين قبل الإسلام في النصف الأول من القرن العشرين سقطت أمام غربلة المحققين، والباحثين المحدثين، وعلماء اللغة بعدما برهن العديد من أهل اللغة والتاريخ، ممن لهم خبرة واسعة وبصيرة في تحقيق النصوص وقراءة النقوش، أن للعرب تاريخاً ضارباً في القدم قبل الإسلام. كتب في هذا الشأن المؤرخ جواد علي، "موسوعة تاريخ العرب قبل الإسلام" أعيد طبعه مؤخراً في ثلاثة أجزاء، كما توسع في المسألة ذاتها عبر موسوعة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" في 10 أجزاء.

 

 

لم يكن علم الأثر أيضاً بعيداً من رصد ممالك العرب القديمة، إذ تجولت حفريات البعثات العلمية في المنطقة العربية منذ 1928، واختصت شبه جزيرة العرب بالبحث والتنقيب، وخلصت إلى عدد ضخم من النقوش والاكتشافات كشفت عن روابط تاريخية بين عرب ما قبل الإسلام وبين أمم الحضارات القديمة كالفرس والروم وغيرهم.

على الطريق ذاته سار منجز مناهج علم اللغة المقارن ونقد النصوص في التاريخ القديم ولم يغب عن مدارات البحث، إذ حقق مكتسباته صحة خبر تعليق "السبع الطوال" على أستار الكعبة مكتوبة بماء الذهب بعدما تردد في شأنه من خلاف. وكان السبيل إلى ذلك علم الجرح والتعديل مرة، وتحقيق النصوص كرة وأخيراً إعادة النظر في السياقات التاريخية وغيرها.

العودة إلى الجذور

من هذا الزمن البعيد إلى وقائع الأيام الجارية، أعلنت وزارة الثقافة السعودية 2023 "عام الشعر العربي"، احتفاءً بالقيمة المحورية للقصيدة في الثقافة العربية، وانطلاقاً من "احتضان الحجاز أهم الشعراء في تاريخ الأدب العربي، بينهم امرؤ القيس المولود في قبيلة كندة بمنطقة نجد وسط شبة الجزيرة العربية وتضم اليوم (مناطق الرياض والقصيم وحائل)، والأعشى الذي عاش وسط شبه الجزيرة العربية (الرياض)، والنابغة الذبياني ربيب منطقة نجد، وزهير بن أبي سلمى المولود بالقرب من يثرب (المدينة المنورة) والذي قضى حياته في نجد، وعنترة بن شداد الذي ولد ومات في نجد (حائل)، وطَرفة بن العبد المولود جنوب شرق شبه الجزيرة العربية (البحرين)، وعمرو بن كلثوم الذي ولد في نجد وتوفى بها، ولَبيد بن ربيعة ربيب (عالية نجد التي كان يحميها كليب، واشتعلت بسببها حرب البسوس)".

فأي سيرة ترويها المعلقات من بين عيون الشعر الجاهلي؟ وماذا تحمل بين أبياتها من دلالات وتاريخ بعدما مرت الإشارة إليه، وماذا حدث بين حركتي التدوين في القرن الثامن الميلادي (الثاني هجرياً)، وبين نظيرتها في القرن العشرين طوال تسعة عقود؟

 

 

المعلقات بين مدونتين

كانت المعلقات لوحاً مسطوراً حفظ جذور العربي القديم بشراً وحجراً، إذ جسدت أبياتها واقع حياته وثقافته القديمة، لغة وتاريخاً وحضارة تمددت، فيما بعد، على مدى ثمانية قرون إلى شرق العالم وغربه.

شكلت اللغة أول حجر أساس وضع للحضارة الإسلامية العربية، إذا جاءت وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الذي حاج به النبي قومه. اختلفت أعراق شعوبها بين العرب والفرس والروم والبربر واتفقت على لسان عربي واحد، تكفل القرآن بحفظه.

والحق إن اختزال المعلقات والشعر العربي القديم بين أغراض الشعرية القديمة، من بكاء على الأطلال، ومديح وهجاء، وفخر وحماسة، ورثاء وأغراض أُخر دارت بين قبائل العرب قبل الإسلام لم يعد مسألة دقيقة، بعدما حظيت به من تحقيق برهن على أنها وثيقة تاريخية تحوي كثيراً من أخبار عرب ما قبل البعثة. التف حولها القدامى والمحدثون ليدققوا النظر في نصوصها بين الانتحال والشك والتحقيق.

كل هذا وغيره أسهم في تشكيل مدونة عربية عريقة في "تاريخ اللغة العربية" وأهلها. مدونة لها دلالتها على أن تاريخ اللغة والفكر على علاقة وثيقة بإشكالية الوجود الإنساني، التي أدخلت البحث اللغوي إلى سياق الفلسفة أعقاب الحرب العالمية الأولى بحثاً عن معنى في خضم موجة من العدمية ألقت بتداعياتها الثقيلة على روح العالم، ربما تتشابه سياقاتها نسبياً مع الواقع الجاثم على صدور بني البشر تحت وطأة وباء كورونا الذي لا يزال يهدد رئة العالم وينذر سكانه بالوفاة، ناهيك عن تداعيات أرتال الدبابات وراجمات الصواريخ الروسية في الحرب الجارية بأوكرانيا. وهذه هي الرحلة التي سندور في فلكها عبر سلسلة من الحلقات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل أن نشرع في البدء حري بنا أن نحدد ملامح الرحلة التي استندت إلى الوجه التاريخي عن المعلقات بوصفها إحدى عيون الشعر العربي القديم التي نال منها الشك في "خبر التعليق". وكان أول من أذاع ذلك مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" عام 1911، وخلص إلى أنه "خبر موضوع" وفق علم الجرح والتعديل، حسبما ذهب. فيما حقق الناقد الأدبي نجيب محمد البهبيتي مذهب الرافعي، وباستقصاء أسانيد الأخير التي أوردها وتتبع مسيرتها كشف عن فساد القياس والاستدلال والمنهج الذي أدى بالرافعي إلى التورط في خطأ الإسناد والتواتر، بالإضافة إلى تجاهله بعض المرويات، وبتر الأخرى في مسعى للبرهنة على تضعيف الخبر والسند، وفق ما ذكر في كتابه "المعلقات سيرةً وتاريخاً" الصادر من الرباط عام 1983.

نتطرق أيضاً إلى رحلة شيخ المحققين العلامة محمود شاكر في التاريخ البعيد بصحبة رفيقيه الجاحظ وابن سلام لنكشف عن مآلات هذه الرحلة الشاقة التي عكفوا خلالها على تقصي نصوص أخبار وأشعار العرب من البادية وأهلها ذوي السليقة اللغوية التي لم ينل من لسانها الاختلاط مع العجم في المدن والحواضر العربية. 

من الخير أيضاً أن نذكر أن بنية حلقات هذا التحقيق استندت إلى التوثيق بين مدونتين، الأولى في القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، والأخيرة خلال القرن العشرين. كما أن معركة الشعر الجاهلي بدأت وقائعها في عشرينيات القرن الماضي التي تتزامن مع نظيرتها الجارية من القرن الحادي والعشرين، وليس أخيراً اقتراب الذكرى المئوية التي انطلقت منها شرارة أنارت دروب الثقافة العربية.

 

 

قبل أن نخوض غمار الرحلة من الضروري توضيح أن المعلقات قصائد اختارها العرب من شعر فحولهم، وذّهبوها على الحرير وناطوها (علقوها) بأستار الكعبة، تشريفاً لها وتعظيماً لمقامها، واعترافاً بمتانة ألفاظها، وحسن سبك معانيها، حتى أصبحت العرب تترنم بها في نواديها، وتفخر بها في حاضرها وباديها"، وفق ما قدّم الناشر محمد أمين الخانجي "المعلقات العشر وأخبار قائليها" عام 1912، بشرح الفقيه اللغوي محمد بن الأمين الشنقيطي المولود في موريتانيا عام 1905 والمتوفى بمكة عام 1974.

"اختلف أصحاب الأخبار في وجه تسميتها بـ(المعلقات) فقال ابن عبد ربه صاحب (العقد) وابن رشيق صاحب (العمدة) وابن خلدون صاحب (التاريخ)، وكثير سواهم ممن نقل عن الصدر الأول من نقلة الأخبار، إن العرب بلغ من تعظيمهم لها أن علقوها بأستار الكعبة فسميت بالمعلقات، وقيل إن وجه التسمية بذلك لعلوقها بأذهان صغارهم قبل كبارهم، ومرؤوسيهم قبل رؤسائهم، عناية بحفظها والاحتفاظ بها". وفق الخانجي.

"كما اختلفوا في وجه تسميتها، اختلفوا في عددها وأصحابها، فمنهم من يجعلها سبعة وأصحابها هم (امرؤ القيس بن حُجْر، وعدد أبيات معلقته 78 بيتاً، وطَرَفة بن العبد البكري وبلغت مطولته 105 أبيات، وزهير بن أبي سُلمى (59 بيتاً)، ولَبِيد بن ربيعة العامري (88 بيتاً)، وعمرو بن كلثوم التغلبي (94 بيتاً)، وعنترة بن شداد العبسي (82 بيتاً)، والحارث بن حِلِزة اليشكري (82 بيتاً)، وبعضهم يجعلها ثماني ويضيف إلى أصحابها النابغة الذبياني، وبعضهم يقول عشرة ويضيف إليهم (الأعشى بن ميمون، وعَبِيد بن الأبرص). وعلى ذلك مشى أبو زكريا التبريزي في كتابه "القصائد العشر الطوال". وفق ما اختتم الخانجي تقديم "المعلقات العشر وأخبار قائليها".

وقد عكف على شرح المعلقات عدد من اللغويين والإخباريين، بينهم أبو جعفر بن النحاس المتوفى سنة 338 هـ، وأبو علي الثعالبي المتوفى سنة 356 هـ، وأبو بكر البطليموسي المتوفى سنة 394 هـ، وأبو زكريا بن الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502 هـ، والدميري صاحب حياة الحيوان، والزوزني المتوفى سنة 486 هـ. وهي مشروحة أيضا في كتاب الجمهرة، ولابن الأنباري عليها شرح مفرد. حسبما ذكر مصطفى صادق الرافعي في "تاريخ آدب العرب".

وللرافعي وتاريخه قصة يطول ذكرها، نتوقف أمامها بالسرد والتحليل في حلقاتنا المقبلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة