Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فضاء الأندلس" يقدم مقاربة جديدة لأدب عصر حضاري

 الباحث خالد الخرعان يسترجع اللحظة الإبداعية في أوج تجلياتها

الأندلس حضارة وتاريخ (صفحة أندلس - فيسبوك)

ملخص

على الرّغم من مضيّ خمسة قرون ونيّف على جلاء العرب عن الأندلس، فإن الحنين إلى ذلك الفردوس المفقود لا يزال يُرخي بظلّه عليهم، كتاب لالباحث خالد الخرعان يسترجع اللحظة الإبداعية في أوج تجلياتها

على الرّغم من مضيّ خمسة قرون ونيّف على جلاء العرب عن الأندلس، فإن الحنين إلى ذلك الفردوس المفقود لا يزال يُرخي بظلّه عليهم. ذلك أن ثمانية قرون من الفتح العربي للجزيرة جعلت منها مختبراً للتفاعل الحضاري بين الشعوب، وتمخّضت عن حضارة عربية إسلامية وارفة الظلال، لا يمكن أن تطويها القرون المتعاقبة. لذلك، نشهد، بين الفينة والأخرى، محاولات لاستعادة ذلك الفردوس، تتمظهر في بحوث ودراسات أكاديمية مختلفة ورويات وقصص وقصائد وغيرها. ولعل أحد أواخر تلك المحاولات هو كتاب "فضاء الأندلس: مقاربات في الأدب الأندلسي" للباحث والأكاديمي السعودي خالد بن عبد العزيز الخرعان، الصادر حديثاً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت و"النادي الأدبي" في جازان.  فهل تهدف هذه المحاولة إلى القبض على لحظة حضارية متوهّجة في عملية نكوص مبرّرة إلى الماضي أم تسعى إلى التعويض عن هزيمة تاريخية باستعادة انتصارات حضارية حقّقها العقل العربي في تلك المنطقة من العالم ؟

  جِدّية وطرافة

بمعزل عن الهدف الذي يتوخّى الكاتب تحقيقه، فإنّ الكتاب هو مجموعة بحوث في الأدب الأندلسي سبق نشر بعضها في مجلات محكّمة، ارتأى الباحث أن يضمّها كتاب واحد لأنّها تجمع بين وحدتي المادّة المدروسة وجغرافيا الدراسة، وإن تنوّعت الموضوعات ومناهج البحث. ووضعها في ثلاثة أبواب، يشتمل كلٌّ منها على عدد من الفصول، يتراوح بين فصلين اثنين في الحدّ الأدنى، وأربعة فصول في الحدّ الأقصى. فأفرد الباب الأول لدراسة معالم الثقافة الأندلسية، وخصّص الثاني لدراسة خصائص النص الأندلسي، ووقف الثالث على دراسة الشعرية الأندلسية. وهو، في دراسته، يعكف على مادة أولية متنوعة، طريفة، مختلفة، تتراوح بين الشعر والنثر والنقد. ويستخدم مناهج نقدية حديثة ومتعدّدة، تتراوح بين السيميائية وتحليل الخطاب والمركز والهامش، مما يجعل الدراسة تجمع بين جدّية البحث العلمي وجِدّة المادة المدروسة وطرافتها. وهو ما نُمثّل عليه، في هذه القراءة، بإضاءة بعض البحوث، والبعض يومئ إلى الكل.


في باب الثقافة الأندلسية، يتناول الدارس، في الفصل الأول، ظاهرة أدبية طريفة وبارزة في الأدب الأندلسي، هي ألقاب الشعراء، فيدرس دلالات مضامينها وأبنيتها، وهي ظاهرة كانت موضع اهتمام المؤلفين العرب، القدامى والجدد، فيحصي الدارس اثني عشر كتاباً تناولتها. ويخلص، بنتيجة الدرس، إلى التعدّد الدلالي للألقاب المستخدمة، في المضامين والأبنية على حدٍّ سواء.

  مضامين وأبنية

 تتراوح دلالات المضامين بين النقدية والاجتماعية والتاريخية؛ تدلّ الأولى النقدية، على قيمة معيّنة ينطوي عليها اللقب (الرقيق، المصيب، اللص، السُّناط، الكساد)، أو تُوازن بين شاعر أندلسي وآخر مشرقي (عنترة الأندلس، جرير الأندلس، بشار الأندلس). وتدلّ الثانية الاجتماعية على هيئة خَلْقية للشاعر (الأعمى ابن الحنّاط، الأعمى التُّطَيلي، القَلَطي، جعسوس)، أو على حيوان معيّن (الغزال، العقرب، القط)، أو على عادة معيّنة (الخيطي، القلانسي، الزّريزير)، أو حرفة محدّد (القزّاز، السُّميسر، الجزّار)، أو على مكانة ثقافية (المتلمّس، النوّالة، الفيلسوف). وتدلّ الثالثة التاريخية على حادثة مؤثرة في حياة الشاعر إلى حد الالتصاق باسمه (الطليق، النّحلي، المصري).  وتختلف دلالات الأبنية بين المفردة والمركّبة؛ فتدلّ الأولى على الكثرة (القيّاس، الورّاد، الرفّاء) أوالثبات (الضرير، الأحدب، الأفرم) أوالصفة (الزاهد، الحافظ، الخازن) أوالتحقير (الأعيمى، الأفيلح، السُّميسر). وتتمظهر الثانية في التركيب الإضافي (ابن زرقون، عصا الأعمى، فيلسوف الأندلس)، وفي التركيب الوصفي (الأعمى اللغوي). وهكذا، يمكن الاستنتاج أن انتشار هذه الظاهرة في الأدب الأندلسي يعود لأسباب مختلفة، تتراوح بين الاجتماعي والأدبي والتاريخي، وقد بلغت من الانتشار والتأثير حدّ طغيان اللقب على الاسم في كثير من الأحيان.  

 أُبوّة وبُنوّة  

  الموضوع الثاني الذي يتناوله الخرعان، في الفصل الثاني من الباب نفسه، لا يقلّ طرافةً عن الموضوع الأول، وهو العلاقة بين الآباء والأبناء. يقاربه من منظور سيميائيات الأهواء باعتباره "الأكثر ملاءمة لدراسة الأشعار التي دارت بين الآباء والأبناء"، على حدّ تعبيره (ص 93). لذلك، يقوم باختيار ثلاث وسائل يتيحها المنظور المذكور، يحلل النص الشعري في ضوئها، هي الصنافات والكيفيات والتصاورات الوجودية؛ فيحدّد مكونات الصنافات المختلفة والعوامل المعينة والمعيقة لها، ويستخرج القيم الأسرية التي تصدر عنها. ويتقصّى الكيفيات التي تتمظهر فيها الذات الشاعرة المتعلّقة بالمعرفة والإرادة والواجب والقدرة. ويدرس في التصاورات الوجودية تمثّلات الذات في النص الشعري في حالات الكمون والاحتمال والتحيين والتحقّق. وهو يفعل ذلك من خلال الأمثلة والشواهد الشعرية التي يتضافر فيها التنظير والتطبيق في التحليل الأخير لجلاء القيم التربوية التي تكتنزها العلاقة بين الآباء والأبناء.

في الباب الثاني من الكتاب، بفصوله الأربعة، يقوم الخرعان بدراسة خصائص النص الأندلسي، النثري والشعري والنقدي؛ فيدرس الأول من خلال الرسائل التي دارت بين أبي عبدالله بن الجنّان وأبي الحسن الرعيني. ويدرس الثاني من خلال سبعة وثلاثين نصاًّ شعرياًّ، في رثاء ذوي القربى، من جهة، ومن خلال الصباحيات في شعر ابن زمرك، من جهة ثانية. ويدرس الثالث في كتاب "المطرب من أشعار أهل المغرب" لابن دحية الأندلسي. ويخلص، في نهاية الدرس، إلى خلاصات ونتائج معيّنة. وحسبنا في هذا السياق، التوقف عند "التفاعل النصي في الرسائل العينية" في الفصل الأول من الباب، و"الانسجام النصي في الشعر الأندلسي" في الفصل الثاني منه، لجلاء خصائص النص الأندلسي.

  تفاعل وانسجام

 يرصد الجزعان التفاعل النصي في النثر الأندلسي من خلال أربع رسائل تشتمل على حرف العين في جميع كلماتها، جرى تبادلها بين الأديبين الأندلسيين أبي عبدالله بن الجنّان وأبي الحسن الرعيني، في إطار المراجعات النثرية التي تعادل المعارضات الشعرية. وهي إن دلّت على شيء إنما تدل على سعة المعجم اللغوي الأندلسي وبراعة الكاتبين في استخدامه. على أن عملية الرصد التي يقوم بها الدارس تتم على المستويات، الدلالي والصوتي والتداولي؛ فيتمظهر التفاعل، على المستوى الدلالي، في: التنافس بين الأديبين، المماثلة الناجمة عن تحاور النصوص، ومثالية الدلالة القائمة على استحضار أعلام الكتّاب والشعراء. ويتمظهر التفاعل، على المستوى الصوتي، في: التناغم في نسق الجمل، الإفادة من مفردات متعدّدة الدلالة، توظيف المشتقات، فقر المضمون، واستخدام لغة الكفاية المشتركة في الفهم والإدراك بين المرسل والمتلقي. ويتمظهر التفاعل، على المستوى التداولي، في: الإلمام الواسع بأعلام الأدب المشرقي، توظيف الأمثال العربية، سعة المعجم اللغوي، وتأثّر المعاصرين بالرسائل المدروسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهة ثانية، يرصد الجزعان الانسجام النصي في الشعر الأندلسي، على المستويات، المجازي والتداولي والدلالي. وهو، إذ يحدد مبادئ الانسجام بالسياق والتأويل والتشابه والتغريض، يقوم برصد تمظهرات هذه المبادئ في كل من المستويات الثلاثة الآنفة الذكر؛ فيتحقق الانسجام، على المستوى المجازي، في: التعالق بين المجازات المتنوعة، دور المتلقي في استيعابها، التشابه في نقل المشاعر، التشابه في توظيف التجسيم والتشخيص، التدرج في الدلالة، الترابط في الأسباب، التوافق في الوسيلة، التركيب الإنشائي، وتناغم المصادر. وهذه التحقّقات يستخرجها الدارس من المادة المدروسة. ويتحقق الانسجام، على المستوى التداولي، في: السياق الفني والتاريخي والواقعي، والمعرفة المشتركة بين القائل والمتلقي سواء أكانت ثقافية أو اجتماعية أو معرفية. ويتحقق الانسجام، على المستوى الدلالي، في:  العطف بين عنصرين متعاطفين أوجملتين، علاقة الإجمال والتفصيل، علاقة التعميم والتخصيص، التغريض، والبنية الكلية. ولا يفوت الدارس أن يضرب الأمثلة التطبيقية على كل من هذه التحقّقات. مع الإشارة إلى أن توزيع الأمثلة التطبيقية أو الشواهد الشعرية على المستويات الثلاثة هي مسألة نسبية تتعلق بالمستوى الطاغي على كل منها.

  بواعث وتمظهرات

 الباب الثالث والأخير في الكتاب، بفصوله الثلاثة، يدور على الشعرية الأندلسية. ويتناولها من خلال الشفاهية الشعرية في دولة بني الأحمر، والشكوى في شعر ابن زيدون، والشاهدة الشعرية. وحسبنا، في هذا الباب، التمثيل عليه بالفصل الثاني المتعلّق ببواعث الشكوى وتمظهراتها في شعر ابن زيدون. أمّا البواعث فيُجملها الدارس في باعثين اثنين؛ أحدهما سياسي يتصل بتعاطي ابن زيدون السياسة ما أدّى إلى كثرة حسّاده والزجّ به في السجن غير مرة، والآخر عاطفي يتصل بحبّه ولاّدة بنت المستكفي وانصرافها عنه لآخر يقلّ عنه علماً وشأناً ما أدى إلى أدى إلى تفاقم شكواه. وأمّا التمظهرات فيفصّلها الدارس في: الشكوى من العشق والهوى ومتعلّقاتها من الضنى والهجر والقسوة، الشكوى من الحسّاد، الشكوى من الغربة، الشكوى من السجن، والشكوى من الزمن. وجميع هذه التمظهرات تعكس الحياة البائسة للشاعر التي زعزعتها النكبات وصروف الدهر.

وجملة القول إن المادة الأولية التي يخضعها الجزعان للدراسة على أقدار متفاوتة من الجِدّة والطرافة، سواء تعلّق الأمر بألقاب الشعراء أو الرسائل العينية أو الشفاهية المرتجلة الشاهدة الشعرية، وإن الدرس الأكاديمي الذي يخضعها له على قدر ممن الجدية والرصانة، مما يجعل الكتاب يجمع بين جِدّية الدرس ورصانته، من جهة، وجِدّة المادة المدروسة وطرافتها، من جهة ثانية، ويمنحه القدرة على الإمتاع والمؤانسة والإفادة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة