Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف اكتسب "الجنوب العالمي" تسميته وقوته واستقلاليته؟

تغيير سياسة واشنطن يتطلب تعرض صانعي القرار لوجهات نظر دول الجنوب

يشير مصطلح "الجنوب العالمي" إلى بلدان مختلفة حول العالم تنتشر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ولا تقع جميعها في نصف الكرة الجنوبي (أ ف ب)

ملخص

منذ مطلع القرن 21 أدى تحول مراكز الثروة في العالم من شمال ضفتي المحيط الأطلسي إلى آسيا والمحيط الهادئ إلى تغيير الرؤية التقليدية

في وقت كانت الولايات المتحدة تميل فيه إلى معاملة شركائها في الجنوب العالمي باعتبارهم بيادق في سياسات القوى العظمى وتمارس ضغوطاً عليهم لاتباع القيادة الأميركية للعالم، أدى عدم استعداد عديد من الدول الرائدة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لدعم حلف الناتو في الحرب بأوكرانيا، إلى عودة مصطلح "الجنوب العالمي" للظهور مرة أخرى ولكن بشكل مختلف يحمل في طياته ملامح جديدة، حيث تؤكد دول الجنوب وجودها على الساحة العالمية وتختار عدم الانحياز إلى أي قوة عظمى، فما المقصود بـ"الجنوب العالمي"، ومن أين جاءت تسميته، ولماذا اختفى مصطلح "العالم الثالث" و"الدول النامية"، وكيف أصبح الجنوب العالمي مصدر قوة مسموعة ومؤثرة في عالم اليوم، بما يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في كيفية تعاملها معه؟

بوادر التحول

على مدى عقود، مارست الولايات المتحدة ضغوطاً على دول الجنوب العالمي لاتباع قيادتها للعالم، استناداً إلى افتراضات قديمة مثل فكرة أنها هي الشريك الوحيد المناسب لهذه الدول التي يقع معظمها في جنوب الكرة الأرضية، ضمن نظرة ترتكز على ما وصفه منظرو التبعية بالعلاقة بين المركز والأطراف في الاقتصاد السياسي العالمي، غير أن اندلاع الحرب في أوكرانيا وردود الأفعال المتباينة للأزمة، أظهرت أن الوضع الراهن للعالم بلغ منتهاه، بسبب الافتقار إلى تمثيل دول الجنوب العالمي في صنع القرار الدولي.
وفي ظل هذا التطور، بدأت الأصوات تتصاعد من أجل معالجة أوجه القصور في المؤسسات الدولية التي تشكل موقعاً للحوكمة العالمية، بدءاً من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى صندوق النقد الدولي، حيث بات من غير المجدي ولا المقبول أن تستخدم أقلية من الدول القوية هيمنتها داخل النظام العالمي لتعزيز مصالحها ووضع أجندة للقواعد الاقتصادية أو الحلول الأمنية التي تكون لها تداعيات سلبية تقع إلى حد كبير على دول جنوب الكرة الأرضية، ومن ثم ارتفعت دعاوى الإصلاح لتقرير أجندة مشتركة رغم صعوبة ذلك، بل تزايدت الضغوط على إدارة بايدن لإظهار التزامها بمثل هذا الإصلاح ووضع الإجراءات وراء وعودها السابقة لدفع هذه الأجندة، ولكن ما المقصود بمصطلح "الجنوب العالمي"؟

ما الجنوب العالمي؟

بحسب مدير مركز "فريدريك باردي" لدراسة المستقبل في جامعة بوسطن، جورجي هاين، يشير مصطلح "الجنوب العالمي" إلى بلدان مختلفة حول العالم تنتشر في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ولا تقع جميعها في نصف الكرة الجنوبي، لكنها كانت توصف أحياناً بأنها نامية أو أقل نمواً أو متخلفة، وذلك لأنها بشكل عام، أكثر فقراً، ولديها مستويات أعلى من عدم المساواة في الدخل وتعاني من انخفاض متوسط العمر المتوقع وظروف معيشية أقسى من البلدان الموجودة في "الشمال العالمي" أي الدول الأكثر ثراء التي تقع غالباً في أميركا الشمالية وأوروبا، مع بعض الإضافات في أوقيانوسيا وأماكن أخرى مثل أستراليا ونيوزيلندا.

واستخدم الناشط السياسي كارل أوغلسبي مصطلح الجنوب العالمي لأول مرة في عام 1969 حيث كتب في المجلة الليبرالية الكاثوليكية "كومونوييل"، أن الحرب في فيتنام كانت تتويجاً لتاريخ هيمنة دول الشمال على الجنوب العالمي، لكن المصطلح لم يكتسب زخماً إلا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، الذي كان علامة على نهاية ما يسمى العالم الثاني، وحتى ذلك الحين، كان المصطلح الأكثر شيوعاً للدول النامية أي البلدان التي لم تتحول بعد إلى التصنيع الكامل هو مصطلح "العالم الثالث".

اختفاء العالم الثالث

صاغ مصطلح "العالم الثالث" عالم السكان الفرنسي ألفريد سوفي في مقال نشر تحت عنوان "ثلاثة عوالم، كوكب واحد" في صحيفة "أوبزيرفاتور" عام 1952، حيث استخدم مصطلح "العالم الأول" مرادفاً للدول الرأسمالية المتقدمة، و"العالم الثاني" ليشير إلى الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي و"العالم الثالث" بالنسبة إلى الدول النامية، وكان كثير منها في ذلك الوقت لا يزال تحت نير الاستعمار، لكن كتاب عالم الاجتماع "بيتر ورسلي" الصادر عام 1964، تحت عنوان "العالم الثالث: قوة جديدة حيوية في الشؤون الدولية"، هو ما أدى إلى زيادة شعبية هذا المصطلح، إذ أكد الكتاب أن "العالم الثالث" يشكل العمود الفقري لحركة عدم الانحياز التي تأسست قبل ثلاث سنوات فقط كرد على الانحياز الثنائي القطب في الحرب الباردة.

وعلى رغم أن نظرة ورسلي لهذا "العالم الثالث" كانت إيجابية، فإن المصطلح أصبح مرتبطاً بالدول التي ابتليت بالفقر وعدم الاستقرار، وهكذا أصبح مصطلح "العالم الثالث" مرادفاً لـ"جمهوريات الموز" التي تحكمها نظم غير ديمقراطية، ومع ذلك اختفى مصطلح "العالم الثالث" بسرعة في التسعينيات مع انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه نهاية ما يسمى العالم الثاني، لكن في الوقت ذاته واجه تقسيم العالم إلى تسميات مثل دول متقدمة وأخرى نامية أو أقل نمواً، انتقادات واسعة، لأنه صور الدول الغربية على أنها المثل الأعلى، مع تصوير من هم خارج هذا النادي على أنهم متخلفون، ولهذا كان المصطلح الحيادي البديل الذي تم استخدامه هو "الجنوب العالمي".

جيوسياسية وليست جغرافية

ولا يشير مصطلح "الجنوب العالمي" إلى تقسيم جغرافي، ذلك أن أكبر دولتين في العالم الجنوبي وهما الصين والهند، تقعان بالكامل في نصف الكرة الشمالي، لكن استخدامه يشير إلى مزيج من القواسم المشتركة السياسية والجيوسياسية والاقتصادية بين الدول، فقد كانت بلدان الجنوب العالمي غالباً في الطرف المتلقي للإمبريالية والحكم الاستعماري، وربما كانت البلدان الأفريقية المثال الأكثر وضوحاً على ذلك، لكن هذا المصطلح يمنح الآن نظرة مختلفة تماماً عما وصفه منظرو التبعية بالعلاقة بين المركز والأطراف في الاقتصاد السياسي العالمي أو العلاقة بين "الغرب والباقي".

وبالنظر إلى العلاقة السابقة غير المتوازنة بين عديد من بلدان الجنوب العالمي والشمال العالمي سواء خلال عصر الإمبراطوريات أو أثناء الحرب الباردة، فليس مستغرباً أن عديداً من دول الجنوب العالمي تختار الآن عدم الانحياز إلى أي قوة عظمى، بعد أن نفضت عن كاهلها صورة العجز الاقتصادي الذي كان يلاحقها تحت تسمية "العالم الثالث" أو "العالم المتخلف" الذي لا ينطبق على الجنوب العالمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


مكان ثروات العالم

ومنذ مطلع القرن 21، أدى تحول مراكز الثروة في العالم من شمال ضفتي المحيط الأطلسي إلى آسيا والمحيط الهادئ إلى قلب كثير من الرؤية التقليدية حول مكان توليد ثروات العالم، وفقاً لما أشار إليه البنك الدولي، وبحلول عام 2030، يتوقع أن تكون ثلاثة من أكبر أربعة اقتصادات في العالم من "الجنوب العالمي" وهي بحسب الترتيب الصين، والهند، والولايات المتحدة، وإندونيسيا.

وعلاوة على ذلك، فإن الناتج المحلي الإجمالي من حيث القوة الشرائية لدول "البريكس" التي يهيمن عليها الجنوب والتي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا يفوق نظيره في مجموعة الدول السبع الكبرى في شمال الكرة الأرضية، ناهيك باحتمال توسيع دول البريكس لتضم دولاً أخرى من شأنها زيادة الفارق لصالح دول الجنوب، كما أن هناك مؤشراً آخر على تحول أماكن توليد الثروات العالمية وهو أن عدد أصحاب المليارات في مدينة بكين الصينية يفوق عدد المليارديرات في مدينة نيويورك الأميركية.

تعزيز الرؤية السياسية للجنوب

غير أن هذا التحول الاقتصادي يسير الآن جنباً إلى جنب مع تعزيز الرؤية السياسية لدول الجنوب العالمي، التي تؤكد نفسها بشكل متزايد على الساحة العالمية، سواء كان ذلك من خلال وساطة الصين بين السعودية وإيران، أو محاولة البرازيل الدفع بخطة سلام لإنهاء الحرب في أوكرانيا.

وأدى هذا التحول في القوة الاقتصادية والسياسية إلى نزوع خبراء في الجغرافيا السياسية مثل باراج خانا وكيشور محبوباني إلى الكتابة عن قدوم ما وصفوه بـ"القرن الآسيوي"، بينما تنبأ آخرون، مثل عالم السياسة أوليفر ستوينكل عن "عالم ما بعد الغرب" في وقت تظهر فيه دول جنوب الكرة الأرضية عضلاتها السياسية والاقتصادية التي لم تكن تتمتع بها "البلدان النامية" و"العالم الثالث".

صناع السياسة في واشنطن

وبينما تسعى دول الجنوب العالمي منذ فترة طويلة إلى ممارسة قوتها على المسرح العالمي، يحتاج صناع السياسة في واشنطن إلى إطار عمل جديد بعد أن كشفت حرب أوكرانيا وأزمة الغذاء والتوترات مع القوى الغربية وتنديد عدد من الشخصيات في الجنوب العالمي بعدم المساواة ومطالبتهم بإصلاح المؤسسات الدولية إلى تودد الولايات المتحدة للدول الأفريقية، وبدء اهتمامها بتدشين مزيد من مراكز الدراسات والبحوث التي تنقل لها وجهات نظر دول الجنوب العالمي بشكل أفضل.
وبحسب الباحثة في مركز "ستيمسون أود دارنال"، فإن هذا يعني الاعتراف بأن دول الجنوب شركاء مهمون، وأنه يجب على الولايات المتحدة تجنب ممارسة الضغط على هذه الدول أو تجاهل رغبتها في الاستقلال السياسي، ولكي تغير السياسة الخارجية للولايات المتحدة مسارها، يجب أن يتعرض المشرعون في الكونغرس لمزيد من وجهات النظر من الجنوب العالمي، بدلاً من تطوير سياسات تستند إلى المفاهيم الخطأ، من أجل تعزيز مساحات السياسة الجديدة المخصصة لدور الجنوب العالمي في النظام العالمي كخطوة أولى.

لكن الإصلاح الذي تتطلبه هذه العملية يستدعي إنشاء مؤسسات دولية جديدة، وهو ما يشكل تحدياً معقداً نظراً للحاجة إلى إيجاد توافق في الآراء في شأن المبادئ والتمثيل وأساليب العمل، حيث تظهر قضية إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي لم تحل، إلى أي مدى يمكن أن تصبح مثل هذه العملية معقدة، مع ما لا يقل عن خمسة مقترحات للإصلاح.

وفي حين ازدهرت المؤسسات المتعددة الأطراف غير الغربية، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره الصين، وبنك التنمية الجديد الذي أنشأته دول البريكس، إلا أن انتشارها لا يزال محدوداً مقارنة بالمنظمات الدولية التقليدية، ولهذا ربما تتمثل الخطوة الأولى للإصلاح في دمج أفضل لوجهات النظر من الجنوب العالمي في السياسة الدولية بحيث يمكن خلق مساحات ترفع الأصوات من هذه البلدان في شأن قضايا تشمل التنمية والحوكمة والأمن والتجارة وتغير المناخ، ما يؤدي إلى زيادة الوعي بين صانعي السياسة في الولايات المتحدة وخارجها حول قيم البلدان التي يتكون منها الجنوب العالمي، بالتالي تشكيل سياسة خارجية للولايات المتحدة موجهة نحو تحقيق المنافع المتبادلة في ما يتعلق بالسلام والأمن والازدهار البشري.

المزيد من تقارير