Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

4 كاتبات "حالمات" واجهن النازية والستالينية فكرا ونضالا

الألماني إيلنبرغر يستعيد مبادئهن الفلسفية ومواقفهن الجريئة

لوحة لناصر نعسان آغا (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

الألماني إيلنبرغر يستعيد مبادئهن الفلسفية ومواقفهن الجريئة

جمع الفيلسوف الألماني ولفرام إيلنبرغر في كتابه "زمن السحرة" بين أربعة من المفكرين الكبار، لودفيج فيتغنشتاين ومارتن هايدغر وإرنست كاسيرير ووالتر بنيامين. وأشار إلى أن الرابط بينهم، هو السعي بقوة إلى تغيير العالم في فترة ما بين الحربين العالميتين، من خلال لفت الناس إلى الواقع بكل سحره وغموضه وتعقيداته وما قد تفضي إليه تلك الرؤية من الوصول إلى الحريات المنشودة. ينتهي سرد إيلنبرغر عن الرجال الأربعة في عام 1929، ليستكمل في كتابه الجديد "الحالمات: أرندت، بوفوار، راند، وفايل، وقوة الفلسفة في أحلك الأوقات" قصة السعي إلى الحرية مع وصول هتلر إلى السلطة عام 1933. غير أنه هذه المرة يجمع بين أربع مفكرات، ولدن تباعاً بين عامي 1905 و1909، وقدر لهن عند حافة الشباب والنضج أن يجابهن أهوال أكثر العقود ظلمة في تاريخ أوروبا.

الباحثات عن الحرية

صدر كتاب إيلنبرغر حديثاً عن دار بنغوين بترجمة شون وايتسايد الذي سبق أن ترجم له "زمن السحرة" عن الألمانية. غير أن وايتسايد هذه المرة قام بتغيير العنوان من "نار الحرية / Feuer der Freiheit" التي تجمع بين عالم مشتعل وتبعات تحرر المرأة تحديداً، إلى "الحالمات"، باعتباره أفضل للأذن الإنجليزية، أو ربما لإضفاء نوع من السمو على سير المفكرات الأربع اللاتي شكلن تاريخ أوروبا في فترة عصيبة. وقد تشابكت حياتهن بدءاً من الميلاد، مروراً بالمعاناة، وانتهاء بمحاربة الأنظمة الشمولية أياً كان اسمها وأهدافها، بمنتهى العناد والضراوة.

مثل وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا، نقطة تحول في حياة المنظرة والباحثة الألمانية من أصول يهودية حنة أرندت. إذ قدر عليها أن تخوض رحلة هرب دائم، من برلين بعد أن اعتقلها الغستابو لفترة، إلى باريس ثم إلى لشبونة لتستقر في نيويورك في نهاية المطاف. في كتابها "أصول الشمولية" الذي كتبته بين عامي 1945 و1949، استطاعت أن تعرف المقصود بالمصطلح الناشئ عن صعود النازية والشيوعية، على أنه "مزيج من الإيديولوجيا والإرهاب" وراحت تتبع أصوله في الأنظمة الكليانية، لتخلص إلى أنه "انعطافة نكوصية لم يشهدها تاريخ الفكر الأوروبي من قبل". وفي كتابها "الوضع البشري"، تنبأت بخطر الأتمتة الذي حدست بقدومه من الانفجار المعرفي الهائل، وقدرة التفكير على مواكبته: "وفي هذه الحالة ستجري كل الأمور كما لو أن دماغنا، الذي يمثل الشرط المادي والطبيعي لأفكارنا، لم يعد بإمكانه البتة أن يتبع ما نفعل، بحيث سنكون في حاجة، مستقبلاً لآلات لتفكر ولتتكلم عوضاً عنا. وإذا اتضح أن المعرفة والفكر افترقا فعلاً، فإننا سنصبح اللعبة والعبيد، لا بيد آلاتنا، بل بيد معارفنا التطبيقية وهي كائنات بلا عقل تحت رحمة كل الاختراعات الممكنة تقنياً، مهما كانت قاتلة".

الفرد والبشر

لم تكن حنة تستسيغ أن يصفها بعضهم بالفيلسوفة، على رغم دراستها المبكرة للفلسفة، وفضلت أن تصف نفسها بالمنظرة السياسية، فهي على نقيض الفلاسفة الذين يتعاملون مع الإنسان الفرد، شملت فلسفتها البشر ككل، بدعوى أنهم من يسكنون الأرض وليس الإنسان كما قد يظن. وعلى عكس هيدغر الذي اتهم بدعمه للنازية وطاولها بسببه كثير من اللغط، نظراً إلى ما يربطهما من  علاقة حميمية طويلة، إلا أنها على نقيض هيدغر، دفعها وصول النازيين وأيديولوجيتهم الشمولية إلى النزول من عرش الفلسفة بمفهومها النظري البحت، والانخراط في العمل السياسي بشكل عملي أياً كانت التبعات. وكما ساورها الشك في مبادئ حقوق الإنسان في فرنسا عندما شاهدت بعينيها رفاقها اليهود يسلمهم الدرك للنازيين، انتابتها حال من الاشمئزاز من خطط اليهود المنفيين في نيويورك لأجل الحصول على وطن.

على بعد مسافة قصيرة من أرندت، تسكن فتاة رصينة حادة النظرات، كانت يوما تدعى أليسا زينوفيفنا روزنباوم، لكن جنون ستالين دفعها إلى الفرار من بلدها روسيا وتغيير اسمها إلى آين راند. وجدت راند، خلافاً لمنظور حنه ارندت عن اللحمة البشرية التي يستحيل فصلها، أن تعزيز النزعة الفردية وتحدي الإيثار والانتباه لفضيلة الأنانية، هو ما ينبغي علينا اتباعه إذا ما أردنا بالفعل هزيمة الشمولية. واعتبرت العقل هو الوسيلة الوحيدة لاكتساب المعرفة وحذرت من خطورة الأديان على الذات البشرية وانعدام السبب في وجود الله. أطلقت راند على فلسفتها "الفلسفة الموضوعية"، لكن الأكاديميين عمدوا إلى تجاهلها، ولم تحقق الشهرة والذيوع وتتصدر المبيعات إلا بروايتيها "المنبع" و"أطلس متململاً"، إذ تلقفتهما السينما وتحلق حولها حشد من المعجبين، وهم من قاموا بالترويج لأفكارها الفلسفية. إضافة إلى هؤلاء، ظل لراند تأثير كبير في الليبراليين والمحافظين حتى وقتنا هذا. وفي عام 2007 أثارت الأزمة المالية اهتماماً متجدداً بأعمالها، وخصوصاً كتابها "أطلس متململاً" الذي أنذر بالكارثة قبل نصف قرن من وقوعها.

لقاء بين سيمون وسيمون

كان خريف عام 1942، حين فاجأت شابة هزيلة، ضعيفة النظر، الجنرال ديغول بطلبها الانضمام إلى صفوف المقاتلين في الحرب. إنها المفكرة سيمون فايل صاحبة مقالة "قصيدة القوة"، التي دفعها اشتعال الحرب في أوروبا إلى تحليل إلياذة هوميروس لتحذير العالم من العماء وتحجر النفوس الذي أصاب اليونان القديمة. اتخذت فايل منذ مراهقتها سمتاً ذكورياً، وقررت التضحية بحياتها الخاصة من أجل العمل على تحسين الأوضاع الاجتماعية للمحتاجين. ولهذا أمضت أكثر من عام تعمل في المصانع لتتمكن من فهم الطبقة العاملة بشكل أفضل. كتبت تقول: "القوة لا ترحم الرجل الذي يمتلكها، أو يعتقد أنه يمتلكها، كما تفعل بضحاياها: إنها تسحق الطرف الأخير، أما الأول فتسكره. الحقيقة هي أن لا أحد يمتلكها حقاً، فهي التي تمتلكنا". كانت فايل على أتم الاستعداد للموت من أجل مثلها، وتخشى ألا يسمح لها ديغول بذلك. يرد ديغول على إصرارها: "إنها مسؤولية، ولكنها كانت غاضبة". لقد أجمع رفاقها من قبل على عدم السماح لها بحمل بندقية بسبب بنيتها الضعيفة. وتعالت الضحكات والهمسات بشأن الفتاة التي خلال الأيام الأولى من التحاقها بالحرب، انزلقت قدمها في قدر من الزيت المغلي وأصيبت بحروق رهيبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على رغم أن بطلات إيلنبرغر اللاتي كتبن ما وسعهن بشأن الحرب والعدالة والحرية، التقين في الأفكار، فلم يتسن لهن الالتقاء على أرض الواقع. ولكن ذات مرة التقت سيمون دو بوفوارالمفكرة والأديبة، سيمون فايل، القديسة العلمانية التي طالما سمعت عنها، وكان طبيعياً أن تصطدم كلتاهما بالأخرى. كانت فايل تبكي بحرقة على أخبار المجاعة الكبرى في الصين، وهو ما صدم بوفوار، فكتبت تقول: "أغبطها على مشاعرها، إن لها قلباً بوسعه أن ينبض في جميع أنحاء العالم". لكن قلب دو بوفوار كان أكثر تدريباً على القسوة. وبينما آمنت فايل بأن الشيء الوحيد المهم هو قيام  ثورة لإطعام الجياع في العالم، جاء رد دو بوفوار صادماً بأن المشكلة ليست في إسعاد الإنسان ولكن في العثور على سبب لوجوده. نظرت فايل إلى أعلى ثم إلى أسفل، قبل أن ترد: "من السهل إدراك أنك لم تشعري بالجوع من قبل"، وانتهت العلاقة هنا.

لم تعترف الفلسفة الأكاديمية بأفكار فايل، والأنكى من ذلك أنها تجاهلتها تماماً، يبرر إيلنبرغر "لأنها كانت امرأة". من هنا اكتسب كتاب دو بوفوار "الجنس الثاني" أهميته حين صدر بعد أن اختمر غضبها تحت سطوة النوع والاحتلال النازي، وعلى رغم عزوفها عن المشاركة مثل فايل في غمار المعارك، قضت دو بوفوار فترة الثلاثينيات تجرب الحرية، حرية الفكر وحرية الجسد. لقد علمتها قراءة هايدغر وسارتر أن لا أحد يمكنه فهم معنى وجود الإنسان إلا نفسه. وكان أول تطبيق هو الانسلاخ عن نصفها الآخر جان بول سارتر في ما يتعلق بأناته الفردية في الرؤية. كانت سيمون تفكر كرجل، هكذا وصفها والدها متفاخراً بها وهي ما زالت صغيرة، لكن ما لم يعرفه الأب أنها أيضاً ستتصرف كرجل. كتبت الطالبة بيانكا بينفيلد في سيرتها الذاتية، أن أستاذتها سيمون دي بوفوار تحرشت بها، وفي عام 1943 تم توقيفها عن التدريس بسبب ادعاء مشابه من طالبة أخرى لا يتجاوز عمرها الـ17.

في هذا العام تحديداً، في الـ24 من أغسطس (آب)، ماتت فايل في بلدة كينت بعد أن عانت السل، ولم تكن تبلغ من العمر سوى 34 سنة. وعلى رغم مرضها، رفضت أن تأكل إلا الفتات، وطلبت من الممرضات إرسال الحليب الذي قدموه لها، لمواطنيها الجائعين في فرنسا. ومع قصر عمرها، تجاوزت أعمال فايل الـ20، واعتبرها ألبير كامو أعظم عقل في عصرها، كما رأى أن ما صاغته فايل في شكل متطلبات ملحة، ما لم تأخذ بها أوروبا، فلا أمل في تصور أية مكانة لها في المستقبل.

المزيد من ثقافة