Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انقلاب النيجر "مأزق" يواكب تحولات المشهد الدولي

القوى العالمية تنتظر تطبيق خيار التدخل العسكري ضد سلطة نيامي الجديدة لتحدد موقفها

هناك قرار من "إيكواس" بنشر قوات الاحتياط فيما تنتظر القوى العالمية تطبيق التدخل العسكري فعلياً (أ ف ب)

ملخص

يكتسب الانقلاب العسكري في النيجر أهمية كبيرة في المشهد الدولي الراهن وتحولاته المعقدة، إذ إنه ينقل الوسط الأفريقي إلى قلب التنافس والصراع الذي بجري منذ سنوات عدة على المسرح العالمي

يكتسب الانقلاب العسكري في النيجر، الدولة الفقيرة في وسط أفريقيا، أهمية كبيرة في المشهد الدولي الراهن وتحولاته المعقدة، وبشكل يتجاوز وزن هذه الدولة وتأثيرها الإقليمي والدولي، فهذا التطور ينقل الوسط الأفريقي، في الأقل حتى الآن، إلى قلب التنافس والصراع الذي يجري منذ سنوات عدة على المسرح الدولي، وفي الحقيقة إن ما يحدث متعدد الأبعاد.

تطورات متداخلة

دانت القوى الغربية بقوة الانقلاب العسكري، وهددت بعقوبات شديدة ضد المجلس العسكري وطبقت بعضها بالفعل، ثم ما لبثت أن اكتفت بالتركيز على تحرك المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" التي عارضت انقلاب نيامي وهددت بالتدخل العسكري، ثم تذبذب موقفها بعد أن اصطدم الموقف بمعارضة قوية من بعض الأطراف، وتهديد مضاد من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، واكتمل هذا بمعارضة مجلس الشيوخ في نيجيريا لهذا التدخل، وهي أكبر وأهم دول التجمع، لكن الأمر حسم في قمة المنظمة، الخميس الماضي، بأن هناك قراراً بنشر قوات الاحتياط، أي عدم إلغاء خيار التدخل العسكري على رغم أن هذا قد يؤدي إلى انقسام "إيكواس" واتساع الصراع والحرب الإقليمية، وربما تدهور أخطر في المنطقة. وعلى رغم هذا بدا صوت وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن واقعياً وجديداً على السياسة الأميركية بالدعوة إلى تفضيل الحل الدبلوماسي وعدم ملاءمة الحل العسكري.

وفي وقت تبدو فيه فرنسا الطرف الرئيس المستهدف في حالة ارتباك وتحفز، وكانت أول من أيد قرار "إيكواس"، بل وكانت قبل هذا القرار تصر فقط على التصريح بأن أحداً لم يطالب بخروج قواتها، التي تبلغ قرابة 1500 جندي، وهو ما امتد إلى الدول الغربية الأخرى التي تنشر بعض قواتها في نيامي، ومنها الولايات المتحدة، 1100 جندي، وكذلك إيطاليا وألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي بأعداد أقل، وجميعها اعتبرت أن مغادرتها تكون بأمر سلطة شرعية، حتى جاءت أنباء العملية الجوية الفرنسية التي لم يتضح بعد ما إذا كانت مقدمة لتدخل أوسع أم أن باريس لن تخاطر بقواتها المحدودة نسبياً.

وفي الخلفية من المشهد روسيا التي حرصت واشنطن على نفي أية صلة لها بهذا التطور، وإن كان قائد "فاغنر" أبدى تعاطفه مع الانقلاب، كما ترددت فكرة لجوء القادة العسكريين في النيجر إليه في حالة استخدام الخيار العسكري ضدهم، علماً أن قوات "فاغنر" تقف على مسافة قريبة في كل من مالي وأفريقيا الوسطى، وهما الدولتان اللتان طردتا القوات الفرنسية وتعارضان أي موقف ضد ما يحدث في نيامي، ويدعمهما غينيا.

فرنسا وحافة الهاوية

لا أظن أن أحداً لم يتوقع أن تكون فرنسا في قلب هذا التطور، ومنذ الساعات الأولى ربطت التعليقات ما يحدث بأنه جزء من عملية تراجع النفوذ الفرنسي المستمر أفريقياً ودولياً، فبعد الصدمات التي واجهتها في مالي وأفريقيا الوسطى، تمثل حالة النيجر صدمة أكبر لباريس، حيث تعتمد على اليورانيوم من هذه الدولة الأفريقية، وهو العنصر المسؤول عن تشغيل جزء من طاقتها النووية الكهربائية.

 

 

الموضوع إذاً يكتسب أهمية استراتيجية، فضلاً عن حساسيته الكبيرة بعد تقليص نفوذ باريس في دولتي مالي وأفريقيا الوسطى لصالح روسيا، والغضب والقلق الفرنسي واضحان منذ البداية، والاتهامات من جانب قادة النيجر واضحة بأن فرنسا تقف خلف مواقف "إيكواس"، وكذلك استنزاف ثروات البلاد تهمة مطروحة، حتى إن التظاهرات الشعبية التي تحركت دعماً للانقلاب رفعت شعارات معادية لفرنسا، بل والتظاهر المباشر أمام السفارة الفرنسية.

وكعادة الإعلام في معظم دول العالم كان هناك ما يشبه الاكتشاف، مع أن هذا واضحاً وجلياً طوال الوقت، بأن هذه الدول استقلت شبه عسكرياً عن فرنسا، ولكن باريس تمكنت من إبقاء استعمارها الثقافي والاقتصادي في معظم مستعمراتها القديمة، وحافظت على نفوذ سياسي معتبر استندت إليه من خلال أدوات سياسية وثقافية واقتصادية ومواصلة الحضور الدولي الذكي الذي لا يستند إلى عوامل قوة حقيقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المشكلة أن هذا الصراع القديم الجديد للحصول على استقلال حقيقي وليس شكلياً تداخل مع معضلة أخرى، وهي أن هذه المجتمعات لم تتمكن من بناء حياة سياسية ناضجة تجعل من معارضة النفوذ الفرنسي بقيادة قوى سياسية حزبية مشروع سياسي ناضج وحداثي، إذ نجحت فرنسا من خلال ربط الكوادر المتعلمة بها لمواصلة نفوذها السياسي والتضييق على معارضيه، وهو ما ساعد قادة الانقلابات العسكرية في الدول التي تتمرد حالياً على هذا النفوذ على رفع هذه الشعارات التي تجد لها الآن صدى في الشارع النيجري.

ولا ينفصل هذا المشهد عما تعانيه فرنسا داخلياً وخارجياً أخيراً، ولقد وصفت حالتها في موضع آخر بأنها تاريخياً تسير بشكل متعرج، لكنها اليوم تواجه تحديات غير مسبوقة، وقد تتحول هذه المسارات المتعرجة إلى خط هبوط وتراجع.

مشهد شامل

يمكن القول إن أهم دلالات تطورات النيجر أنها تكشف عن أمور عدة، أهمها على الإطلاق أنه في زمن التحولات وإعادة ترتيب الأوراق استعداداً، سواء لبزوغ أو عدم تبلور ترتيبات دولية جديدة، يسهل تحول أي صراع أو تناقض مصالح إلى بؤرة الصراع الدولي الرئيس، ولما كانت البؤرة الراهنة هي محاولة قوى صاعدة إنهاء الترتيبات المتضمنة سيطرة الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة على المجتمع الدولي، فإن أية حالة صراع أخرى تبزغ لعواملها الذاتية تتحول بسهولة لتنضم إلى نسق الصراع الرئيس الجاري، وبخاصة أن جزءاً من هذا الصراع في حالة النيجر موجه ضد هيمنة القوة الغربية الاستعمارية السابقة.

يفسر هذا الحذر الأميركي وعدم اندفاعها في دمغ الانقلاب والتركيز على الحلول السلمية، فواشنطن تدرك أن الاستنزاف الذي تقوده ضد روسيا في أوكرانيا سيجعل من فتح جبهات جديدة في أفريقيا مصدر قلق كبير لاعتبارات كثيرة منها أخطار الخسارة، في وقت لم تكن أبداً مستعدة لتدخلات عسكرية في القارة الأفريقية منذ أحداث الصومال، ولعدم ثقتها في قدرة الحلفاء الإقليميين، فضلاً عن تعقيدات الحرب ضد العناصر المتشددة.

وفي المقابل فإن روسيا أيضاً المنشغلة في أوكرانيا لا تريد فتح جبهة جديدة، وإن كانت على الأرجح قد تجد فيها أوراق مقايضة جديدة لو اضطرت إلى ذلك، بمعنى آخر أننا أمام حالة صراع جديدة يمكن أن تضاف لساحات الصراع الدولية، ولكن أطراف الصراع العالمي منهم واشنطن وموسكو لا تريدان الاندفاع بعد، أما الطرف المهم الحاضر الغائب، أي الصين فقد يقفز في أية لحظة لتوظيف هذه التطورات.

ملفات عالقة

يتأكد مرة أخرى أن عدم إغلاق ملفات مثل "بوكو حرام" و"داعش" وغيرها من التنظيمات المتشددة في أفريقيا يعني أن هذه الملفات تصبح قنابل موقوتة أكثر خطورة عندما تحدث تطورات سياسية جديدة مثلما حدثت الآن وتقيد من حركة أطراف الصراع كلها، وبشكل خاص الذين حاولوا توظيفها في البداية.

 

 

يرجع عدم إغلاق هذه الملفات إلى أسباب عدة أولها اكتفاء الفاعلين الغربيين المسيطرين بالحل العسكري الجزئي لاستخدام هذه الملفات من أجل الوجود والسيطرة وليس الحل الشامل، فضلاً عن غياب حل فكري واقتصادي لنزع فتيل هذه المشكلة من جذورها، وفي الحقيقة هذا الموضوع يحتاج معالجة مستقلة، لأنه يثبت النهج الغربي القاصر والمضلل في التعامل مع هذه القضية التي أضافت كثيراً إلى عراقيل عديدة قائمة تحول دون التنمية والتطور في هذه المجتمعات وتسمح بتكريس الوجود الغربي وسيطرته دون حلول شاملة.

وفي النهاية أصبح هذا الانقلاب مأزق لكل الأطراف بشكل أو بآخر، فهو مأزق واضح للقوى الغربية، وبخاصة فرنسا كما سبق، وكذلك لدول الجوار الأفريقي، حتى لو تريثت "إيكواس" عن قرار التدخل الذي اتخذته، فالتباعد والتشرذم يتزايد، وهو مأزق للنيجر التي على قادتها الجدد مناطحة ظروف وحصار صعب من القوى الغربية التي ما زالت تفرض سطوتها على مقاليد الأمور، إضافة إلى حصار من الاتحاد الأفريقي و"إيكواس"، وذلك ما لم تتخذ واشنطن سياسة براغماتية جديدة بالتعامل مع هذا الانقلاب بما لا يدفعه تجاه موسكو وبكين، وبالتضحية بمصالح ونفوذ فرنسا.

قد يكون هذا أحد خيارات واشنطن التي تستبقها بالتعاطي الهادئ مع هذه التطورات، ولكن يظل هذا متوقفاً أيضاً على توجهات القادة العسكريين في هذه الدولة وما إذا كانت لديهم توجهات معادية للغرب بشكل عام، وهنا قد تصبح الفرصة سانحة للصين لموازنة الضغوط الاقتصادية الغربية، وهي فرصة ستكون سانحة في معظم الأحوال.

ويبقى أخيراً أن كل هذه الاحتمالات ستتوقف على ما إذا كان سيتم تطبيق خيار التدخل العسكري ضد الانقلاب، ومصير هذا التدخل، وما إذا كان سيحسم سريعاً أم سيتحول إلى ساحة أخرى للصراع الدولي الجاري.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل