Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلاسفة وشعراء يستيقظون من رقادهم ليتحاوروا في لقاء

المغربية نعيمة فنو تصوغ الأفكار الفلسفية والوجودية في نصوص مسرحية

العلاقة المضمرة بين الفلسفة والشعر (أكاديمية الفلسفة)

ملخص

المغربية نعيمة فنو تصوغ الأفكار الفلسفية والوجودية في نصوص مسرحية

يصعب على قارئ هذا الكتاب، للشاعرة والفنانة التشكيلية المغربيّة نعيمة فنو، تصنيفه أو تجنيسه أدبياً ضمن "خانة" محدّدة. ولا داع لمثل هذا التجنيس أو التصنيف، فهو في الأساس، وبحسب تقديري وتقدير كثيرين، كتاب شعريّ بروح الفلسفة المضمّخة هنا، من جهتها، بلغة الشّعر. الشعر هنا بمثابة الحاضنة التي ترتاح فيها الأسئلة الفلسفية العظمى، وحيث الفلسفة تلتقي مع الفنون والعلوم والإبداعات الإنسانية، في مجالات شتّى، ومن أقوام ومناطق متباعدة مكانياً، لكنّها تتقارب وتلتقي في إطار شعريّ وفلسفيّ يوحّدها.

وعلى رغم ما هو معلوم من علاقة الشعر بالفلسفة، ومن تداخل بين روح كلّ منهما، بحيث لا يقوم أي منهما من دون الآخر، إلّا أن الشاعرة فنو تجترح في نصوصها هذه لوناً جديداً، وتبتكر صيغة إبداعية للجمع بين هذين النوعين من الإبداع؛ أعني الفلسفة والشعر، فهي تستضيف في نصوصها حشداً من كبار الفلاسفة والشعراء والفنانين، الرسّامين والنحّاتين والموسيقيّين، قدماء ومعاصرين، من ثقافات وحضارات عدّة، لتقدّم من خلالهم "عرضاً مسرحياً" تتنوّع مادّته وحواراته بين الفكر والفن والعلوم الرياضيّة والفيزيائية، بما يجعل من النصّ حاملاً لأبرز قضايا الإنسان وهمومه الوجودية والمعيشية.

في كتابها هذا (دار خطوط وظلال 2023)، تحاول الشاعرة المغربية، ذات الميول الفلسفية واللسانية والميثولوجيّة و"الفيلولوجية" وغيرها، أن تضع الفلاسفة في حوارات فلسفية ذات طابع وجودي غالباً، وتصوغ حواراتهم وأفكارهم هذه بلغتها الشاعرية. وفي إحالة على طبيعة عملها هذا، فهي تبدأ تجربتها بمقولة الشاعر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: "متى يكون الجواب عن السّؤال: ما هي الفلسفة؟ جواباً متفلسفاً. متى نتفلسف؟ يبدو أن هذا لن يتحقّق إلّا بدءاً من اللحظة التي نعقد فيها حواراً مع الفلاسفة". وهنا نطلّ على أبرز الحواريّات والأفكار الفلسفية- الشعريّة في الكتاب.

هيغل وهايدغر في حوار الوجود والعدم

في لقاء بين الفيلسوفين الألمانيين هيغل ومارتن هايدغر، اللقاء الذي يجري في متحف، وهما يقفان أمام لوحة للفنان البلجيكي رينيه ماغريت بعنوان "عطلة هيغل"، وهي بحسب هايدغر "لوحة التجلّي المحسوس للفكرة". هنا نستمع في الحوار إلى هايدغر يقول لرفيقه إنّ "الأعمال الفنيّة يا هيغل روح أصحابها". لكن الحوار بين هيغل وهايدغر لا يتوقّف عند سؤال الفنّ، بل يتعدّاه إلى أسئلة الوجود والكون، والثنائية المعروفة (الحياة/ الموت) حيث "كلّ منّا يجرّ موتَه، توأمه الحقيقيّ، من رِجْل واحدة لحظة الولادة، نسابقه للخروج إلى ساحة الوقت، إلى متحف الأجساد...".

ولعلّ حوار هيغل- هايدغر من بين أغنى الحوارات في الكتاب، فهو ينطلق من لحظة الولادة متسائلاً "أوَليست الصّرخة الأولى محرّكاً لعدّاد الزمن؟". بل إن الصرخة الأولى "تشكّل المادّة الخام للُّغة". ثم يتطرّق الحوار إلى "القلق" وما يسمّيه هايدغر "القلق المطلق"، القلق الذي يرى أنه "يشبه وضع رأسك على مخدّة تتزاحم بها جماجم الموتى الليّنة وشهوات العذارى التي يمتصّها العدم بكلّ عنف". وحيث "العدم، كما يرى، نافورةُ ما لا نهاية له من الاحتمالات الوجوديّة للكائنات المتصارعة داخل الهيولى". ثم فجأة وإذا بهما، هيغل وهايدغر "في الجنّة، في مكتبة بورخيس"، لتذكّرنا الشاعرة بجملة بورخيس الشهيرة "الجنة هي المكتبة". ويعود هايدغر إلى عبارة لهيغل هي "مات الفنّ" فيرى فيها "شذرة شعر، ترنيمة... عبارة لاستقدام الآلهة".

وفي أجواء شديدة الرومانسيّة، ترسم لنا الشاعرة لحظات من لقاء هايدغر مع رفيقه هيغل: "اترك جدَلك اللّامتناهي ودعنا نستمتع بنخب اللحظة... لنغنّي بأعلى صوت لتطير عصافير الغابة السّوداء نحو أوكارها المُزهرة بين أغصان أفكارنا". فيستقبل هيغل دعوته بذراعين مفتوحتين: "اترك العدم الزّئبقيّ يتسلّل إلى تفاصيلنا الصغيرة، سلام عليك وعلى رفيقنا الأنقى لاو تسي"، في إحالة على فيلسوف الصين وحكيمها المعروف. ويكمل: "لنترك مجالاً لتجاذب المتناقضات. لنخطُ فوق دائرة التّاو الشبيهة بعجلة مارسيل دوشامب".

هكذا تتناسل أسماء الفلاسفة والفنانين في النصّ الواحد، من نصوص الشاعرة، فتختلط التجارب ما بين الفكر والفنّ. وفيما هما يتحاوران حول الجدل، وولادة فكرة ثالثة من لقاء وجدل فكرتين، يحضر بينهما هولدرلين "المتصوّف الحزين الذي يرتدي سماء ممزّقة كثوب فقير ليلة العيد"، يحضر كفكرة ثالثة، فيهتف هايدغر: "ما أجلّ القدر حينما يُرسل الشعراء!". وهنا تختلط أفكار الفلاسفة والمبدعين الكبار بصوت الشاعرة، فلا يعود القارئ يميّز بينها جميعاً، لكن المؤكد هو أن الصياغة، وحتّى الأفكار والتأمّلات والرؤية الأخيرة، هي للشاعرة.

فرويد وفوكو وغرائبية اللاوعي

هكذا تجري بقيّة اللقاءات- الحوارات، ففي عيادة سيغموند فرويد نلتقي به مع ميشال فوكو ممدّداً على أريكة، فيما فرويد يقوم  بتنويمه  مغناطيسياً، ويطلب منه أن يطرق "باب لا وعيه"، فيرى فوكو نفسه ينظر "إلى شجرة كطائر بلا جناح... أرى شجرة وحيدة في غابة، تستمع لبعض قصائدي وتغطّي عورتها". ويرى "سبينوزا في غرفة البصيرة يلمّع العدسات، ودانتي إليغيري يرفو جحيمه وجنّته بإبرة وخيط في المطهّر."، ويرى "جلال الدين الرّومي يتدلّى كقرط من أذن الكون وشمس الدين التبريزي من الأذن الثانية. والكندي يطوّع أوردة عوده بأصابع دامية ينتظر مرور جثمان ابن رشد". ثم يبدأ فرويد طرح أسئلته عن الحزن، القمر، قوس قزح، الموسيقى، مُومس برجل واحدة وهكذا... فنستمع إلى ردود فوكو ذات الطابع الغرائبيّ، وفي صوَر شعريّة منتقاة من عوالمه.

وننتقل إلى غرامشي في سجنه وزنزانته، عبر مونولوغ عن أجوائه حيث "المبدع سليل خلوته، مسجون بلا حيطان كفراشة تحوك عزلتها الحريرية بعيون مغمضة".

وفي القبور المجاورة ثمّة مشاهد لكبار الفلاسفة، فنرى سارتر يُراقص حبيبته سيمون دو بوفوار، ويسمع شوبنهاور الحوار فيقول إنّ "حياة الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة". وبدوره يسمع هيغل فيسأل ماركس: "ما الأسبق؟ أليس الوعي؟ فأجابه: بل المادّة". ويقاطعهما فولتير: "عندما يكون الحديث عن المال، فإن كل الناس على دين واحد". ويتدخّل غاستون باشلار: "كم سيتعلّم الفلاسفة لو وافقوا على قراءة الشعراء". ويحرّك فرانسيس بيكون "دُمى الأوهام على خشبة مسرحه بخيوط عناكب أمام دهشة جوقة السّفسطائيّين"، ونرى إميل سيوران يحمل مسماراً ويكتب على شاهدة قبر "المياه كلّها بلون الغرق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 تتواصل الحوارات، بين شكسبير والقدّيس أوغسطين، في زقاق ضيق بين الكنيسة والمسرح، حيث يعترف شكسبير: "لم أحضُر الاعتراف في الكنائس لأني أرى خطاياي مجسّدة فوق المسرح"، في ما يقارب فعل "التطهّر" المعروف في المسرح الإغريقي (كاثارايسز) أو في صالون بارون دو هولباخ. ويحضر سحر المرأة على الفلاسفة: مارغريت التي أغرت فاوست، وبياتريس مع دانتي، والنظام وابن عربي، وأندرياس سالومي ونيتشه، القديسة ديوتيما معلّمة سقراط التي هي "مُرضعتنا ثَدي الفلسفة" وغيرها. ثمّ لقاء رابندرانات طاغور وألبرت أينشتاين، قبل أن ننتهي إلى "المحكمة"، وقُضاتُها هم ابن رشد عن يمينه موسى بن ميمون وعن يساره مونتسكيو، ونتساءل هل هو اختيار لمسلم ويهودي ومسيحيّ؟ والمحامون هم بروتاغوراس وهوميروس وفرانسيس بيكون وإخوان الصّفا وابن الهيثم، وبداية المحاكمة بين صدر الدين الشيرازي ومارتن هايدغر، حول فكرة "الدازاين"، فيدّعي الشيرازي أنّه أول من قال بـ"أصالة الوجود وأولويّته على الماهيّة"، ونقد الكوجيتو وأولويّة الفكر على الوجود، إذ يقول: "نحن فكرة قبل الجسد".

جحيم دانتي ورسالة المعرّي

وفي جلسة المحاكمة بين المعرّي ودانتي، وكما هو متوقّع ممّا هو سائد عن تأثر "الكوميديا الإلهية" بـ"رسالة الغفران"، فإن هذا التأثّر يبدو في حوارهما هنا، كما سيبدو في اعترافاتهما أمام "المحكمة" التي تعقدها الشاعرة في ختام ديوانها، حول الجحيم ومن هم الذين "يؤثّثون أركان الجحيم". وفي الحوار الذي يتضمّن إضاءات على ابن رشد وبغلته، وحديثاً عن "السّيميوطيقا والسّقوط الحرّ نحو الفراغ"، يتوقّف دانتي عند صورة "فرجيل يصبّ الشّعرَ من جرّته على زوايا الكَون وكأنّه اللوحة التي رسمها لنا ويليام أدولف بوجويرو". ونراقب تكدُّسَ الأرواح في قطرة ماء في مخيّلة أنطوني فان ليفينهوك: "الدّوران طهارة، ستتطهّر كالأنبياء، كنبيّ يرعى برج الحمل". وعند عبارة ابن عربي الشهيرة "حتى الدوائر لا يعوّل عليها إن لم تؤنّث".

تختم الشاعرة وكأنّها تتكلّم عن "رؤيتها"، بمقولة نيوتن: "رأيت أبعد من غيري، لأني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني".

هي إذاً تجربة شعريّة خاصّة، بالاتّكاء على تجارب الفلاسفة الفكريّة والإبداعيّة. البعض قد يسمّيها شكلاً جديداً من أشكال قصيدة النثر، وهذا جائز، حيث إن قصيدة النثر- كما أرى- تتّسع لتحتوي الكثير من التجارب الإبداعية ذات النفَس والرّوح الشعريّين، بما في ذلك الشذرة والومضة والخاطرة الشعرية. لكنّ خصوصيّة تجربة شاعرتنا نعيمة فنّو، تقبع في تحويل اللحظة الفلسفيّة العلمية إلى لحظة شعريّة نابضة، فيغدو في إمكان القارئ ملامسة الأفكار في لحظة حيويّتها، وأن يجلس مع الفلاسفة لحماً ودماً وفكراً وتوهّجاً. فعندما يقول هايدغر إنّنا- نحن البشر- "نمزّق جدران الأرحام لنخرج، لنصير حواراً ولغة، لولانا لبقي الكون صامتاً أعمى"، فهو يمنح اللغة والحوار أبعاداً جديدة غير مألوفة، ولنتخيّل الكون فارغاً من دون الإنسان الذي يملك اللغة والحوار!

إنّه مسرح الحياة أيضاً. لكنّه، في نصوص الشاعرة، مسرح افتراضيّ، يستلهم النصّ الفلسفيّ ويصوغه شعراً بالمتخيّل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة