Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"توابل تنبكتو" تفسد وليمة الطباخ الروسي

فراغ بريغوجين في الساحل الأفريقي يحرك رمال الصحراء والذهب والأساطير

مدينة تنبكتو التاريخية شمال مالي (اي بي سي نيوز)

ملخص

 تداعيات مقتل زعيم "فاغنر" على الجبهات التي تنشط فيها مجموعته لا تزال في طور التشكل، فما علاقة اغتيال بريغوجين بانقلاب النيجر وتنامي نفوذه بعد الذهب الأفريقي؟

تفرق دم فقيد "فاغنر" بين القارات وشعوبها والقبائل مثلما تعددت ولائمه وصفقاته، شهيداً في بلدة وخائناً في جاراتها، حتى صار مجالاً واسعاً للتأويل لا يكاد يتفق عليه حتى الروس مواطنوه و"فاغنر" رفاقه في السلاح، بل إن بوتين، غريمه نفسه، بدا حيراناً إلى أي جانب من طباخه المطيع أو المتمرد يميل، في حال من عدم اليقين لا تستثنى حتى تنبكتو القصية جنوب الصحراء الكبرى.

ولئن كان هذا النوع من الانقسام يطبع شخصيات مثله في الحياة وعند الرحيل، أمثال قاسم سليماني وأبو بكر البغدادي وأسامة بن لادن وغيرهم من زعماء التنظيمات المارقة والإرهابية، فإن ارتباط يفغيني بزعيم استثنائي هو بوتين ووارث للإمبراطوريات، جعلت الانقسام حوله أشد وطأة، وساعد في ذلك ختام فصول روايته المثير عندما تمرد على صانع أمجاده وصار "القتيل المؤجل"، حتى قبل أن تهوي طيارته وتحترق على بعد 200 كيلومتر من موسكو التي استفزها من قبل بالوقوف على أبوابها متوعداً كما لم يتجرأ أحد من قبل، وإن كان هتلر ونابليون وغزاة آخرين ظلت الساحة الحمراء محرمة عليهم، مهما تحرشوا بها عن بعد "وهموا بما لم ينالوا".

بين التأبين والتنديد

وفي بلدة بنش الواقعة قرب إدلب في شمال سوريا، توثق "إيرو نيوز" الإنجليزية في إحدى وسائط الفيديو مشاهد لعدد من الفنانين وهم يودعون زعيم "فاغنر" المثير للجدل على طريقتهم بأسنان الذئاب محاطاً بالقنابل والمتفجرات، وممسكاً بفأس يقطر دماً على إحدى المباني المهدمة جراء المواجهات المسلحة بين التنظيمات هناك وعناصر النظام السوري المدعومة دائماً إما من روسيا و "فاغنر" أو من إيران وميليشياتها الطائفية، إشارة إلى التنديد بالرجل وما يعتقد بأنها جرائم لا تغتفر بحق السكان خلّفها في تلك البلدة الشهيرة قبل الثورة السورية بوداعتها وزيتونها.

وعلى الضفة الأخرى من الأراضي السورية لا يحتاج الأمر إلى كثير تأويل إن أقام النظام وحلفاؤه الروس هناك سرادق العزاء لأحد المدافعين بشراسة عن دمشق والساحل الاستراتيجي، لكن الأسى في هكذا مواقف هو الآخر ينبغي أن يكون "مكنوناً في الصدور"، فلئن كان الرئيس بوتين أبّن القتيل وأثنى على بعض سيرته البطولية في مواجهة ما يسميه النازية في أوكرانيا، فإن ذلك شيء وغفران الخيانة شيء آخر لم يتفوه به الكرملين قط، بل إنه أبقى الباب موارباً إن كان الرئيس سيمشي في جنازة رجله المخلص أم ينأى بنفسه عنه، نبذاً لذلك الشق الرذيل منه.

وهكذا فإن تبرؤ موسكو من اغتيال يفغيني لا يصل إلى تكريم "الخائن" حتى وإن شمله عطف الرئيس بإمهاله وإسداء التعازي إلى أسرته، فيما فهم أنه على الأرجح تطييب لخواطر أنصاره والمحبين في روسيا الذين أوقعهم الرئيس في حبائل بريغوجين قبل أن يقلب الأخير لولي نعمته ظهر المجن.

لكن العزاء الممنوع في دمشق مباح في باماكو المالية، إحدى أهم عواصم أفريقيا التي زرع فيها الروس رسائلهم الملغمة للغرب، باعتبارها بوابة لدول جنوب الصحراء الاستراتيجية جغرافياً على رغم فقرها المدقع وفسادها السياسي المستشري، فما زرعه الكرملين في مالي سريعاً حصده في بوركينافاسو والنيجر المجاورتين بروية يبدو أنها لم تغب عن ذاكرة الغرب الذي قد يسمح بطرد فرنسا من مستعمراتها، لكنه لن يسمح في تقدير المتابعين باستئثار روسيا بمناطق تهدد أمنه وحدوده، ولذلك كانت الرسالة الأميركية واضحة "إن رحلت باريس فهناك واشنطن".

فخ أفريقيا وورطة تنبكتو

ومع أن تدخل "فاغنر" في ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى بمباركة من روسيا بدأ قبل غزو أوكرانيا إلا أن الحساسية التي قوبل بها تدخلها في الشمال المالي حيث تنبكتو، بوابة الصحراء هناك، يعود لأسباب عدة معقدة أهمها محاولة إسناد جيش باماكو الذي أراد تعويض انسحاب بعثة الأمم المتحدة "منيسما" والبعثتين الفرنسية "برخان" والأوروبية "تكوبا"، بعد أن طالبت مالي بانسحابها مما أجج قلق السكان المحليين الذين لا يثقون في الحكومة المركزية، فضلاً عن الغرب الذي يرى المنطقة مجاله الحيوي وموقعاً يشهد معركته الفاصلة مع التنظيمات الإرهابية التي هاجرت من أفغانستان وسوريا والعراق إلى هناك، مستفيدة من انهيار الأمن في دول المنطقة ومرونة الحركة فيها واتساع رقعة الصحراء الخالية من أي سيطرة تذكر.

وقبل أسابيع من مقتل بريغوجين تداولت وسائل الإعلام الدولية والمحلية دخول القوات المالية معززة بـ "فاغنر" إلى تنبكتو التاريخية وسط استياء كبير من أهاليها الذين يرون أنها مدينة مقدسة، لاحتوائها المراكز العلمية والتاريخية وأكبر تجمع للأولياء في تلك الناحية من أفريقيا، إذ توثق المدونات هناك أن المدينة تستضيف رفات أكثر من 300 وليّ ضمهم ثرى المدينة على حقب عدة، يوم كانت قبلة للعلماء والطلاب والمريدين القادمين من شتى بقاع الأرض وخصوصاً أفريقيا والأندلس، كما خلد الروائي اللبناني أمين معلوف في "ليون الأفريقي" على خطى سيرة الرحالة الأندلسي الحسن الوزان.

نقمة الأولياء تطارد الطباخ

وكان لتلك الصور المتداولة والانتهاكات التي اتهمت بها القوات أثر كبير في إظهار الشماتة بمقتل زعيم "فاغنر" في إقليم أزواد شمال مالي، لدرجة أن عدداً من الساخرين تناولوا أن "توابل تنبكتو" هي التي أفسدت وليمة الطباخ الروسي، مشيرين إلى أن جميع أولئك الذين استباحوها عبر التاريخ كانت خاتمتهم سيئة، وسط اعتقادات محلية تساق على وجه الأسطورة بأن "من يمس جانب الأولياء يلاحقه ثأر أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم يرزقون".

لكن نقمة الأولياء أشد منها في أساطير الصحراء "نحس الذهب"، فهو المعدن الذي لا يزال حتى اليوم يلتقط بأبسط الأدوات في الإقليم، إلا أنه ظل في الماضي فألاً سيئاً متعلقاً بالبلايا على نحو صوره أشهر أدباء الطوارق المعاصرين، إبراهيم الكوني الذي سخر روايته "التبر" لهذا المعنى، عن كيف يدفع السعي خلف الذهب والحظوة به إلى خسارة أعز ما لدى المرء من مقدرات وأهل ونفس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذا السياق ربط كثيرون بين غنى زعيم "فاغنر" بالذهب في أفريقيا والألقاب في روسيا وأوكرانيا، وبين طغيانه الذي جعله يظن الإفلات من العقوبة ممكناً، وهو يهجو بوتين ثم يتمادى ليجهر بالتمرد عليه في محاولة وصفت بالجنونية، وكان بين تأويلاتها أن الثروة حجبت عنه الرؤية حيناً ولاحقته لعنة الذهب الأسطورية التي آمنت بها الأساطير وكفرت بها البورصات والخزائن والعصابات.

وكان زعيم الميليشيات الروسية ظهر في فيديو واسع الانتشار قبل مصرعه يكشف فيه عن خطط منظمته في المنطقة، ومن خلفه صحراء يعتقد أنها أفريقية، فيما كانت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تقول إنه تنقل ما بين أفريقيا الوسطى ومالي وقام بجولة على مروحية عسكرية داخل الأخيرة قبل أن يحط رحاله في روسيا ويلقى مصيره المحتوم، وهي رواية أكدها الرئيس بوتين نفسه غير أنه لم يذكر دولاً بالاسم.

تداعيات الرحيل في الساحل

وإزاء الصدى السلبي الذي خلفته "فاغنر" في سوريا وأوكرانيا وأفريقيا فقد كان تفاعل إقليم تنبكتو وضواحيه مع مقتل زعيمها واسعاً وكبيراً، بحسب تدوينات وسائل التواصل الاجتماعي وتصريحات النشطاء، وسط آمال بأن يدفع إلى مراجعة القيادة الروسية خطتها في الصحراء، بما في ذلك تكليف ميليشيات "فاغنر" بمهمة إخضاع سكانها للإدارة المالية التي يحاولون الانفصال عنها على هيئة "حكم ذاتي" أو إدارة خاصة بالإقليم، أصبحت محل وفاق دولي بعد "اتفاق الجزائر" عام 2015 الذي صادقت عليه الأمم المتحدة.

وفي مقابل ذلك استقبلت باماكو مقتل بريغوجين بقلق بالغ، بوصفه يمثل أحد أوجه علاقتها العسكرية والاستراتيجية بموسكو، إلا أن تقديرات المحللين في صحف الدولة الأفريقية مهتمة أكثر بما يجري في النيجر، فهي بدت واثقة من حلفائها الروس بغض النظر عمن يمثلهم، إن كانت "فاغنر" أو سواها.

واعتبرت صحيفة "ليسور" المالية الناطقة بالفرنسية أن علاقة البلاد بموسكو مستمرة في النمو، إلا أنه لا يمكن تجاهل أن "سلسلة تغيرات الأنظمة التي قادتها المؤسسة العسكرية في أربع بلدان في المنطقة أدت إلى زيادة العنف والتوتر الناجم عن الأزمة الأمنية في تلك البلدان، وتبادل التهم فيما يشبه حرباً بالأسلحة على الـ ’سوشيال ميديا‘".

وعن تداعيات مقتل يفغيني على الوجود الروسي في غرب أفريقيا، تشير صحيفة "أفريكا نيوز" الإلكترونية إلى أن "بريغوجين يتم تذكره في بلدان مختلفة ولأسباب مختلفة، في كييف لقيادته مقاتليه في بعض أعنف المعارك ضد أوكرانيا، وفي روسيا كوطني وخائن لانتفاضته التي لم تدم طويلاً في يونيو (حزيران) الماضي، كما سيذكر بريغوجين أيضاً في بلدان بعيدة من روسيا مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، حيث تعتمد الحكومات على خدمات مجموعة ’فاغنر‘ التابعة له لمواجهة التهديدات الأمنية".

فرصة للمراجعة أو الإصرار

وترجح أن الرأي العام في تلك البلدان ينظر إلى "فاغنر" والحكومة الروسية كشركاء لا غنى عنهم لمساعدة بلدانهم على استعادة سيادتها من فرنسا، وفي حين أن وفاة بريغوجين هي بلا شك مأساة أكبر كما تقول، فقد أصبحت الميليشيات "أداة مهمة للغاية في السياسة الخارجية بحيث لا يمكن لموسكو أن تتخلى عنها، وتعد المجموعة، ظاهرياً في الأقل، شريكاً للمجلس العسكري في مكافحة الإرهاب في مالي وأماكن أخرى في منطقة الساحل غير المستقرة والمعرضة للانقلابات، لكن الهجمات الإرهابية آخذة في الارتفاع وكذلك الفظائع وجرائم الحرب المحتملة التي يرتكبها المقاتلون المرتبطون بـ’فاغنر‘".

وأوردت الصحيفة الأوروبية احتمال أن تبدأ الحكومات العسكرية في الساحل الأفريقي "الشعور ببعض الندم بعد أن تخلت عن نماذج مكافحة الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة وفرنسا لتتعاون مع حمقى بريغوجين"، على حد وصفها.

 

 

ويرى القيادي في "اتحاد حركات أزواد" (سيما) مولاي أغ سيدي أن تعقيدات المشهد على الساحة المالية والأفريقية تشير إلى أن الميليشيات الروسية ستكون أكثر حذراً حيال الانخراط في صراعات الإقليم بعد الغدر بزعيمها، وقال إن "التأثير في المستوى العملياتي سيكون أكثر لأن ولاء قيادات وجنود ’فاغنر‘ سيتغير"، لافتاً إلى أن "مغامرات الجند على الجبهات البعيدة في أفريقيا قد تتراجع خوفاً من الاغتيال، فهناك معلومات تقول بأن هؤلاء يفعلون ما يحلو لهم في مناطق الاستعانة بهم أثناء إجراءات التفتيش، في مثل مباشرة القتل والنهب في حق المدنيين والتجار"، مما يجعلهم عرضة للانتقام من أطراف عدة.

ومع ذلك لا يعول في منطقته المضطربة على أن ينعكس مقتل زعيم "فاغنر" إيجاباً على الساحة، "إلا في حال قام مرتزقة الميليشيات الروسية بالانتقام من كل من شارك في اغتيال قادتهم، وهذا توقع وارد لكن يصعب الجزم به"، في حين دعا روسيا إلى "مراجعة سياساتها في الساحل لتصلح ما أفسده مرتزقتها والانقلابيون، والطلب نفسه موجه إلى تركيا والدول الغربية حتى يكون الجميع مسهماً في إعادة علمية السلام والاستقرار إلى المنطقة".

فعالية "فاغنر" تحت المجهر

لكن مجلة "فورين بوليسي" اتجهت إلى أن مستقبل روسيا في أفريقيا بعد مقتل بريغوجين لا يزال محاطاً بالشك، فقد "اختلف اثنان من المسؤولين الذين تحدثنا إليهما، أحدهما أميركي والآخر أوروبي، مع خط التفكير القائل بأن فعالية ’فاغنر‘ في أفريقيا وأماكن أخرى ستتعطل بسبب وفاة بريغوجين، ومنطقهم هو أن عمليات المجموعة في أفريقيا تعمل كشكل من أشكال امتياز الأمن الجنائي شبه المستقل، ويمكنهم الاستمرار في القيام بما يفعلونه بغض النظر عمن يتولى القيادة الرسمية لـ ’فاغنر‘ وفي ما يتعلق بالنقطة الأولى فإن ما تفعله ’فاغنر‘ مربح للغاية على المستوى الجيوسياسي والمادي إلى الحد الذي يجعل الكرملين لا يسمح لقائدها بالمضي قدماً".

ومع ذلك تشير إلى أن جهوداً مشتركة بين الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية الأخرى لا تزال "تدقق في ما ستعنيه التأثيرات طويلة المدى والتوابع لمقتل بريغوجين بالنسبة إلى جماعة المرتزقة"، إلا أنها غير متفقة على النتائج بعد.

وسواء كان ذهب تنبكتو وأخواتها "التوابل" التي أفسدت وليمة الطباخ الروسي واسع النفوذ، أم دموع أطفال سوريا وأكرانيا، فإن موسكو ستمضي به أو من دونه في كتابة فصول روايتها في منطقة طوت صفحة فرنسا، وتتهيأ لوافد جديد، إن لم يكن روسيا أو أميركا فهناك الصين وتركيا في قائمة الانتظار.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل