Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وأخيرا الحكاية الحقيقية وراء الخلاف النهائي بين ألبير كامو وجان بول سارتر

فرّق صاحب "الطاعون" بين الثوري المحترف والثائر الحقيقي فغضب صاحب "الغثيان"

جان بول سارتر وألبير كامو أيام الصفاء (موقع غيتي)

ملخص

"خطأ كامو الرئيس إنما يكمن في عجزه عن التقاط جدلية التاريخ"

في المدونات الطويلة العريضة للخلافات والصراعات بين المثقفين الفرنسيين في القرن الـ20، يحتل الخلاف بين المفكرين والكاتبين الوجوديين جان بول سارتر وألبير كامو، والذي اندلع بشكل غير متوقع عند بدايات عام 1952، مكانة مميزة هو الذي أسال كميات من الحبر وخلق العديد من التكهنات والفرضيات واصلاً إلى حدّ القول إن رفض سارتر تسلّم جائزة "نوبل" بعدما أُعلن فوزه بها آخر ذلك العقد، فُسّر بأنه ناتج من غضبه لأن زميله اللدود فاز بها سنوات قبله. ونعرف أن كتباً عدة ودراسات أكثر عدداً منها حاولت دائماً العثور على جذور ذلك الخلاف بين مفكرين وأديبين كان من المعروف أن كلاً منها، وعدا عن هوسهما المشترك بالنساء والأدب والحرية طوال السنوات التي كانا فيها صديقين مقربين، يكمل الآخر فكراً وكتباً طوال تلك السنين وكأنهما قلم واحد متبنين العديد من الأفكار والمواقف المتشابهة، في المجال الفلسفي غالباً، وفي شؤون النقد الأدبي بل إلى حدّ ما في المجالات السياسية، حتى ولئن برز بين الحين والآخر في هذه المجالات الأخيرة تمايز بينهما، ربما يتبع أساساً من موقف كل منهما من القضية الجزائرية حتى قبل اندلاع الثورة المطالبة بالاستقلال في الجزائر. فالحقيقة أن سارتر كان منذ البداية مؤيداً لحق الشعب الجزائري في الحصول على استقلاله التام، بينما كانت المسألة تحيّر كامو وبقيت تحيره سنوات طويلة هو الذي كان يؤيد نوعاً من الاستقلال الجزائري لكنه كان يريد، في الوقت نفسه، أن يبقى ذلك البلد الذي هو مسقط رأسه، مرتبطاً بفرنسا بشكل من الأشكال، غير أن ليس ثمة من دلائل حقيقية تشير إلى أن الخلاف بين سارتر وكامو كان حول الجزائر.

 

خلاف بين "رفاق الدرب"

الخلاف كان، بعد كل شيء، في مكان آخر تماماً، كان يتعلق تحديداً بالكتاب الذي أصدره كامو، في خريف عام 1951، بعنوان "الإنسان الثائر" والذي نزل نزول الصاعقة على الأوساط الفكرية الشيوعية، بل على كل أولئك الذين، مثل جان بول سارتر، يسمّون "رفاق الدرب" أي التقدميين والديمقراطيين المؤيدين للحزب الشيوعي الفرنسي وبالتالي للاتحاد السوفياتي، على رغم كل شيء، والذين بدا واضحاً أن كامو يستهدفهم في كتابه وقد صرخ بينه وبين نفسه "لقد طفح الكيل!". صحيح أن كامو لم يدن في الكتاب من سارتر ولا من الشيوعيين ولا حتى من الاتحاد السوفياتي، لكن الرسالة كانت واضحة، وكان الفيلسوف الشاب الدائر في ركاب سارتر حينها، بل سيظل هكذا حتى النهاية، فرانسيس جانسون، والذي كان يشارك الفيلسوف الكبير في تحرير مجلته التي كانت قد بدأت تصدر بعيد الحرب العالمية الثانية "الأزمنة الحديثة" هو الطرف المقابل لكامو في واجهة المعركة التي سوف تندلع، والحقيقة أن سارتر لم يكن يومها في حاجة للتعبير عن غضبه إلى أن يخوض المعركة ضد كامو بنفسه. كان يمكن لجانسون أن يقوم بالمهمة ويفي بالغرض، ومن هنا، وفي العدد الصادر في شهر مايو (أيار) من العام التالي 1952، من "الأزمنة الحديثة"، نشر جانسون في المجلة التي كانت ذات شعبية هائلة في ذلك الحين وتعتبر مقربة من الحزب الشيوعي وناطقة باسم حركات التحرر الوطني والفكر التقدمي عموماً، نشر مقالة نقدية حول "الإنسان الثائر" كانت هي بأكثر من الكتاب نفسه ما فتح المعركة التي ستتواصل حتى رحيل كامو بعد ذلك بعقد من السنين. ولكن قبل التوقف عند مقالة جانسون سيكون من المفيد التوقف عند تلك "الجزئية" في نص كامو، التي أغضبت جانسون ولم يكن وحده الغاضب بالتأكيد. فماذا يقول كامو هنا؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين "الثوري" و"الثائر"

يورد في الحقيقة تلك المقارنة بين "الإنسان الثوري" و"الإنسان الثائر" التي لعلّ أهم ما تسفر عنه هو التأكيد لا أقل ولا أكثر، بأن الأول قد يكون محترف ثورات بينما الثاني هو الثوري الحقيقي، ما يعني أن الأول حزبي أو يدور في فلك الأحزاب بينما الثاني متمرد حقيقي يريد أن يجابه الأوضاع المهترئة التي يعيشها ويعيشها الناس من حوله، وينطلق كامو هنا من تأكيده على أن الرهان الوحيد الذي يمكن خوضه هو الرهان على انبعاثة ثورية حقيقة إذ لا يبقى لنا والعالم كما هو إلا "أن ننبعث في نهضة حقيقية أو نزول"، و"لئن كنا الآن في وضعية تشهد نكران الثورة الحقيقية لذاتها وقد وصلت تناقضاتها إلى حدودها القصوى، فإن تلك الثورة باتت على وشك أن تهلك هلاك العالم الذي خلقته، فلا يعود أمامنا إلا أن نستعيد أمانتنا المعهودة أصلاً للقيام باندفاعة جديدة، ولكن قبل التوغل في هذا يتوجب علينا في الحقيقة أن نوضح ذلك التناقض الذي نشير إليه، وهو تناقض لن يتم تحديده بصورة جيدة حين يقول وجوديونا، على سبيل المثال، أن ثمة وجوداً ملحوظاً للتطور من الانتفاضة إلى الثورة، فالمنتفض في حقيقة أمره ليس ثورياً، صحيح أن الثوري يجب أن يكون ثائراً في الأصل، وإلا فلن يكون ثورياً بأية حال، بل يكون مجرد رجل أمن ومجرد موظف يستدير ليقف ضد الثورة الحقيقية، قد يكون ثائراً من ناحية مبدئية، لكنه يتحول ليقف ضد الثورة، وبالتالي لا تطور هناك من حال إلى أخرى، بل ثمة تواز بين الحالين لا أكثر، وثمة تناقض لا يتوقف عن التفاقم، وفي هذا المعنى يمكن القول إن كل ثائر (محترف) لا يمكنه إلا أن ينتهي إما كأداة قمع أو كهرطوقي، وفي العالم الثوري المرتبط حقاً بتأريخيته، لا شك أن الثورة والانتفاضة توديان إلى المتاهة نفسها، المتاهة المتأرجحة بين الانضواء في سلك الشرطة والجنون".

رد واضح على كلام غامض

حسناً، للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام فلسفياً وعسيراً على الفهم، لكن هذا ليس سوى ظاهره، أما في جوهره فلقد أدرك سارتر ورفاقه المحيطون به أن ثمة في هذا الكلام رسائل عديدة من الواضح أن كامو تعمّد فيها الغموض كي يوصلها إلى "المرسل إليه" فقط. لكن المرسل إليه لا يحب في خوض المعارك أن يُجرّ إليها من دون أن يُذكر اسمه. كان لا بدّ من أن يرد أحد آخر على كامو، وهكذا تولى جانسون المهمة في مقال حمّل عنوانه، بدوره، رسالة مبطنة "ألبير كامو أو الروح الثائرة"، وهنا كان يمكن للعنوان أن يمر من دون تعليق لولا أنه كان يحمل رسالة بدوره تعصى ربما على إدراك غير ذوي الشأن المباشر،  فالحقيقة أن "الروح الثائرة" في هذا العنوان إنما تحيل إلى الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه العمدة "فينومينولوجيا الروح" إذ يتحدث عن تلك "الروح الطيبة التي إذ تسجن نفسها بين مواقع تعتبرها مرفوضة أخلاقياً، تبرر من هذا المنطلق تقاعسها عن الفعل مستحوذة لنفسها بتقاعسها هذا، احتكار امتلاك الحق والحقيقة". وتلكم هي على أية حال "المحاكمة التي يعقدها جانسون في مقاله لكامو" متهماً إياه بطيبة "مزعومة تسهل عليه رفض التاريخ"، وبالتالي بـ"إهمال الدور الذي يلعبه الاقتصاد والشأن الاجتماعي في ولادة الثورات"،  فهو، أي كامو، وفي رأي جانسون، يعمل على نوع من تأليه الإنسان وتنزيهه ثم إذ يرصد هبوط هذا الإنسان من المكانة السامية التي وضعه فيها، يكمل "لعبته رافضاً كل تطور يمرّ به ذلك الإنسان، ولكن باسم أخلاقية سامية جامدة إلى الأبد"، ومن الواضح هنا أن ما يتهم به جانسون، ومن ورائه سارتر، الصديق السابق، إنما هو تمسكه بنزعة مثالية بالنظر إلى أن هذه النزعة هي التي تدفعه إلى مناوأة المنظومة السوفياتية. صحيح ألا جانسون ولا سارتر بالتأكيد كانا يتطلعان هنا إلى الدفاع عن جوزيف ستالين، لكنهما كانا يصران على الدفاع عما يريانه من ضرورة الإبقاء على "شعرة معاوية" مع تلك المنظومة لأن "معاداتها خطأ سياسي فادح في وضعية لا يكون البديل عنها سوى الغرق في رمال الرأسمالية والاستعمار". وهذا يعني في نهاية الأمر أن "خطأ كامو الرئيس إنما يكمن في عجزه عن التقاط جدلية التاريخ"، والحقيقة أن هذا الوضوح "في الرد سياسياً على منظومة فلسفية" كان أقسى من أن يتحمله كامو، فوقعت الواقعة وحل بينه وبين سارتر ذلك الشرخ الذي سوف يدوم إلى النهاية.

المزيد من ثقافة