Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تزين صور الموتى "العائدين" جدران معرض في باريس

أعمال فوتوغرافية فنية تسائل معنى غيابهم وتتناول مراحل حضورهم قبل التواري

صورة فوتوغرافية تجريدية بعنوان "العائد" (خدمة المعرض)

ملخص

أعمال فوتوغرافية فنية تسائل معنى غيابهم وتتناول مراحل حضورهم قبل التواري

منذ افتتاحها عام 1996، تضطلع "دار روبير دوانو للصورة الفوتوغرافية" في باريس في تنظيم معارض تكرّم المصوّر الفرنسي الكبير الذي تحمل اسمه، باستكشافها ممارسات التصوير الفوتوغرافي على مر تاريخه، مركّزةً على النظرة الملقاة بواسطته على الإنسان والواقع. ولا عجب إذاً في المعرض الجماعي الذي ينظّمه القائمون عليها حالياً تحت عنوان "وموتانا؟"، ويهدف إلى مساءلة تواري الموتى وصورهم من المشهد الإعلامي، عبر منحهم جسداً ملموساً في صور تتناول مختلف مراحل حضورهم قبل دفنهم، وإلى التأمل في ما هو على مرأى من الأحياء من هذا الحضور، وما يُحجب عنهم منه. معرض فريد من نوعه لم تعالج موضوعه أي مؤسسة فنية من قبل، علماً أن قيمته لا تكمن في ذلك فقط، بل في كشفه أيضاً أن التصوير الفوتوغرافي، أكثر من أي فن آخر، هو مؤشّر غني بالدروس حول مجتمعاتنا وما يميّزها، والصور المنشورة أو المعروضة هي التي تقول لنا ما يمكننا أن نراه، ما علينا أن نراه، وما هو محظور علينا اجتماعياً.

في مدخل هذا المعرض، نعرف أولاً أن البورتريه الفوتوغرافي للشخص المتوفى كان شائعاً في أوروبا، وينجزه مصوّر محترف، قبل أن تتوارى هذه الممارسة في العقود الأخيرة ويصبح امتلاك صورة من هذا النوع مسألة تثير الضيق أو النفور. نعرف أيضاً أن هذا التقليد يعود إلى بداية التصوير، لأن أول صورة معروفة من هذا النوع هي بورتريه ذاتي لأحد مبتكري هذا الوسيط، هيبوليت بايار، الذي يظهر فيه بجسد ممدد ونصف عارٍ، وعينين مغلقتين، بينما يركن رأسه على قطعة قماش بيضاء. إخراج يستحضر بدقة الطريقة التي كانت تستخدمها مشرحة باريس لعرض الجثث المنتشلة من نهر السين.

لكن تصوير الموتى كان يحصل أيضاً في ظروف أخرى. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر، انطلق بعض الأشخاص في توثيق النزاعات المسلحة، بالتقاط نوع من الصور كان لا يزال مجهولاً حتى ذلك الحين، وتظهر فيه جثث متناثرة في ساحات القتال. هكذا، بعيداً من المعايير المثالية التي كانت معتمدة في فن الرسم لتمثيل الأطراف المتحاربين، أنجز الإيطالي فيليس بياتو في الصين صوراً لمشاهد مروعة فضح فيها القوة التدميرية لتحالف بريطانيا وأميركا وفرنسا ضد سلالة "كينغ" خلال "حرب الأفينون الثانية"، تبعه في ذلك الأميركيان ماتيو برادي وألكسندر غاردنر اللذان التقطا كليشيهات خلال الحرب الأهلية الأميركية تُظهِر عدد القتلى الرهيب بعد كل معركة.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، ما لبث واقع الجثة كما تكشفه الصورة الفوتوغرافية أن أثار اهتمام العلماء والسلطات القضائية والإعلام. فإثر تجلي هذا الوسيط كأداة قياس وتقصٍّ مثالية، وكوسيلة لحفظ أثر أو تشكيل إثبات، لجأ إليه الطب، وعلوم الطب الشرعي، وأيضاً الصحافة التي تعنى بالأحداث المتفرقة. ومع انتشار استخدامه آنذاك، ظهرت في أرشيف العائلات صور موتاها، لا بعدسة محترفين، بل واحد من أفرادها.

الموت والتصوير

بالتالي، يكشف المعرض عِشرة طويلة بين الأموات والتصوير الفوتوغرافي، في الدوائر الحميمة والمؤسساتية والإعلامية على حد السواء، قبل أن ينتقل بنا إلى تلك الممارسات الفوتوغرافية الهامشية التي لا تتعلق بأي من الظروف والوظائف المذكورة أعلاه، ونقصد الممارسات الفنية التي شكّلت وجوه الموتى وأجسادهم، موضوعها. ممارسات لم تظهر قبل سبعينيات القرن الماضي، وتتميز ثمارها بندرتها، وبالانتقاد المنهجي الذي تعرّضت له لدى عرضها أو نشرها.

ومن بين الفنانين الأوائل الذين تناولوا هذا الموضوع، الأميركيون جيفري سيلفرثورن الذي التقط بورتريهاته المأتمية الباردة في المشرحة، وجويل بيتر ويتكين الذي تحضر في صوره التي تحمل عنوان "طبيعة ميتة" جثث حقيقية وأعضاء بشرية مبتورة، ونان غولدن التي أنجزت صوراً لأصدقائها المتوفين بمرض الإيدز، بعد وفاتهم، وأندريس سيرّانو الذي حقق لقطات جمالية مكبِّرة لجثث منتحرين أو ضحايا حوادث، وسالي مان التي صوّرت جثثاً في طور التحلل. وفي أوروبا، نذكر الألماني رودولف شيفر الذي أضفى على صوره الملتقطة أيضاً في مشرحة، رقة وحياءً مبلبلين، ومواطنيه والتر شيلس وبيتي لاكوتا اللذين أنجزا معاً، بورتريهات لأشخاص مسنّين، قبل وفاتهم وبعدها.

وباستثناء بعض الكليشيهات التي تحمل توقيع أسماء فوتوغرافية كبرى، مثل جاك هنري لارتيغ، لور ألبان غييو، ريمون فوينكيل، وطبعاً روبير دوانو، تعود غالبية الصور الحاضرة في المعرض إلى فنانين ومراسلين إعلاميين أوروبيين، غير معروفين في معظمهم. مصوّرون لا صلة مباشرة لهم بالموتى الذين يظهرون في صورهم، ولكن تعكس هذه الكليشيهات رابطاً حميماُ بهم، الأمر الذي يفسّر نجاعة مساءلة منظّمي المعرض، من خلالها، تلك العلاقة الفريدة بين الأحياء والأموات داخل المجتمعات الغربية، وسطوة مقاربتهم غير المسبوقة لها.

وتبدأ هذه المساءلة بسؤال بديهي: أين هم موتانا اليوم؟ سؤال نابع من استنتاج تواري صور الموتى من الوسائل الإعلامية الغربية منذ منتصف القرن الماضي. فعلى سبيل المثال، توقفت الصحف والمجلات والنشرات الإخبارية التلفزيونية عن بث صور رفات المشاهير المتوفين، كما كان يحصل حتى مطلع الستينيات. وفقط في مناسبات نادرة جداً، تظهر صور لموتى في هذه الوسائل. حجبٌ إعلامي فضحته جائحة كوفيد 19 التي حصدت الأرواح بالملايين، لكن لم ير مَن أفلت من براثنها في الغرب جثة واحد من ضحاياها!

تمييز عرقي

السؤال الثاني الذي يطرحه منظمو المعرض، والمحرِج أخلاقياً، هو: لماذا لا يشمل هذا الحجب الإعلامي جثث الأجانب، الأمر الذي يعكس تمييزاً عرقياً وأيديولوجياً بين الموتى! حقيقة تكشفها الربورتاجات المنتظمة التي تُنشر أو تُبث في الغرب حول بلدان غير غربية تعاني من حرب، أو مجاعة، أو أزمة سياسية حادة، أو كارثة طبيعية، وتظهر فيها جثث الضحايا بلا أي مرشح، كصورة جثة الطفل السوري التي لفظها الموج على الشاطئ التركي، والتي لم تحُل قسوتها دون انتشارها في مختلف وسائل الإعلام الغربي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الموتى المرئيون هم من خارج حدودنا، كما لو أنهم من خارج عالمنا الواقعي، من عالم خرافي!"، نقرأ في كاتالوغ المعرض، وهو ما يقود منظّميه إلى حقيقة أخرى، مبلبلة، يسلطون الضوء عليها، أي تعايش الحجب الإعلامي لمشهد الموتى في الغرب مع حضورهم المتفاقم، ومن دون تمييز عرقي أو هوياتي هذه المرة، في أحد أبرز الأنشطة الترفيهية: الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي لا يخجل مشاهدوها الغربيون أو يشمئزون من الاستمتاع بأقسى أنواع العنف وفيض الجثث فيها. "كما لو أن تواري الموتى من واقعنا يعزز حضورهم في مخيلتنا"، يلاحظ ميكايل هوليت في نصه التقديمي للمعرض، مضيفا: "لكن هذا الحضور لا علاقة له مع تجربة فقدان شخص قريب، مع القلق المرتبط بموتنا المحتوم، ومع الطريقة التي تتعامل بها مجتمعاتنا مع رفات المتوفين. فالمحاكاة السينمائية للموت لا تهيئ بأي حال من الأحوال لمواجهة جسد ميت حقيقي أو رؤيته في صورة فوتوغرافية واقعية".

ويخلص منظّمو المعرض إلى مجموعة استنتاجات يصوغونها على شكل أسئلة: "هل أصبح تصوير موتانا وعرض صورتهم من المحرّمات في الغرب؟ هل باتت تنطبق على هذا السلوك عبارة "إباحية الموت" التي وضعها عالم الأنثروبولوجيا جيفري غورر مطلع الخمسينيات؟ وهل يمكننا أن نؤكد مع المؤرخ فيليب أرييس بأننا صرنا نتعرّف منذ الطفولة إلى فيزيولوجيا الحب، لكننا نبقى حتى النهاية جاهلين لفيزيولوجيا الموت؟". الرد بالإيجاب على هذه الأسئلة يعكس رؤية الغربيين الراهنة للموت كنهاية لا تطاق لحياة تعد بالسعادة والثراء. وهذا الوعد الذي تسيّره مجتمعاتهم كحلم في متناول اليد لغايات اقتصادية استهلاكية بحتة، هو الذي يفسّر حجبها تجليات الموت وكبحها المشاعر الملازمة له.

وبما أن طبيعة علاقتنا بموتانا وطريقة معاملتنا لرفاتهم تحددان مجتمعاتنا، لا يمكن سوى النظر سلباً إلى مجتمع يخفي موتاه، في نظر منظّمي المعرض. من هنا سعيهم فيه إلى توفير انقشاعٍ لما لم يعد يُرى اليوم في الغرب، معيدين بذلك إحياء التقليد الفني الباروكي لـ "الأباطيل" (Vanités) الذي كانت غايته التذكير بعبور الزمن وهشاشة وجودنا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة