Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أفلام "السير الذاتية" لماذا تغيب عن السينما العربية؟

تنتمي إلى ما هو متعارف عليه نقدياً بـ"سينما المؤلف" الذي لا يلهث عادة وراء الشباك والربحية

فيلم جياكوميتي يتميز بنبرته التراجيدية المقلقة (مواقع التواصل الاجتماعي)

ملخص

على رغم أهمية مضمونها فإن احترافية أفلام السير الذاتية لا تزال غائبة عن السينما العربية

تحظى أفلام السيرة الذاتية في الفيلموغرافيا العالمية باحترام من المشاهد، خصوصاً أنها تجعل المتلقي يسهم في التفكير في مسار بعض الشخصيات السياسية والدبلوماسية والعلمية والفنية والثقافية، ويزداد هذا الإسهام كلما كانت الشخصية معروفة وذات ثقل كبير، وحينها يحظى الفيلم غالباً ببعض الجدل النقدي الذي يسهم بدوره في تغذية هذه السيرة وتاريخها.

وكلما صدر فيلم سيرة ذاتية إلا ويشتد النزاع بين من يؤيده وجمالياته ومن يعترض على مسار الشخصية ووجود بعض الحقائق الكاذبة والأخرى المغيبة من ناحية المعالجة البصرية، وهو من الناحية الفكرية عبارة عن جدل لا يخرج عن ثنائية "الواقعي" و"التخيلي".

وعلى رغم المداد الكثير الذي أسيل غربياً تجاه هذا الموضوع، فإنه لا يزال مغيباً في العالم العربي لأسباب معرفية لا أكثر، فالمؤسسات المعنية بالفن السابع لا تهمها مثل هذه القضايا الشائكة بالسينما، بقدر ما تسعى جاهدة إلى إخراج أفلام ترفيهية يشاهدها الناس وتحقق من خلالها عائدات مادية لا أكثر.

ببساطة تصنف المؤسسات السينمائية العربية بأنها تقنية لا تفكر ولا تعمل على دعم الخطاب النقدي المرافق للصورة السينمائية، معتقدة أن هذا الخطاب له علاقة بالصحافة والإعلام وليس بالسينما، في حين أن الناقد يعتبر فرداً من العائلة السينمائية، لأنه مفكر مشغول بهواجس الصورة وتحولاتها الجمالية، ومن ثم فهو يوجه المخرج والمنتج والمؤلف والممثل صوب قضايا مركزية تهم السينما المعاصرة.

نادراً ما تعثر على مخرج وممثل لهما علاقة قوية بالنقد، فمعظمهم يختصر الصناعة السينمائية في إمكانية الحصول على دعم من مؤسسات إنتاج وجوائز من مهرجانات والاستمتاع بالسجادة الحمراء وتقديم تصريحات صغيرة مرتجلة خلال بعض الحفلات السينمائية التي يكثر فيها الصخب والتهريج على حساب التفكير والتأمل.

وحتى المهرجانات السينمائية بالعالم العربي لم تعد تقوى على دعوة نقاد السينما من أجل خلق نقاش حقيقي تجاه الأفلام ومساراتها الجمالية التي تقطعها، فالناقد في نظر إدارة المهرجان شخص مزعج يكشف ويعري أعطاب المهرجان، على رغم أن عديداً من الزملاء يبذلون جهداً كبيراً في مشاهدة الأفلام وشحذ ترسانتهم المفاهيمية وثقافتهم الجمالية لكتابة مقالات ودراسات ومؤلفات حول السينما العربية، أمام التحول الكبير الذي بات ينضح به الفن السابع بالعالم العربي.

مسألة المفهوم

تنتمي أفلام السيرة الذاتية إلى ما هو متعارف عليه نقدياً بـ"سينما المؤلف"، وهو نوع سينمائي أصيل من حيث الكتابة والتخييل، فهو لا يلهث وراء السينما التجارية الملتصقة بشباك التذاكر وصالاتها السينمائية، بقدر ما يحرص مخرجو سينما المؤلف على تتبع مسارات جمالية عميقة في بنية السرد من خلال زئبقية الحكاية وتفرعاتها والصورة وجمالياتها، بما يعطي للفيلم مكانة قوية في سيرة المخرج.

وتعرف هذه الأفلام بكونها المحببة لدى المثقفين، لأنها دائماً ما تطرح قضايا شائكة وإشكالات مركزية داخل الصناعة السينمائية، وتعتبر سينما المؤلف أحد النماذج الكبيرة التي قدمت أفلاماً متنوعة من جهة النوعية، لأن طريقة الكتابة والإخراج والتصوير تختلف بشكل كلي عن نظيرتها التجارية، كما تطالعنا بقوة داخل السينما الأميركية ذات العلاقة بالأكشن والمؤثرات البصرية والذكاء الاصطناعي وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول الكاتب جميل حمداوي "سينما المؤلف هي الفن والجمال والبحث والتجريب في مقابل السينما التجارية المبتذلة التي لا يهمها سوى دغدغة الجمهور ومراعاة أفق انتظاره، بينما سينما المؤلف هي التي تخيب أفق انتظار الراصد المتفرج، وتؤسس مفهوماً جديداً للتلقي والفرجة السينمائية، ومن ثم فإنها ليست هي التي تنقل لنا المجتمع والهموم الواقعية بشكل جدلي أو مرآوي، بل هي التي تعكس لنا الشخصية الفنية والإبداعية للمخرج".

يضيف "من هنا تبدو سينما المؤلف بأنها سينما الانزياح والتخييل والإيحاء والغموض والحداثة والإبهام، وسينما خارجة عن النسق التجاري، وخارجة عن متطلبات الاستوديو والطلب، وخارجة أيضاً عن قواعد التجنيس المألوفة، أي إن سينما المؤلف تعني أن يتحكم المخرج في السيناريو فنياً وجمالياً، ويبدعه بصورة ثقافية مرهفة نابعة من ذاته ووجدانه، وأن يسهم في خلق مونتاج خاص به، وذلك من أجل بلورة رؤيته الإبداعية الشخصية المتميزة".

أسئلة فكرية

هذا ويدمج كثير من النقاد أفلام السير الذاتية داخل قالب سينما المؤلف لأنها مهما اختلفت فإنها تبقى ذات مسار فكري عميق ضارب في المجتمع، وحين يتصدى المخرج للبيوغرافيا (السيرة الذاتية) فهو ينقل شخصيات واقعية وتاريخية إلى عرش الصورة، فيدب فيها حياة جديدة من طريق السيناريو والموسيقى والتصوير.

ببساطة إنه شكل من أشكال "البعث" الجمالي الذي يحول السير المنسية أن تغدو باقية في الوجدان والذاكرة، كما هي الحال مع سيرة الفيلم التاريخي الملحمي "لينكون" (2012) الذي أخرجه وأنتجه ستيفن سبيلبرغ ولعب بطولته دانيال دي لويس، بعدما تم ترشيحه لثماني جوائز غولدن غلوب ولأكثر من جائزة أوسكار.

وتختلف أفلام السير من فيلم إلى آخر، فالأفلام السياسية تحظى بجدل أكبر من لدن الجمهور، بخاصة حين تكون الشخصية لا تزال حية، فإنها تتحول إلى أيقونة في وجدان المشاهد، على رغم أن بعض هذه الشخصيات الحية دائماً ترفض أن يعاد تخييلها في صورة سينمائية لأسباب هي نفسها سياسية.

 

 

وأحياناً يحدث العكس، فيتم العمل على سيرة ذاتية، فيكون رأي صاحب السيرة قاسياً، لأن المؤلف لم ينجح في القبض على تلابيب شخصيته حكاية أو عدم قدرة مخرج على تصوير الشخصية بالشكل المطلوب.

إن المشكل الحقيقي الذي يعوق مفهوم السيرة في الفن السابع أنها تطرح دائماً أسئلة فكرية تتعلق بالحقيقة والتخييل، وما إذا كان من الضروري على المخرج أن يعيد تصوير مسار الشخصية محافظاً على تفاصيلها الحياتية الدقيقة أو جعلها تعتلي عرش الصورة من خلال وضعها داخل أفق حكائي متخيل.

والحقيقة مهما ادعى المخرج السينمائي في نقل السير الحياتية بكل تفاصيلها ونتوءاتها، فإن الخيال دائماً ما يتسرب إلى الصورة ويفتح لها نافذة على التفكير والتأويل. إن السينما فن تخييل وليس واقعياً كما قد يعتقد، أي إن المخرج مهما حاول نقل الواقع فإن عنصر الخيال يقتحم بعض الصور وأنماطها ويحولها إلى وسيط متخيل.

يقول الناقد السينمائي نديم جرجورة "أيحق لصناع عمل فني التطرق إلى الحميمي في السيرة الذاتية ـ الحياتية للشخصية العامة؟ أليس الحميمي جزءاً أساسياً من السيرة هذه ومن البناء الإنساني والفكري والذاتي للشخصية؟ وماذا يعني تحقيق عمل فني منصب على السيرة الخاصة بالشخصية العامة؟ ألا يحق لمريدي هذه الشخصية أو تلك ومحبيهما الاطلاع على العالم كله المتعلق بها؟ لكن، في المقابل ألا يحق للشخصية نفسها أن يكون لديها عالمها الخاص جداً، وأن تمنع أحداً من الدخول إليه وكشفه؟".

السيرة والتأريخ

وإلى جانب النواحي الجمالية التي تنطبع بها أفلام السيرة، فإن البعض يرى أنها تلعب وظيفة تاريخية لكونها تقبض عن سيرة ذاتية وتحولها إلى حكاية بصرية. تطرح هذه القضية سؤالاً مركزياً يتصل بالسينما في علاقتها بالبحث التاريخي وما إذا كان هذا الأخير قادراً على السينما وثيقة بصرية قادرة على التأريخ.

يرى المؤرخ الفرنسي مارك فيرو (1924ـ2021) أن السينما وثيقة تاريخية تلعب دوراً مهماً في تأريخ الحدث، في حين أن السينما يصعب عليها أن تكون وثيقة تاريخية، لأن هدف المخرج يتمثل في التخييل وليس التأريخ، فالعلم (التأريخ) مهمة ترتبط بالمؤرخ أما المخرج فهو ينزع دائماً صوب التخييل.

وفق هذا المنطلق تتحول السيرة داخل الصورة إلى حكاية متخيلة مهما بلغت درجة أمانة النقل، فالأكسسوارات والموسيقى والألوان وزخم الشخصيات تنقل المتفرج إلى عوالم متخيلة تنتزعه من مفهوم الواقع الذي يدافع عنه صاحب السيرة، في حين توجد أفلام هوليوودية كانت في معظمها مجرد تلفيق سينمائي، لأن النص ينطلق من دوافع أيديولوجية محضة تجعله يدين شخصيات سياسية أخرى.

والأمر نفسه يحدث حين ينقل لنا بعض المخرجين سيرة بعض الفنانين، إذ يتم التركيز فيها بقوة على الجانب الدرامي، كما هو الأمر في فيلم "موديلياني" (2004) لمخرجه ومؤلفه ميك ديفيس وفيلم "اللوحة الأخيرة" (2017) لمخرجه ستانلي توتشي حول الفنان ألبريتو جياكوميتي، ثم فيلم "كاميل كلوديل" (2013) للمخرج برونو دومون وبطولة جولييت بينوش حول حياة النحاتة الفرنسية كاميل كلوديت.

غياب غير مبرر

لا يمكن تفسير أسباب غياب أفلام السيرة بالعالم العربي إلا بالهشاشة التي تطبع هذه السينما، إذ على رغم مظاهر الحداثة المتبدية على مستوى التقنية داخل فيلموغرافيتها، فهي لا تزال تمارس ضرباً من "التشدد الفني التقليدي" فالأساليب هي نفسها لا تتغير والصور يعاد تشكيلها بالطرق والآليات نفسها، إذ لا تخضع إلى منطلق انتقائي يحول الصورة إلى عملية تفكير مسبقة على التصوير، بل يتم في كثير من الأحيان تصوير مشاهد بتلقائية مفرطة، لا تعكس سوى حقيقة المشهد السينمائي وصناعته.

ففي وقت تحرص فيه السينما الغربية سنوياً على كتابة وإنتاج وإخراج أفلام تتعلق بسير سياسية وثقافية ودبلوماسية، لا يطالعنا عربياً أي فيلم من هذا النوع، وكأن الواقع الذي نعيش فيه غدا أكبر من فعل الابتكار الذي قد يقود إلى تشريح سيرة داخل مختبر بصري من شأنه أن يكشف عن حقائق ويكرس بعض القيم والمواقف تجاه الشخصية.

المزيد من سينما