Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموسيقى الهندية "ترجمان" لجسارة الروح وعفوية الجسد

لها لباسها الخاص ورقصاتها المميزة وتسهم التقاليد في تنشيط حياتها وجعلها مفتوحة على مختلف الطاقات الإبداعية الممكنة

تنتمي إلى تقاليد موسيقية باذخة ذات جذور تاريخية عميقة وذاكرة فنية ضاربة في القدم (أ ف ب)

ملخص

السحر الذي تتمتع به موسيقى الهند، من أين يأتي ولماذا يأسر العالم؟

حققت الموسيقى الهندية المعاصرة طفرة نوعية من جهة الكم والنوعية، ذلك أن تجاربها الجديدة تميزت بكثير من الإبدالات المفاهيمية والجمالية التي جعلتها تنتمي إلى المختبر الموسيقي العالمي المعاصر.

والحق أن هذا التحول الدائم الذي تعرفه الموسيقى الهندية نابع من كونها موسيقى مركبة، ونقصد هنا بالتركيب أنها تنتمي إلى تقاليد موسيقية باذخة ذات جذور تاريخية عميقة وذاكرة فنية ضاربة في القدم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الانتماء إلى الماضي العريق يحتم عليها تجديد نفسها في كل مرحلة تاريخية كما يحدث اليوم، فالتجارب الغنائية تتأثر بطبيعة المرحلة التي تنتمي إليها، إذ من خلالها تصوغ نسغها الفني وبها تبني عوالمها التخييلية مع المتلقي. ولا يوجد لون غنائي لم يتأثر بالسياق التاريخي الذي ظهر فيه لأن الأغنية أشبه بحيوات البشر فثمة دائماً تأثير وتأثر.

فالمراحل التاريخية التي عرفت صراعاً فنياً بين القوالب والأنساق والتجارب والمدارس والتيارات كانت الأكثر قدرة على ابتداع شكل موسيقي جديد مبتكر. والحال أن جميع الأنواع الموسيقية العريقة التي تميزت بخاصية التركيب دائماً ما تطورت عبر مراحل ولم تأت دفعة واحدة.

في المراحل الأولى تبحث الموسيقى عن أنفاسها وملامحها وعلاماتها السمعية في علاقة بمفهوم الهوية، ثم تأتي المرحلة الثانية التي يحاول من خلالها الموسيقيون توطيد موسيقاهم وجعلها مكرسة بما يضمن لها الذيوع والانتشار في العالم، وصولاً إلى المرحلة الثالثة التي يبدع فيها الفنانون أشكالاً موسيقية جديدة أكثر تجذراً في بيئتها. وهذه المرحلة هي التي تدعى داخل الأدبيات الفنية بـ"التجريب"، وبمقتضاها يدخل الموسيقي إلى عالم إبداع حقيقي يدفع إلى ابتكار لغته الموسيقية الخاصة.

دهشة التاريخ

على مدى قرون انتقلت الموسيقى داخل المجتمع الهندي من كونها عبارة عن أداة للتعبد وخدمة آنية للممارسات الاجتماعية البسيطة، إلى مرحلة لاحقة غدت فيها فناً مؤثراً ووسيلة تعبير عن الوجدان والواقع. ومع كل مرحلة تطورت الموسيقى وأصبحت تمتح عوالمها الفنية وتشكلاتها الجمالية من الزمن الذي تنتمي إليه. وفي كل مرحلة أيضاً تظهر أدوات موسيقية جديدة تضفي بدورها ميسماً جمالياً على الأغاني الهندية وموسيقاها.

إن الفن الهندي ممارسة تاريخية متجذرة في ذاكرتها، بل إن هذا التاريخ في الموسيقى الهندية يصبح بمثابة انتماء حقيقي لهذا التاريخ وسرديته، كما يتحول بعض النماذج الغنائية الحديثة إلى سردية تاريخية تروي قصصاً من الواقع الهندي بكل أفراحه وأحزانه، لكن ما يميز التجربة الهندية أن موسيقاها تختلف وتتباين بتعدد المناطق، إذ ثمة أنواع عديدة وكثيرة. وهذا الزخم هو الذي يقود الأغنية إلى ابتداع أشكال نوعية لها علاقة بمنطقة من دون غيرها.

 

 

كما يلاحظ عدد من الباحثين أن بعض الأغاني لها لباسها الخاص ورقصاتها المميزة التي تختلف هي الأخرى باختلاف الأمكنة والفضاءات. فالعادات والتقاليد الهندية تسهم بوعي كبير في تنشيط الحياة الغنائية وتجعلها دوماً مفتوحة على مختلف الإبداعات الممكنة.

إن التاريخ في الفن الهندي له مكانته المركزية التي بها يؤثر بطريقة ميتافيزيقية في العمل الفني ويجعله بمثابة امتداد أنطولوجي لهذا التاريخ. لهذا فإذا تأملنا الأغاني سنجد أن معظمها تقريباً له امتداد جمالي لمرحلة تاريخية معينة.

يقول الكاتب والمعماري المهتم بالموسيقى عبدالرحمن علي إن "الموسيقى الهندية في زمننا المعاصر هي سليلة تلك المدارس القديمة التي ظل كل جيل من طوائف الحرفيين الموسيقيين المتوارثة يورث تقاليدها للجيل اللاحق، مع إسهامه بالتعليق عليها والإضافة إليها‫. وبينما قد تكون كلمات أغنية ما كتبت في أي زمن فإن الجمل الموسيقية التي تلقن مشافهة من الشيخ إلى المريد هي في جوهرها ضاربة في القدم‫. وتقدم لنا الهند هنا، كما هي الحال في فنون أخرى وفي نمط الحياة، مشهداً بديعاً لوعي العالم القديم وهو لا يزال حياً،‫ وبمدى من التجربة العاطفية يندر أن يتاح لأولئك الذين تشغل بالهم مناشط الإنتاج الفائض عن الحاجة، ويؤرقهم غياب الأمن الاقتصادي لنظام اجتماعي قائم على المنافسة".

والحقيقة أن أكبر طفرة عرفتها الموسيقى الهندية بدأت مع ذيوع وانتشار الفيلم الهندي في العالم. فالفن السابع لعب دوراً محورياً في التعريف بالتراثين الموسيقي والغنائي للبلاد لدرجة أنه يستحيل العثور على فيلم سينمائي من دون موسيقى أو أغان.

 

 

لقد اتخذ السينمائيون في الهند من الموسيقى هوية بصرية لأفلامهم وجعلوها في خدمة صورهم السينمائية المتخيلة، غير أن هذا التوظيف الجمالي للموسيقى والأغاني لم يأت كـ"أكسسوار فني" بل يتخذ بعداً وجودياً في الفيلم. فالأغاني لها تراتبية محددة وتخضع لمنطق انتقائي دقيق يتماشى مع طبيعة المشهد السينمائي المتخيل.

ونظراً إلى هذه الميزة الفنية التي تكاد السينما الهندية تتميز بها في العالم، فقد جذبت على مدى تاريخها الطويل قلوب المشاهدين الذي نسجوا معها علاقة قوامها الإبداع والنوستالجيا، بل وصلت السينما الهندية إلى درجة التأثير في نماذج سينمائية مصرية مثلاً، إذ نلاحظ في عدد من هذه الفيلموغرافيا مدى تأثير الفيلم الهندي فيها وفي صناعتها. وشيئاً فشيئاً لم يعد بالإمكان الاستغناء عن الموسيقى والغناء داخل السينما، لأنهما أصبحا من عوامل نجاح هذه السينما وتميزها في العالم.

أغان تتقدم أفلاماً

لقد حققت بعض الأغاني داخل الأفلام نجاحاً كبيراً لدرجة أن تفوقت على الفيلم. فكم من أغنية أسهمت في إنجاح فيلم كما حدث مع Ae Dil Hai Mushkالذي تعد أغانيه من أهم الأغاني السينمائية التي عرفت نجاحاً باهراً لمخرجه ومنتجه ومؤلفه كاران جوهر، بعد أن تجاوزت إيراداتها وجوائزها أضعاف إيرادات الفيلم الذي حصد أكثر من ملياري دولار أميركي عالمياً بميزانية تبلغ 700 مليون دولار، ولا سيما أغنيتا Ae Dil Hai Mushkil (الأغنية الرئيسة) وChanna Mereya بصوت المغني الشاب أريغيت سينغ (1987).

وعلى رغم آلاف الأغاني السينمائية المنتجة سنوياً في الهند فلا تزال الأغنيتان هما الأكثر استماعاً ومشاهدة مقابل الجماليات الحكائية والدرامية المألوفة في أعمال جوهر المنشغل دائماً بوضع جماليات الصداقة وفتنتها أمام اختبارات الحب.

والحقيقة أن الموسيقى والأغاني في الفيلم الهندي هي بمثابة كوابيس بالنسبة إلى السينما الهوليوودية التي كثيراً ما تعتبر أن قوة هذه السينما كامنة في أغانيها ورقصها الشعبي، وهي سمة جمالية تفتقر إليها السينما الغربية بشكل كامل.

 

 

يقول الصحافي السوري نوزاد جعدان "تشكل الأغنية في السينما الهندية كياناً أساسياً وجزءاً من بنية الفيلم، وطبعاً لا يفارق مائدتها المتنوعة جمالياً ووظيفياً وترفيهياً، كما تعتبر نمطاً ثابتاً يستخدم في معظمها، إذ إنها تعتبر بالمعنى المجازي متعة الفقراء وخبز حياتهم اليومي، ولعل الدارج في السينما الهندية أنه إذا نجحت أغاني الفيلم فمن المؤكد أنه سيحطم شباك التذاكر".

ويضيف "هذه الموسيقى النابضة بالحياة، والأصوات المرنة، لا سيما الصوت النسائي على مستوى المساحة الصوتية التي تمتاز بها أصوات السينما الهندية من أدنى القرار إلى أقصى الجواب، وسلامة الانتقال، والتلوين، والتحكم بالطبقات، شكلت لنا على رغم عدم فهمنا لغتها تعبيراً أصيلاً عن مزاجنا، وحالاتنا الشعورية، ندندنها حين نعشق أو ننتصر، ولا غرو إن قلنا في حالات الحزن واليأس أيضاً".

لهذا تحاول بعض مؤسسات الإنتاج الغربي من خلال نموذج "الفيلم الغنائي" منافسة نظيره البوليوودي، لكنها لا تنجح في اختراق شباك التذاكر كما يفعل بتلقائية الفيلم الهندي. ويستحيل بالنسبة إلى السينما الأميركية منافسة السينما الهندية التي تمثل اليوم إمبراطورية مترامية الأطراف تنطلق من الهند والقارة الآسيوية بشكل عام وتخترق باقي أنحاء العالم، بخاصة في السنوات الأخيرة بعد أن غدت الصالات الخليجية والعربية تستقبل أعداداً وفيرة من الأفلام الهندية، بل إن قطر والإمارات شرعت في تقديم رخص تصوير عديد من الأفلام الهندية لتشجيع الاستثمار السينمائي داخل البلدين.

إن الموسيقى ملح الجسد بالنسبة إلى السينما الهندية، فمن دونها يبدو الفيلم هشاً وضعيفاً، فالمتلقي تعود مشاهدة الرقص والاستمتاع به وبجماليات الطبيعة والفضاءات وتقنيات التصوير المتنوعة وأصالة الموسيقى وإحساسها الدقيق تجاه المشاهد بمختلف تدرجاتها الدرامية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة