Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التخلف ليس قدرا عربيا

هل يمكن تحقيق التحديث في مجتمع يعيش في وحل الأيديولوجيا والدجل والاتكال والقمع والحجر على الحريات الفردية والجماعية وغياب المساواة بين الرجل والمرأة؟

على مدى ثلاثة أجيال وأكثر عاش المواطن العربي تحت أيديولوجيات مختلفة متلاحقة مثل القدر  (أ ف ب)

ملخص

التخلف العربي ليس قدراً سماوياً بل صناعة أنظمة تريد تعميم الغباء والاتكال والجهل

لماذا تقدم العالم وتخلفت بلداننا بعربها وأمازيغيها؟

هذا السؤال طرحه شكيب أرسلان عام 1939، أي منذ أكثر من قرن، وطرحه من قبله مفكرون كثر، ولا يزال قائماً لأن أحوال مواطني هذا العالم تكاد لا تبرح مربعها.

صحيح تغيرت أسماء القادة في هذا البلد أو ذاك، قادة جدد جاء بعضهم إلى قمة السلطة من الثكنات ومن طريق الانقلابات، وبعضهم جاء من طريق انتخابات مزورة، وبعضهم جاء بالمال المشبوه وبعضهم جاء باسم الدجل الديني.

وفي ظل صعود هذه السلالات من الأنظمة المختلفة في الظاهر والمتشابهة في العمق، ظلت المدرسة أكبر مصنع لتفريخ أيديولوجيا "قابلية الغباء" و"قابلية العبودية"، وهما الرأسمال الأكبر لضمان استمرارية هذه الأنظمة.

وعلى مدى ثلاثة أجيال وأكثر عاش المواطن العربي والمغاربي، والعيش كلمة كبيرة في حقه، تحت أيديولوجيات مختلفة متلاحقة مثل القدر، الاشتراكية بكل نعوتها، والقومية بكل فروسيتها، والوطنية بأناشيدها الحماسية، والإسلامية بكل دمويّتها، والشقاء بكل ألوانه.

ومن رحم هذه الأيديولوجيات تفرخ التخلف الذي ما فتئ يتجدد في "الشعبوية" السياسية والدينية والقومية التي تحرص الأنظمة على أن تكون هي عملتها المركزية، ولقد تحولت الأيديولوجيات المختلفة إلى بنوك أوهام تستثمر فيها الأنظمة السياسية والعسكرية والدينية العربية والمغاربية من أجل تنويم المواطن، وصحيح، على المستوى النظري، أن هناك كثيراً من المشاريع التنموية الاقتصادية والاجتماعية والفلاحية المميزة التي تطرح مع مجيء نظام جديد كي يظهر بأنه يختلف عن النظام السابق الذي تم إسقاطه، لكن الجو العام المعادي للاستثمار وغياب الشفافية واستمرار المدرسة في تخريج جنود الغباء وانتفاء الثقافة المحررة، وكل هذا السياج، يجعل من المشاريع بعد أعوام عبارة عن وهم شعبوي وذرّ رماد في العيون ليعود المواطن للمربع الأول.

وهذا العالم العربي والمغاربي، باستثناءات قليلة، يعيش في "ليبيدو" الخطابات والانتصارات في الفصاحة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، فالمواطن العربي والمغاربي ضحية الأيديولوجيا القاتلة والمضللة التي جفّفت حياته من الأخلاق ورمت به إلى العنف، وهذا المواطن أغرقوه في الأيديولوجيا حتى نسي الأخلاق، وأغرقته الأنظمة في الأيديولوجيا حتى نسي العمل المنتج، فالتخلف العربي ليس قدراً سماوياً بل صناعة أنظمة تريد تعميم الغباء والاتكال والجهل.

ولأن هذه الأنظمة على اختلاف حساسياتها السياسية أدركت أن الشعوب العربية والمغاربية لا تساس إلا بالدين، لذا وجب تسييس الإسلام وجعل الدين قبل المواطنة والمؤمن قبل المواطن وصلاة الاستسقاء قبل نظام السقي، وتبرير كل سقوط باسم الدين وإرجاع كل إخفاق إلى القدر المكتوب، ولتسييس الدين وجعله آلة للتطويع والخنوع والخوف والترهيب تكوّن جيش من كهنوت الإسلام السياسي، ولأن العربي والمغاربي لا يساس إلا بعصا أيديولوجيا الدين لذا كان ضرورياً التأسيس لكهنوت إسلامي سياسي، ويجسد هذا كهنوت زعيم الحزب ورئيس الجمعية ومديري المؤسسات الدينية ووزير الدين والمدرسة، وأصبح الجميع يبرر حركته من داخل الدين السياسي، فالماركسي العربي ديني بامتياز، والعلماني ينافق ويخاف من أن يعلن علمانيته بوضوح، والملحد في مثل هذا الاختناق بالإسلام السياسي لا يستطيع الإعلان عن موقفه، وإذا ما حصل شيء من ذلك أصبح منبوذاً، لذلك فهو مضطر إلى أن يعيش حالاً من المسخ الأيديولوجي.

والليبرالي العربي تنتهي ليبراليته على ضفاف الإسلام السياسي، فهذا النفاق المعمم يجعل المجتمع يعيش في ظلمة ثقافية واجتماعية ومتاهة اقتصادية وسياسية، ولقد انهزمت الأنظمة العربية والمغاربية في كل حروبها إلا في حربين اثنتين، الأولى حرب التحرير الجزائرية التي حققت نصف الطريق بامتياز وهو الاستقلال، وأخفقت في نصف الطريق الآخر وهو استكمال مسيرة بناء الدولة الحديثة المعاصرة، وأما الحرب الثانية فهي حربها على المواطن والتي انتصرت فيها نصراً عظيماً.

وأمام هذه اللوحة التي قد تبدو سوداء ويظهر فيها المجتمع مخرباً من الداخل والمواطن منهكاً أو منتحراً أو منسحباً، أتساءل هل يمكن تحقيق التحديث في مجتمع يعيش في وحل الأيديولوجيا والدجل والاتكال والقمع والحجر على الحريات الفردية والجماعية وغياب المساواة بين الرجل والمرأة؟ وهل يمكن تحقيق التحديث من فوق؟

في تاريخ شمال أفريقيا الحديث كانت هناك تجربة رائدة استطاع فيها ذوو القرار السياسي أن يصلحوا بجرأة وفي معارضة مع الشعبوية، وهي تجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الجريئة، والذي منذ السنة الأولى لاستقلال البلد حيث المجتمع التونسي شأنه شأن المجتمعات المغاربية والعربية الأخرى غارق في التخلف والأمية، قرر أن يصدر "مدونة الأحوال الشخصية" عام 1956، فساوى فيها بين المرأة والرجل في المواطنة ومنع تعدد الزوجات، ومنع الحجاب في المدارس في الـ 10 من يناير (كانون الثاني) 1957، وفرض الزواج المدني وألغى المحاكم الإسلامية، فكان بذلك متقدماً عن المجتمع واستطاع على رغم كل القوى الظلامية التي نعتته بشتى التهم مثل الزندقة والإلحاد والخروج عن الدين، وهو حالها حتى اليوم في التعامل مع خصومها السياسيين والفكريين، مواصلة مشروعه في التحديث لتتقدم تونس في ظرف عقدين، وهو ما كان يتطلبه قرن من الزمن، ولا تزال المرأة التونسية حتى اليوم وبعد مضي أزيد من سبعة عقود تقريباً على صدور مدونة الأحوال الشخصية، مدينة لهذا القرار الذي جاء من فوق، وقد قال بورقيبة وقتها "لو انتظرنا نضج المجتمع لإصدار هذه المدونة لانتظرنا قرناً من الزمن".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استطاعت تونس، وهي دولة صغيرة من دون موارد اقتصادية كبيرة، بفضل رؤية التحديث من فوق التي قادها الرئيس الحبيب بورقيبة أن تتحول إلى مجتمع قوي ووازن بين بلدان البحر المتوسط، وكان هذا البلد الجميل يتقدم ويتعصرن كلما ابتعد من الأيديولوجيا والشعبوية السياسية والدينية واقترب من البراغماتية، وها هو اليوم للأسف يتقهقر بعودته لطحين الأيديولوجيا وفصاحة خطاب الكراهية.

ويحدث هذا اليوم أيضاً في السعودية، تحديث شامل مادي وقيمي يمسّ البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمؤسساتية والعمرانية، وقفزة نوعية خلال هذا الربع الأول من الألفية الثالثة في الشرق الأوسط والعالم، فـ "رؤية 2030" عمل جريء لصناعة إنسان سعودي جديد ينشأ بعيداً من الأيديولوجيا وقريباً من الاستراتيجية والبراغماتية الوطنية، ويقود هذا التحول المتدفق وعلى كل الجبهات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بحماسة وطنية في ظل تنافس دولي محموم، ولتحديث المجتمع السعودي والقطيعة مع التخلف كان لا بد من الانطلاق من نقطة البدء، ألا وهي تحرير طاقات المرأة السعودية التي تمت شيطنتها على مدى قرون وحولها لاهوت الإسلام السياسي إلى استثمار أيديولوجي كبير، حتى ليبدو لنا الأمير محمد بن سلمان في مقاومته التخلف وجرأته في الدفاع عن مصالح بلده شبيهاً ببورقيبة الشرق الأوسط، بورقيبة الثاني.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء