Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا غرابة في فيلسوف ينفي الدين لكن ماذا عن الوعي؟

"كنت أفكر" كتاب جديد للأميركي دانيال دينيت يرصد فيه سيرته الفكرية ويؤكد على أن "الإيمان إعاقة معرفية"

تمثال "المفكر" لأوغيست رودان (الموسوعة البريطانية)

ملخص

بالنسبة لدينيت، ما من ألغاز ميتافزيقية كثيرة في صميم الوجود الإنساني، فلا سحر ولا إله يصنع منا ما نحن عليه، لكن يوجد بدلاً من ذلك العلم والتطور الدارويني المستمر.

ظهرت في مطلع القرن الـ21 جماعة عرفت بـ"الفرسان الأربعة"، كان دانيال دينيت فيلسوف هذه الجماعة، وكرستوفر هيتشنر خطيبها، وريتشارد داوكنز عالمها، وسام هاريس إعلاميها. توصل الأربعة في أعقاب الـ11 من سبتمبر (أيلول) إلى فكرة عبقرية لتسويق الكتب - بحسب ما كتب برايان أبليارد ("ذي تايمز" / الـ17 من سبتمبر 2023). فرأوا أن الرب مشكلة، وأن الدين فيه هلاكنا جميعاً، وكانت أقوى حججهم هي هجمة الـ11 من سبتمبر التي نفذها إسلاميون، أي متدينين مختلين، وفق اعتقادهم.

التقى الأربعة في 2007 لتناول الشراب والثرثرة، بحسب ما كتب تريستان بروكس (بوليتكال كورترلي – الـ17 من يونيو / حزيران 2019). "أخذ كل واحد من الأربعة على عاتقه في غداة الـ11 من سبتمبر أن يهاجم الدين، وتم تسجيل اللقاء بالفيديو للأجيال المقبلة، وسرعان ما انتشر كالنار في الهشيم" ثم حدث بعد 12 عاماً أن نشر ذلك النقاش في كتاب ألحقت به مقالات أو بيانات من الثلاثة المتبقين على قيد الحياة من الفرسان الأربعة، رواد "الإلحادية الجديدة". صدر الكتاب في 2019 بعنوان "الفرسان الأربعة: الحديث الذي أطلق شرارة الثورة الإلحادية".

كنت أفكر

وأخيراً، أصدر أحد أولئك الأربعة، وهو فيلسوفهم الأميركي دانيال دينيت سيرته الذاتية بعنوان "كنت أفكر" في ما يزيد على 460 صفحة عن دار نورتن. غير أنها ليست السيرة الذاتية التي يتوقعها أغلب القراء من أغلب السير. ففي حوار بـ"نيويورك تايمز" يدور هذا الحديث بين ديفيد مارتشيز ودينيت:

ـ في سيرتك شيء بدا لي واضحاً، إذ كتبت عن واقعة في أواخر الستينيات، حينما أصيبت زوجتك الحبلى بانسداد في الأمعاء.

ـ نعم، فقدنا الجنين.

ـ تصف هذا بأنه "أتعس وأوحش وأفزع" وقت في حياتك.

ـ نعم.

ـ ويحتل ذلك فقرة واحدة في سيرتك.

ـ نعم.

ـ ما دلالة هذا عنك، أو عن كتابك؟ أن يحتل موقف وصفته ذلك الوصف هذه المساحة الضئيلة في سردك لحياتك؟

ـ انظر إلى عنوان كتابي "كنت أفكر". ثمة مئات الصفحات من القصص حذفتها في أطوار مختلفة من كتابة مسودات الكتاب لأنها كانت تتناول حياتي العاطفية، أو محاولاتي، وما إلى ذلك، هذا ليس كتاب حكايات. فأنا لا أتكلم عن حب من طرف واحد، أو غراميات مراهقة فاشلة. ثمة أخطاء ارتكبتها أو كدت أقع فيها، ولا أحكيها. ليس هذا موضوع الكتاب.

ربما في محاولة لتعويض هذا النقص، يتصيد تايلور مكنيل (تافتس الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2023) ما في الكتاب من نتف سيرية، فيكتب أن الفيلسوف دانيال سي دينيت "ولد في بوسطن، وعاش طفلاً في بيروت، ثم رجع إلى الولايات المتحدة بعد وفاة أبيه. وبعد سنتين في مدرسة ونتشستر الثانوية توجه إلى إكستر حيث درس النحت، بل ومضى إلى حد المشاركة في معرض أقامه غاليري نيوبيري ستريت. ونظراً إلى أن كثيراً من أترابه كانوا في طريقهم إلى الدراسة بجامعة هارفرد، كان المتوقع أن يتجه إليها مثلهم، لكنه اختار جامعة ويزليان. وفيما هو هناك قرأ كتاباً للفيلسوف دبليو في كواين، الأستاذ في هارفرد، فانتقل إليها بهدف حضور محاضراته، معتزماً أن يوضح له المواضع التي أخطأ فيها".

يقول مكنيل، "في مطلع الستينيات توجه دينيت وزوجته سوزان إلى إنجلترا حيث حصل على دكتوراه في الفلسفة من أكسفورد، ثم حصل على وظيفة من دون حتى أن يجري مقابلة في جامعة كاليفورنيا حديثة التأسيس في إرفين، وذلك في العصر الذهبي للأكاديميين الذي شهد توسع التعليم العالي في جميع أنحاء أميركا. ولما كان دينيت نشأ هو وزوجته في مساتشوستس فقد سعيا إلى الإقامة هناك، وسعى دينيت إلى العمل في الولاية، فانتهى إلى العمل في تافتس أستاذاً للفلسفة ثم مديراً لمركز الدراسات المعرفية حتى تقاعده عام 2022".

وتابع "بعد تقاعده، كتب دينيت سيرته الذاتية، وبدأ يصدر تحذيرات من أخطار الذكاء الاصطناعي. فلا تقوم تخوفاته على أن تلك التكنولوجيا الحديثة ستستولي على الوظائف، لكن على أنها قادرة على تدمير الثقة، وهي ركيزة من ركائز الحضارة الإنسانية الأساسية، فقد كتب أخيراً في ’ذي أطلنطيك‘ يقول إنه ’من الممكن اليوم، وللمرة الأولى في التاريخ، بفضل الذكاء الاصطناعي، أن يصنع أي شخص أشخاصاً زائفين لا يمكن تمييزهم عن البشر الحقيقيين في كثير من البيئات الرقمية الجديدة التي أنشأناها. وهؤلاء الزائفون هم أخطر المصنوعات في تاريخ البشر، بقدرتهم لا على تدمير الاقتصادات وحدها [بالمقارنة مع النقود الزائفة مثلاً]، وإنما بقدرتهم على تدمير حرية البشر ذاتها‘".

توشك أن تكون هذه هي الخطوط العريضة في حياة دينيت الشخصية، منذ ميلاده وحتى تقاعده وتفرغه لحربه على الذكاء الاصطناعي، مروراً بعضويته في جماعة الفرسان الأربعة الإلحادية. أما الجوانب الفكرية فهي بطبيعة الحال المسيطرة على كتاب عنوانه "كنت أفكر".

على مدار أكثر من 50 سنة، بحسب ما يكتب ديفيد مارتشيز (نيويورك تايمز الـ27 من أغسطس/ آب 2023)/ انشغل دينيت ببعض أهم الجدالات التي طالما شغلت الإنسانية "طبيعة الوعي والدين ووظيفة كل منهما، ونشأة الذكاء الاصطناعي وأخطاره، والعلاقة بين العلم والفلسفة، وغيرها كثير". بالنسبة إلى دينيت، ما من ألغاز ميتافزيقية كثيرة في صميم الوجود الإنساني، فلا سحر ولا إله يصنع منا ما نحن عليه، لكن يوجد بدلاً من ذلك العلم والتطور الدارويني المستمر.

وفي سيرته الجديدة "كنت أفكر"، يرصد دينيت، الأستاذ الفخري بجامعة تافتس ومؤلف كثير من الكتب الموجهة للجمهور الشعبي، تطور رؤيته للعالم التي يحرص على إيضاح أنها لا تقل امتلاء بالجلال أو الامتنان عن سير النازعين إلى الروحانية. يقول دينيت البالغ من العمر 81 سنة "إنني أريد أن يرى الناس أي حياة سعيدة مجدية عشتها بهذه القناعات... وأنني لست بحاجة إلى ألغاز".

أساتذة متعابثون

يغوص ستيوارت جيفريز في استعراضه للكتاب ("غارديان" الأول من أكتوبر 2023)، إلى صلب الانشغالات الفكرية الفلسفية لدينيت، فيكتب أنه "ذات يوم في صيف عام 1976، كان الفيلسوف الأميركي المخضرم دانيال دينيت يسوق سيارته مقترباً من بوابة دفع الرسوم في طريق مساتشوستس الرئيس، حينما خطر له خاطر مزعج (لو انتقل مخي بطريقة ما إلى تجويفي الصدري ولم يدمر مع ذلك أي اتصال، ألن أظل أتصور أن عقلي كامن وراء عيني وبين أذني؟)". يعلق ستيوارت جيفريز متهكماً أنه ربما يكون بوسع دينيت حينئذ "أن يقطع رأسه، ويظل على رغم ذلك أستاذاً للفلسفة".

ويتابع "بوصوله إلى بوكيبسي في ولاية نيويورك، بحسب ما يحكي دينيت في سيرته الذاتية المزعجة والجذابة على ما في ذلك من تناقض، كانت هذه الفكرة التجريبية ازدادت جموحاً. ماذا لو بقي مخه حياً في وعاء متصل بجسمه عبر روابط لا سلكية؟ هل سيكون عقله [لا مخه فقط] في الوعاء؟ مفتوناً بهذا الاحتمال، ألقى دينيت محاضرات عمد فيها إلى استعمال صندوق معدني مزود بهوائي محاولاً إقناع جمهوره بأنه، أي دينيت نفسه، خاضع لسيطرة مخه هذا عن بعد".

 

يقول ستيوارت جيفريز إن عقد السبعينيات من القرن الماضي شهد أساتذة متعابثين مثل دينيت يحلمون بتجارب فكرية من شأنها أن توسع معنى الإنسان، بتفجير الحدود المحيطة لذلك المعنى، فظهر بحث لتوماس ناغل عام 1974 بعنوان "ما إحساسك لو أنك وطواط؟" تأمل فيه ما إذا كان بوسعنا أن نبقى بشراً إذا امتلكنا بعض السمات الوطواطية من قبيل تحديد المواقع من خلال الموجات الصوتية. وجاء ديريك بارفيت بمفارقة (النقل عن بعد teletransportation ) حيث يتصور إرسال التركيب الجزيئي الخاص بإنسان إلى المريخ، لتعيد بعض الآلات هناك تكوينه باستعمال ذرات محلية، أي مريخية، من الكربون والهيدروجين. حينئذ هل يكون الكيان المريخي نسخة من هذا الإنسان أم يكون الإنسان نفسه؟

وبالمثل، أراد دينيت أن يعرف إجابة سؤال، فكتب بحثاً بعنوان "أين أنا؟" متضمناً فرضية المخ في الوعاء التي يخبرنا في سيرته باعتزاز أنها تركت أثراً عميقاً في صناع فيلم ذي ماتريكس [المصفوفة]. تخيل دينيت أننا قد نكون أدمغة في أوعية، في حين تخيل الإخوة واوكوسكي [صناع فيلم المصفوفة] أن البشر لا يدركون آلات فائقة الذكاء خدعتهم فباتوا يؤمنون أن المحاكاة التي تضخ في أدمغتهم إنما هي الواقع.

موقع ذواتنا المفكرة

يكتب ستيوارت جيفريز أن "الفلاسفة حاروا في موقع ذواتنا المفكرة منذ القرن الـ17 حينما افترض رينيه ديكارت أن عرش الروح هو الغدة الصنوبرية. وذهب إلى أن روحاً غير مادية -بطريقة ما- تسيطر على الغدة فتحرك بدورها النفس الحيوانية أو تيارات هواء من الأكياس الموجودة في الدماغ أيضاً. وهذا في ظن ديكارت هو التفكير. وجاء غلبرت رايل -وهو أستاذ دينيت في أوكسفورد- فبقر أحشاء هذه الفكرة مطلقاً على الروح غير المادية تعبير "شبح الآلة"، وهي في تصويره كيان غير متجسد قادر على الإمداد بالبيانات وتلقيها من كيان متجسد هو الجسم. ويمكن اعتبار أغلب مسيرة دينيت المهنية استمراراً لطرد هذا الشبح من الإنسان شبيه الآلة".

يقول ستيوارت جيفريز إن "دينيت، في كتابه الصادر عام 1991 بعنوان (شرح الوعي)، انتقد ما سماه (المسرح الديكارتي)، أي الفكرة القائلة إن المرء لا يكاد ينبذ فكرة ديكارت عن الروح اللامادية التي تعيش بعد موت الجسد، حتى لا يبقى من نموذج علاقة العقل والجسم عند ديكارت إلا سينما دماغية مخية صغيرة يجلس فيها عملياً قزم صغير مستعرضاً بيانات على شاشة".

ويضيف "في رأي دينيت أنه ما من سينما، أو شاشة، أو ذات، ولكن الأدمغة والأجسام بالأحرى آلات تعالج معلومات، فليست الذات كياناً له موقع وإنما هي ما يسميه (مركز جاذبية السردية)، أي القصص التي نحكيها لأنفسنا عن تجاربنا مع مواصلتنا تنقيح سردياتنا عن تجاربنا كلما عالجنا مزيداً من البيانات".

وهذا بحسب ما يقول خصوم دينيت هراء، إ ذ وصف الفيلسوف غالن ستراوسن فكرة دينيت بأن الوعي قد يكون وهماً بأنها "أسخف المزاعم على الإطلاق". ويقول نقاد آخرون عن كتابه "شرح الوعي" إنه كان خيراً له لو جاء تحت عنوان "طرح الوعي" لا شرحه، بما أنه ينزع من التجربة الإنسانية أهم ما فيها. وذهب فلاسفة آخرون إلى أن العلم لا يمكن أن يفسر ما هو ذو قيمة في التجربة الإنسانية تفسيراً تاماً.

وفي حوار مع موقع "تافتس" يقول دينيت "أمضيت عدداً لا يمكن تصوره من ساعات ذروة نشاطي محاولاً توضيح أنني لا أقول إن الوعي ليس حقيقياً. كل ما أقوله هو أنه ليس ما تتصوره. فهو ليس سحراً حقيقياً. إنه أشبه بحيل أوراق اللعب. والتطور هو الساحر العظيم حقاً، هو الفنان خفيف اليد".

سئل دينيت: "أنت فيلسوف، لكنك تقضي كثيراً من الوقت مع العلماء، فلماذا؟". أجاب "لقد بدأ الأمر بنقاش مع زملائي خريجي أوكسفورد عما يحدث عندما تتخدر يدك، فإذا بها يد غريبة حينما تصطدم بوجهك، وهي خدرة، وليس بوسعك أن تسيطر عليها. لقد مررت بهذه التجربة وأحسب أن الجميع مروا بها. أردت أن أعرف ما يجري. كيف يحدث؟ رأى فلاسفة آخرون أن هذا ليس من الفلسفة في شيء. فقلت، إذاً يجدر به أن يكون منها. لا بد من اكتشاف ما يجري في جسمك، وما يجري في دماغك. فبدأت أتعلم. لم أكن أعرف حتى الخلية العصبية في ذلك الوقت من أوائل الستينيات، لكنني سرعان ما تعلمت، ومن حسن حظي أن تعرفت بأساتذة ومرشدين قدموا لي دروساً من طراز رفيع".

وسئل أيضاً عن اهتمامه بترويج النظرة الإلحادية لدى العامة فقال "لسنا بحاجة إلى ما وراء الطبيعة. الطبيعة رائعة بما يكفي".

يقول ستيوارت جيفريز إن دينيت يرى -بوصفه أحد الفرسان الأربعة- أن "الإيمان إعاقة معرفية" وأن الدين "أكبر الأخطار على الحضارة. فالإيمان الديني يمنح الناس ذريعة ذهبية للتوقف عن التفكير". ويضيف أن "نتاج دينيت تمحور منذ كتابه (شرح الوعي) حول قوله إن أفضل فهم لكثير من الظواهر الإنسانية يتحقق في السياق التطوري. فكل شيء يتطور، سواء أهو الدين أم الحرية أم الوعي بل والفلسفة. وهو في هذا يستفيد كثيراً من صديقه ريتشارد داوكنز وقوله بالميمات، وهي أشبه ما تكون بالمعادل الثقافي للجينات من حيث قدرتها على الانتقال والتحور الاعتباطي والتأثر بالانتخاب الطبيعي".

ينقل جيفريز من كتاب "فكرة داروين الخطرة" الذي يعده أفضل كتبه، قول دينيت "لو أنك تمكنت مع الاقتراب من تعقيدات العالم، وكل من أمجاده وأهواله، متحلياً بالفضول والتواضع، معترفاً أنك مهما تعمقت في ما تراه فما زدت على أن خدشت السطح، فستعثر على عوالم من وراء عوالم، وجمال لم يكن بوسعك من قبل أن تتخيله".

ويعلق جيفريز قائلاً إنه "طموح نبيل، لكن دينيت يعجز -في كتاب سيرته الذاتية هذا في الأقل- عن التواضع، عجزاً يعوقه عن تحقيق طموحه".

العنوان: I"ve Been Thinking Hardcover

تأليف: Daniel C. Dennett 

الناشر: ‎ W. W. Norton & Company

المزيد من كتب