Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوم قصف عادي" في حياة غزة

المؤثرون باتوا ينقلون أدق التفاصيل على مواقع التواصل الاجتماعي

مروحية إسرائيلية تطلق صاروخا أثناء طلعة جوية بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ ف ب)

مراسل يقف في محيط مستشفى، كاميرا مثبتة أعلى مبنى تكشف عمليات القصف الليلي، وأخرى يركض حاملها ومعه المراسل على ركام عمارات تم دكها قبل دقائق، مراسلون في مدن فلسطينية وأخرى إسرائيلية لنقل ردود فعل هنا وتحركات تجري هناك.

منذ بدء حرب القطاع، في اليوم التالي لـ"هجوم حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وملايين المشاهدين يتلقون التوليفة السابقة على مدار ساعات النهار والليل، إنها الحدود المسموح بها (بحكم صعوبة التحرك داخل شوارع القطاع وأحيائه، حيث القصف بلا هوادة والاستهداف لا يمكن توقعه) للمراسلين والصحافيين.

الاستثناء في لقاء عابر

الاستثناء لهذه الحدود يكمن في لقاء عابر يجريه مراسل مع أحد أفراد طواقم الإسعاف بينما يركض خارجاً من المستشفى بعد نقل مصاب، أو سؤال يطرحه على شاب تطوع للبحث عن ناجين أو قتلى تحت الأنقاض، أو آخر فقد أفراداً من أسرته وجلس يبكي على تل الركام.

أما تفاصيل حياة أهل غزة في ظل تلك الأحداث، كيف ينامون ليلاً إن ناموا؟ وماذا يأكلون إن أكلوا؟ وأين يستحمون إن أتيحت الفرصة؟ وما الذي يفكرون فيه إن سمحت لهم الأحداث الجسام برفاهية التفكير، فجميعها يتم نقله وبثه (وإن كان بوجهة نظر ورؤية لا تخلو من الرغبة في التأثير والتوجيه) عبر المئات من صناع المحتوى.

حولت حرب القطاع صناع المحتوى في داخل غزة إلى عين العالم (في الأقل من يرغب) على تفاصيل الحياة اليومية لغزة وأهلها على مدار الساعة، كلما وأينما سنحت الساعة والظرف، الظرف المأسوي الذي تفجر بعد ساعات من عملية "حماس" وضع غزة وأهلها من المدنيين في خانة تشبه الجحيم إلى حد كبير، هذه الخانة اختزلت في تغطيات على مدار الساعة على شاشات القنوات الإخبارية العربية وغير العربية، وهو اختزال ظاهره كاف لمعرفة ما يجري، لكن باطنه قاصر عن معرفة ما يخوضه أهل القطاع في "يوم قصف"، هذا اليوم يغطى خبرياً عبر نوع الهجوم والأسلحة المميتة المستخدمة، وعددياً حيث أعداد وتقديرات القتلى والمصابين والمشردين، وكذلك ما بعد القصف حيث تفقد الآثار، ولو كان المراسل محظوظاً فسيتمكن من التقاط مشاهد إخراج جثامين وإنقاذ عالقين.

لكن هذا اليوم نفسه يحمل عديداً من التفاصيل التي تبدو صغيرة وتافهة، لكنها في ظل الأوضاع المزرية كبيرة وبالغة الأهمية.

تفاصيل القصف الصغيرة

هذه التفاصيل "الصغيرة" في "يوم قصف معتاد" تحملها بدفء إنساني شديد، وإلمام عميق بالمكان وأهله، ورغبة واضحة لنقل ما تراه الأعين وما تشعر به القلوب مجموعة من صناع المحتوى العنكبوتي، بعضهم "مؤثرون" بحكم ما كانوا يقومون به قبل حرب القطاع، ثم صاروا أكثر تأثيراً بعد اندلاع الحرب، وفريق ثالث لم يكن مؤثراً ثم صار كذلك عبر كاميرا هاتفه المحمول.

المئات من كاميرات الهواتف المحمولة في أيدي "مؤثرين" من داخل غزة صارت محتوى يومياً حال لم تنقطع الكهرباء أو الإنترنت أو كلاهما، وطالما صاحب الهاتف على قيد الحياة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة المئات من المؤثرين من أهل غزة "على كف عفريت"، إنه عفريت القصف والاجتياح الإسرائيلي للقطاع براً وبحراً وجواً، لكن هؤلاء المؤثرين والمؤثرات يعرفون أن "العفريت" لا يختصهم بكفه، بل كل من هم في القطاع أو حتى على مقربة من القطاع يتشاركون في الكف الخطر.

خطورة الأوضاع في غزة، وما ينجم عنها من مصائب إنسانية لا تتوقف على مدار الساعة، مع اقتصار ما تبثه الشاشات التلفزيونية الكبيرة على عدادات القتلى وإحصاءات الدمار، شجعت على ما يبدو هؤلاء المؤثرين على توثيق حياتهم وحياة جيرانهم اليومية، وما يلحق بالجميع من أتراح قتل وإصابة، وأفراح اكتشاف من بقي حياً بينهم.

أسماء كثيرة وأثر رهيب

الأسماء كثيرة والمحتوى كبير، والأثر رهيب. بلستيا العقاد صحافية شابة من سكان غزة كانت معروفة قبل حرب القطاع بين بضعة آلاف من المتابعين، إذ دأبت على توثيق الحياة في "غزة الجميلة" على حد وصفها. تحولت بين يوم وليلة إلى شابة فلسطينية توثق ما يعيشه أهل غزة من مآس مروعة على مدار اليوم، مع شرح بالصوت والصورة لمعضلات انقطاع الكهرباء والإنترنت وتهدم البيوت والنزوح.

محمود زعيتر فنان كوميدي شاب من أهل غزة كذلك، كان معروفاً بـ"وزير السعادة" قبل حرب القطاع، وتحول إلى موثق لما يجري في غزة على مدار اليوم أيضاً، اللافت أن زعيتر عايش ثلاث حروب سابقة على غزة، وفي كل مرة كان يحتفظ بطابعه الكوميدي في التعامل مع الأحداث بغرض رسم ابتسامات على وجوه المكلومين والمتضررين.

 

 

هذه المرة، يعاود زعيتر الكرة، لكن فداحة الأحداث مقارنة بما سبقها كثيراً ما تطغى على ملامح وجهه وتنال من جهوده إضفاء ضحكة على الوجوه المثقلة والمتعبة.

بلال خالد مصور فلسطيني يوثق مشاهد يومية من المأساة تختلط فيها نظرة الفنان ببشاعة الواقع، وئام بدوان صانع محتوى و"يعمل ببطالة في شركة الكهرباء ولديه ما يكفي للشاي والقهوة" كما قال في لقاء صحافي قبل حرب القطاع. حالياً يوثق ما يجري على الأرض وأحياناً تحتها، بحسب القصف.

ما يقوله المتلقون

وبحسب ما يقول المتلقون في الشوارع والبيوت وفي تجمعاتهم التي باتت منذ السابع من أكتوبر الماضي، ذات محور رئيس، هو حرب القطاع، فإن الشاشات الكبيرة، أي شاشات التلفزيون، وتحديداً القنوات الإخبارية عادت لتصبح محور الاهتمام وملتقى الجميع بحثاً عن أحدث المستجدات في حرب القطاع.

لكن ما يقوله المتلقون أيضاً إن الشاشات الكبيرة، سواء العربية أو الغربية، لم تعد كافية لمعرفة ما يجري في غزة، الجميع يدق على أزرار الـ"ريموت كونترول" متنقلاً من "العربية" إلى "الشرق" ومنهما إلى "الجزيرة" و"سكاي نيوز"، ثم يهرع إلى "روسيا اليوم" و"فرانس 24" و"بي بي سي"، وربما يعرج على "سي أن أن" و"الحرة" و"دويتشه فيله". بل صار هناك من ينقب عن إعلام فلسطين المرئي تارة، والإعلام الإسرائيلي على استحياء لمعرفة ما يقال على الجانب الآخر.

الجانب الآخر من القصة الخبرية باتت تهم الملايين، شأنها شأن الجانب الخبري، ومن قصف ماذا، وكم شخص قتل وعدد الإصابات وحجم التدمير، ومن علق بماذا؟ ومن شجب من؟ ومن طالب بماذا؟

الجانب الآخر الذي يدور بينما الأخبار تحدث، والتحركات السياسية والخطط العسكرية والردود الدبلوماسية تدور رحاها، هو حياة أهل غزة من رجال ونساء وأطفال على مدار ساعات اليوم، هؤلاء يعيشون الحياة بتفاصيلها أثناء ساعات القصف وقبلها وبعدها. وهذه التفاصيل وجدت في المئات من حاملي الهواتف المحمولة من ينقلها إلى الجانب الآخر من العالم، حيث إن هناك الملايين التي باتت تنتظرها وتتلقفها وتبحث عنها وتتشاركها.

في التشارك مشكلة

وفي التشارك مشكلة أحياناً، لكن فداحة الحرب وحجم الأثر والرغبة "الإنسانية" الجامحة للمساعدة، ولو بضغطة زر لا تفسح المجال كثيراً للتدقيق والتأكد من أن المحتوى أصلي وغير مفبرك أو مبالغ فيه، ولو بحسن نية.

يقول الكاتب الصحافي ومسؤول وسائل التواصل الاجتماعي في مؤسسة الأهرام المصرية أحمد سعيد طنطاوي لـ"اندبندنت عربية" إنه يصعب تنفيذ فيديوهات أو صور أو محتوى مبالغ فيها، لأن ما يحدث في غزة هو واقع مبالغ في قسوته ووحشيته من الأصل.

 

 

ويضيف، "كم طفل فقد كل أفراد أسرته؟ وكم أم فقدت كل أبنائها؟ وكم عائلة انتهت بقصفها؟ وسؤال الـ"كم" لا ينتهي، إذاً لا مجال للمبالغة في هذه الصور والفيديوهات والمحتوى بالغ الأهمية الذي يصدر من غزة".

ويشير طنطاوي إلى أنه بشكل عام، يفترض ويتوقع ويفضل أن يجري التدقيق والنظر في الأرقام التي يتم الإعلان عنها، فمثلاً، بعض ما يتم بثه من قبل "الإعلام العسكري" من خسائر تم تكبيدها للجيش الإسرائيلي، ربما تكون فيه مبالغة لأسباب معروفة، أما أهل غزة من المدنيين، فيصعب أن تكون هناك مبالغة، فمعاناتهم ومأساتهم غير مسبوقة، وليس هناك أصدق أو أوقع من أن يطلع العالم على ما يكابده أهل غزة في حياتهم اليومية أكثر من صور ومشاهد هم أنفسهم أبطالها. والوسيلة الوحيدة لتفعيل هذا الاطلاع هو ما يقوم به أصحاب الهواتف المحمولة في غزة ممن يوثقون غزة وأهلها في مرحلة ما قبل الوصول إلى المستشفى مصابين أو قتلى أو أشلاء".

يريدون دخول غزة

يشار إلى أن نحو 100 صحافي فرنسي وقعوا على عريضة تطالب بحقهم في دخول غزة، والتمتع بالحماية المنصوص عليها للصحافيين في مثل تلك الظروف، وذلك "لأن الحرب تحتاج تقارير ميدانية من كلا الجانبين المتحاربين" كما جاء في العريضة، وجاء فيها أيضاً أن "الصحافيين (الأجانب) تمكنوا من تغطية ونقل القصص الإخبارية والإنسانية لضحايا الهجوم الذي شنته "حماس" (في السابع من أكتوبر). ونحن في حاجة إلى العمل بينما نحظى بالتأمين حتى نتمكن من تغطية ما يجري في غزة، دعونا ندخل غزة حتى نتمكن من القيام بمهمتنا".

وأشار الموقعون إلى أنه منذ فرض إسرائيل الحصار على غزة قبل 16 عاماً، والصحافيون لا يستطيعون دخول الأراضي الفلسطينية إلا بعد الحصول على تصريح من السلطات الإسرائيلية، وأضافوا أنه منذ اندلاع الحرب الحالية، والسلطات الإسرائيلية لا تسمح للصحافيين بالدخول إلى غزة.

وكان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية ضياء رشوان أشار قبل أيام في حديث تلفزيوني إلى أن "سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمنع وسائل الإعلام الأجنبي من دخول غزة، وتسعى لخلق نوع من التعتيم على الحقائق في القطاع".

صانعو المحتوى الصادر من غزة يصنعونه بكل تأكيد وقلبهم على القطاع وأهله، لذلك فإن مطالبتهم بتحري الدقة، والتأكد من عداد القتلى في كل أسرة، وانتقاء المفردات حيث الرضيع قتيل وليس شهيداً، وغيرها من مبادئ الموضوعية والشفافية أمور غير واردة ومنزوعة المنطق ولم يطلبها أحد في ظل الطرف البائس الراهن.

الظرف البائس الراهن

الظرف البائس الراهن يحتوي كذلك على محتوى يصنعه إسرائيليون حول حرب القطاع، ويجري تداوله على الشبكة العنكبوتية، جانب من هذا المحتوى يعتمد على السخرية من غزة وأهلها في مصيبتهم، والجانب الآخر يتراوح بين تقديم قصص تعكس "معاناة" الإسرائيليين النفسية والأمنية جراء ما حدث في السابع من أكتوبر، وسرد لرؤى "السلام الذي يحلمون به ويحرمهم منه الفلسطينيون". وتظل هناك مساحة متناهية الصغر لمحتوى يندد بالرد الإسرائيلي "المبالغ فيه" والمطالبة بوقف الحرب أو في الأقل هدنة إنسانية.

يشير تحقيق صحافي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" قبل أيام تحت عنوان "لماذا جذبت فيديوهات تيك توك عن حرب إسرائيل – حماس مليارات المشاهدات"، إلا أن عمليات البحث الأعلى على "تيك توك" بعد 48 ساعة من عملية "حماس"، تأتي "فلسطين الآن" و"إسرائيل الآن". هاشتاغ "فلسطين" حقق نحو 27.8 مليار مشاهدة على التطبيق، في حين حقق هاشتاغ إسرائيل نحو 23 مليار مشاهدة.

 

 

ما يجري على أثير تطبيقات الـ"سوشيال ميديا" في ظل حرب القطاع هو مادة إنسانية عضوية لم تتدخل فيها أيادي محرري التوازن الخبري ولمسات مدققي الصحة اللغوية، كما لم تضف له أخبار المحللين الاستراتيجيين والمنظرين السياسيين والعسكريين لمسات "الكبار" من أهل مهن السياسية والحرب والتكتيك المحنكين والموجهين.

التوجه الحالي يشي بأن موثقي حرب القطاع من خلال عرض تفاصيل حياة أهل غزة، وربما حياة الموثقين أنفسهم، وكيف تمضي بلا خبز أو مياه أو مأوى أو بأقل القليل منها، فرضوا محتواهم على مليارات المتلقين حول العالم، وهو فرض يسد فجوة شح تفاصيل أهل غزة على الشاشات الكبيرة، وربما يقلل فجوة ما يسميه البعض بـ"تحيز" بعض وسائل الإعلام الغربي لصالح الرواية والموقف الإسرائيلي.

وعلى رغم ذلك، يبقى المنتج العنكبوتي المصنوع من قبل أصحاب الشأن في حرب القطاع محتوى يعرف المتلقي مسبقاً أنه محتوى يحمل توجهاً دون غيره، ويتحيز لطرف وليس الآخر، وتبقى حرب القطاع استثناء في نواح عدة، منها فداحة ما يجري للمدنيين في غزة واستحالة مطالبة صناع المحتوى بتوازن الرؤية وتعادل الرواية، ولو فعلوا لانصرف عنهم الملايين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات