Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كابوس قتل الأم برصاص الأب لا يفارق كلوي دولوم

رواية "مجنونة مسكينة" تستكشف تداعيات مأساة السقوط في جحيم الحب المستحيل

"البطلة" بريشة الرسامة بايا (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

رواية "مجنونة مسكينة" تستكشف تداعيات مأساة السقوط في جحيم الحب المستحيل

كنا نظن أن الكاتبة الفرنسية ــ اللبنانية كلوي دولوم قد انتهت من تفريغ المأساة الرهيبة التي عاشتها في طفولتها، داخل الروايات والنصوص العديدة التي تناولتها فيها. لكن هل يمكن حقاً تفريغ مثل هذه المأساة والمضي إلى الأمام؟ سؤال يشكّل الخيط السرّي لحبكة روايتها الذاتية الجديدة، "مجنونة مسكينة"، التي صدرت حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، وتغوص بنا داخل النفس السديمية لامرأة خمسينية تعيش منذ نعومة أظافرها على حافة الجنون.

الإجابة فوراً بالنفي عن السؤال المطروح، لا تحتاج إلى تسنيد سيكولوجي. إذ كيف يمكن للزمن أن يمحو من ذاكرة طفلة في سن العاشرة مشهد قتل والدها أمها بعيارين ناريين، تحت عينيها، ثم الانتحار، أيضاً تحت عينيها، بعدما صوّب فوهة مسدسه طويلاً تجاهها؟ كيف يمكن لعبور الزمن أن يمحو آثار مثل هذا الفعل الرهيب على نفسها، مهما جهدت لاحقاً في تعزيمه بوسائل مختلفة، خصوصاً الكتابة؟ استحالتان لن تردعا بطلة دولوم ــ وقرينتها ــ في "مجنونة مسكينة"، عن محاولة إعادة ترميم شخصيتها المصدّعة أثناء رحلة طويلة في القطار إلى مدينة هايدلبرغ الألمانية، آملةً أيضاً، من خلال هذا السفر، في فهم سبب انزلاقها ـــ هي النسوية الراديكالية ــ داخل علاقة عاطفية نارية مع رجل، محكومة سلفاً بالفشل.

كلوتيلد (اسم هذه البطلة) لا تحبّ الرجال، ولا الأطفال، ولا الواقع. امرأة "تطفو داخل مجتمعها مثل ظل نجم مطفأ"، وتعيش داخل شقّة صغيرة في باريس برفقة قطّتها "سيتروي"، وتلك الحبوب الصغيرة التي تتناولها بانتظام لتلطيف ألمها وعدم وضع حد لحياتها المرصودة كلياً للكتابة. حين توجّهت قبل عشر سنوات إلى روما للإقامة في "فيلا ميديسيس"، إثر قبول "أكاديمية فرنسا" في هذه المدينة طلبها، لم تكن تتوقع أن تلتقي بمخرج سينمائي مثلي يدعى غييوم، وتقع في غرامه من النظرة الأولى. لقاء صاعق اختبر غييوم خلاله الحب نفسه، وأدّى إلى علاقة محمومة بينهما دامت عامين، تبادلا خلالهما مئات الرسائل، قبل أن يضع غييوم حداً لها بطريقة مفاجئة، مدمّراً كلوتيلد وحارماً إياها من معجزة هذا الحب المستحيل.

جراح لا تندمل

لكن بعد عشر سنوات من هذه الفاجعة، أمضت كلوتيلد معظمها في "العناية الفائقة"، تضمّد جراحها وتلملم أشلاءها، يوجّه غييوم إليها رسالة يعبّر فيها عن إرادته إعادة إحياء علاقتهما، الأمر الذي يعيدها إلى النقطة الصفر ويجعلها ترغب في الاستسلام لمشيئته، على رغم الشروط الإعجازية التي يضعها لهذه العلاقة، وإدراكها جيداً مصيرها المحتوم.

ولفهم محركات هذه الرغبة اللاعقلانية فيها، التي تناقض كل مبادئها كمناضلة نسوية ضارية، تقرر كلوتيلد القيام بذلك السفر إلى هايدلبرغ. رحلة في القطار تمتد على طول الرواية، ونراها خلالها مستسلمةً لطقسٍ عنيف يقوم على اقتلاع ذكريات قديمة من رأسها، طبعتها، كما لو أنها قطع لحمٍ حيّ، والتأمل ملياً في كل واحدة منها، متحسّسةً مادتها ومدوِّرةً إياها تحت أصابعها، قبل محاولة جمعها سوية، كما لو أن الأمر يتعلق بمربكة (puzzle).

هكذا نتعرّف إلى أبرز أحداث حياة كلوتيلد: اكتشافها الشعر في مكتبة والدتها وهي طفلة، مصرع هذه الأم على يد والدها، ثم انتحاره، تحت عينيها، كابوس حياتها في منزل خالتها الكريهة مباشرةً بعد هذه المأساة، سنوات مراهقتها التي تسلّطت عليها نزوة الانتحار، ترددها الثابت على عيادات الأطباء النفسانيين، الكتابة التي تمارسها بلا كلل من أجل البقاء على قيد الحياة، التزامها النسوي الراديكالي ومعانقتها الأخوة النسائية، علاقاتها العاطفية والجسدية مع الجنسين، ممارستها الدعارة لفترة قصيرة... وصولاً إلى لقائها بغييوم وبنائها معه علاقة تراسلية ذات طابع إدماني، استيهامي، لا تلبث أن تنهار لدى احتكاكها بالواقع.

ولا عجب بالتالي من ملامسة كلوتيلد الجنون مع عودة الحياة إلى هذه العلاقة، بعد عقد من الزمن. فهذه المرأة التي تعاني من أمراض ذهانية، منذ ذلك الفصل الرهيب في طفولتها، من بينها مرض الثنائي القطب، وتصدّع "أناها" وانفصامها إلى عدة "أنوات"؛ كانت قد بدأت تجد ما يشبه السلام والتوازن النفسي والاكتفاء داخل عزلتها، حين صعقها ذلك الحب مجدداً ودمّر باستحالته قلبها وكل الجسور التي شيّدتها مع نفسها...

مشهد سديمي

أهمية "مجنونة مسكينة" تكمن أولاً في تشكيلها حصيلة مكثّفة لجميع أعمال دولوم الأدبية التي تجاوز عددها الثلاثين إصداراً. إذ تحضر فيها جميع موضوعات هذه الأعمال (العزوبة، الأخوّة النسائية، حركات التحرر النسوية الحديثة، المثلية، الدعارة، الحب السام...)، بطريقة سديمية تشكّل خير مرآة للفوضى العابثة داخل نفس الكاتبة. ومن هذا المنطلق، تشبه الرواية صاحبتها، أكثر من جميع الأعمال التي سبقتها. رواية وضعتها دولوم لمخاطبة ذاتها ورأب تصدّعاتها، ولاستكشاف تداعيات مأساة طفولتها على نفسها وحياتها، مرةً أخرى.

ولإنجاز ذلك، صقلت لغةً مبتكَرة، غنية في مفرداتها وصورها ومناوراتها الأسلوبية، تشكّل خير ركيزة لتصوير تمزّقات شخصيتها. لكن هذا لا يعني أن القارئ سيذرف دموعاً لدى مطالعة روايتها، فمثل قرينتها كلوتيلد، دولوم "لا تطيق أن تثير قصتها رغبة البعض في البكاء. (...) وللإفلات من كلمة ضحية تركض في اتجاه التعزيم والتحوّل"، متجنّبةً كلياً الوقوع في البؤسوية، ومستثمرةً السخرية من الذات والدعابة بعبقرية لافتة. دعابة سوداء تارةً، كما حين تؤنسن قطة كلوتيلد وتجعلها تقلق على صحتها النفسية، فتطلب رقم الطوارئ وتموء في جهاز الهاتف طلباً للمساعدة؛ وبيضاء تارةً أخرى، لكن قاطعة ومدمّرة، كما في الفصل الذي تكرّسه لخط بورتريهات دقيقة، لاذعة، لمختلف نماذج الذكور الغيريين بعد ظاهرة "أنا أيضاً" النسوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما يقودنا إلى مصدر قوة هذه الرواية الأول، أي الكلمة كدرعٍ متينة فيها لمواجهة الرعب والألم. فسواء تعلق الأمر بصدمة حياتها الأولى، بأمراضها الذهانية، أو بجروحها البليغة من قصة حبها المستحيل، لا شيء يفلت من بصيرة دولوم، المشحوذة مثل سكين، ومن لغتها التي تنمّ عن فنّ نادر في العثور على الكلمات والصيغ لقول ما يتعذّر قوله. فن يسمح لها بقولبة الواقع كما يحلو لها، لتشريحه بشكلٍ أفضل، وبطرح بألمعية الأسئلة المعاصرة للعلاقة بين الرجل والمرأة، خصوصاً ذلك التنافر الحاد بين نسوية تمقت الذكور، وغيرية ذكورية يصعب تغييرها.

وكما في معظم أعمالها السابقة، لا تنسى دولوم في "مجنونة مسكينة" إدانة "العنف البطريركي"، مذكِّرةً في هذا السياق بحقائق وأرقام رهيبة، كارتفاع معدّل الاعتداءات الجنسية في فرنسا إلى واحد كل سبع دقائق، إنكار معظم الرجال هذه الجرائم، عدم تحمّل المجتمع الفرنسي طويلاً الأمراض العقلية والنفسية لضحايا هذه الجرائم، النساء، وتخييره إياهنّ بين الشفاء العاجل أو التهميش. ومن خلال علاقة كلوتيلد بغييوم، تعرّي أيضاً جوانب الرغبة والأنانية والاستيهام داخل أي علاقة حب.

وفي حال أضفنا تأملاتها الباردة والخاطفة في موضوع نهاية العالم القريبة والمحتومة، لتبيّنت كل قتامة روايتها التي تُمكِن، مع ذلك، قراءتها كنشيد احتفاء بسلطة الشعر، القادر في نظرها ليس فقط على قلب حياتنا وفتح باكراً أبواب إدراكنا، كالصدمة الجمالية الأولى التي تلقّتها كلوتيلد لدى قراءتها قصيدة رامبو "أوفيليا" في طفولتها؛ بل أيضاً على إنقاذنا من أصعب المحن وجعلنا نشعر بأننا ما زلنا أحياء في قلب الرعب والجنون، وحتى على إعادة موتانا إلى الحياة: "حين كانت كلوتيلد تكتب، كان يتملّكها الشعور بأن أمّها تعود إلى الحياة، في مكانٍ ما، أو بأنها لا يمكن أن تموت. لقد نقلت إليها أسرار علم العروض، وكان قلب كلوتيلد يخفق على إيقاع أقل بحر اسكندري" يقع تحت ناظريها.

أما سرّ الوقع العميق لأثر هذه الرواية على نفس قارئها، فلن نجد تفسيراً له أفضل مما قالته دولوم بنفسها، في حوار معها: "الحياة والكتابة هما الشيء نفسه. وفقاً للطب الصيني، ثمة رابط بين القلب واللسان. (...) على المرء إذاً أن يكون قد امتحن الأشياء في قلبه كي يتمكن من امتلاك لغة صائبة. وقد تكون الأحداث التي اختبرتُها غنية بما يكفي، وذات طابع شامل، كي تنعدم الحاجة إلى الابتكار".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة