Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سارة النمس تزيل الحدود بين الموت والحياة في لعبة فانتازية

في رواية "على فراش الموت" يعود الموتى لينهوا حساباتهم المؤجلة مع الاحياء

لوحة للرسام الفرنسي نيكولا دو ستال (متحف الراسم)

يشعر كلّ قارئ أنّه عندما يفتح الصفحة الأولى من أيّ رواية، كأنه يوقّع ميثاقاً مع الكاتب بأن يدخل عالماً متخيّلاً يتحكّم به روائيّ يقدّم ما يشاء من معلومات وفضاءات سرديّة ويحتفظ بما يشاء من تفاصيل ومعطيات. لكنّ قارئ رواية الكاتبة الجزائريّة الشابّة سارة النمس، لا يتوقّع أن يقع في روايتها الأحدث "على فراش الحياة" (دار الآداب، 2023) على هذا الكمّ من الغرائبيّة والفانتازيا. فالأموات يعودون إلى الحياة والأحياء واقعون في حيرة من أمرهم، والقارئ لا حول له ولا قوّة، يكتشف منذ الصفحة الأولى للسرد أنّ الرواية ليست عاديّة، فتقول راوية الفصل الأوّل ياسمين: "ما لا يمكن توقّعه في أيّ شكل، أن يعود ميّت إلى الحياة بهيئته التي نعرفها تماماً كما كان قبل أيّام من موته... هل يمكنك أن تتخيّل ذلك؟" (ص: 9).

إنّ عودة ميت واحد لهي مسألة غير قابلة للحدوث ولا للتصديق، فكيف إن عادت ثلاث إناث؟ كيف الحال وقد عادت في كلّ قسم من أقسام الرواية الثلاث أنثى، ليكون مجموع العائدين ثلاث إناث؟ وأين هم الرجال من هذه المعادلة؟ لماذا لا يعودون؟ ولماذا تعود هذه الإناث تحديداً؟ ما غايتهنّ؟ وما ظروف عودتهنّ؟ وكيف يصفن الموت؟ تجيب سارة النمس عبر الأصوات الروائيّة المتعدّدة التي تمسك بزمام السرد على شيء من هذه الأسئلة وتختار أن تترك الشيء الآخر لمخيّلة القارئ. ومن الجدير ذكره أنّ العنوان هو الآخر جزء من المفارقات الأدبيّة الفنّيّة الجميلة والمختارة بعناية في هذا العمل. فبينما يُقال لغويّاً "على فراش الموت" تتحوّل هذه العبارة لدى سارة النمس إلى "على فراش الحياة"، كانعكاس لما في النصّ من تداخل بين الحياة والموت واضمحلال الحدود بينهما.

عودة ثلاث إناث 

تختار سارة النمس أن تقسم روايتها إلى ثلاثة أقسام كبيرة يحمل كلّ منها الحرف الأوّل من اسم كلّ عائدة. فالقسم الأوّل يحمل حرف الياء تيمّناً بالعائدة الأولى العجوز الجدّة اليامنة. أمّا القسم الثاني فيحمل حرف العين تيمّناً باسم عليا العائدة الثانية التي تعود إلى زوجها كمال وتأتيه إلى بيتهما الزوجيّ. ويحمل القسم الثالث حرف الراء عنواناً، تيمّناً بالعائدة الثالثة الطفلة ريهام. وتتوزّع أحداث الرواية على هذه الأقسام الثلاثة الكبرى التي تنقسم بدورها إلى ثلاثة وثلاثين فصلاً، يروي كلّ فصل منها شخصيّة مختلفة. فيقع القارئ على رواة متعدّدين تربطهم علاقات مختلفة بالعائدات من دون أن ينحصر السرد بعائدة واحدة، فالعائدات ثلاثتهنّ ينتمين إلى قرية واحدة وزمن واحد، والأشخاص الذين يعرفون بعودتهنّ هم على تواصل في ما بينهم وعلى علاقات مختلفة، تتغيّر بتغيّر العائدات وقصصهنّ وطباعهنّ.

يبدأ السرد بعودة اليامنة، والدة آسيا وعدنان وجدّة ياسمين. فيبدأ السرد بياسمين التي تصف مشهد باب البيت الذي يُطرق والذي تفتحه أمّها آسيا لتجد أمامها أمّها المتوفّاة، فتقول ياسمين الحفيدة: "رأيتُ جدّتي اليامنة، أي أنّ أمّي استقبلت للتوّ والدتها التي توفّيت قبل ثلاث سنوات. ومن المفترض أنّ جثّتها قد تحلّلت ولم يبقَ منها سوى العظام! ولكن ها هي أمامنا بالهيئة نفسها التي كانت تبدو عليها قبل أيّام من موتها، فما الذي حدث بالضبط؟ هل ماتت حقّاً وعادت إلى الحياة؟ أم أنّهم دفنوا عجوزاً أخرى في مكانها؟ وأين كانت مختفية طوال تلك السنوات وكيف ما زالت تبدو كما كانت؟" (ص: 11). تدور الأحداث في القسم الأوّل حول هذه العودة الغريبة الأولى مع أسئلة مضحكة غريبة. كيف عادت اليامنة؟ لماذا عادت؟ هل ترانا أصبنا بالجنون جميعنا في البيت؟ هل كانت الجدّة مختبئة؟ هل هي شبح سيختفي بعد قليل؟ هل حانت ساعة القيامة؟

أسئلة كثيرة تنتقل إلى القسم الثاني من الرواية لتصبح من نصيب كمال الذي يدخل الصالون ليجد زوجته الأولى جالسة أمامه. زوجته المتوفّاة قبل خمس سنوات. ماذا تراه يفعل؟ باتت لديه الآن زوجتان، فماذا يفعل بهما؟ من أين أتت هذه الزوجة المتوفّاة؟ ومن سيصدّقه؟ لماذا عادت؟ وكيف السبيل إلى العيش مع زوجتين؟ فيقول كمال: "أشكّك في قواي العقليّة... ربّما أنا مريض، ربّما فقدتُ عقلي وأصبتُ بالفصام. فما يحدث غير ممكن... لكن ماذا عن أماني زوجتي؟ لا يمكن أن نجنّ جميعاً." (ص: 84).

أمّا القسم الثالث الذي لا يقلّ غرابة عن سابقيه فهو يتناول عودة الطفلة ريهام التي توفّيت بمرض خبيث وهي في سنّ صغيرة. تعود ريهام إلى والديها كما كانت قبل وفاتها، ما يجرّ ذهول والدها الممرّض ووالدتها التي كانت قاسية عليها في حياتها الأولى. لماذا تراها عادت؟ وهل تنمو كغيرها من الأطفال؟ وكيف يعيدانها إلى المدرسة وهي ميتة؟ كيف يخبران الجيران أنّها عادت إلى الحياة؟

أسلوب ساخر 

يوافق أسلوب الكتابة الروائيّة الموضوع، فالكاتبة تختار جملاً خفيفة قصيرة متماسكة تعكس ردود الفعل الإنسانيّة الطبيعيّة لشخص يرى أمامه عزيزاً قد عاد من الموت وكأنّه عائد من نوم طويل. فتورد سارة النمس مثلاً في أحد المواضع شكّاً قائلةً على لسان أحد أبطالها: "أنا أصلاً لستُ واثقاً من عودتها... قد تختفي فجأة كما ظهرت فجأة!" (ص: 80)، كما تورد في أماكن أخرى أسئلة شرعيّة عن حقيقة ما يجري وطريقة التصرّف المنطقيّة إزاء العائدات من الموت، وهو ما يضفي خفّة سرديّة جميلة ومفيدة لوصف الأحداث وردود أفعال الشخصيّات.

مواقف غريبة غير متوقّعة تتعرّض لها شخصيّات هذه الرواية بحنكة سرديّة هازلة ومنطقيّة، وفانتازيا ماكرة. والأدهى من ذلك هو الصفات التي عادت بها الإناث الثلاث، فهنّ هادئات، ساكنات، شاردات، بلا رائحة ولا قدرة على تناول اللحوم. هنّ لا يرغبن في استعمال مستحضرات التجميل ولا المنتجات الصناعيّة ولا الأدوات الحديثة. فيهنّ شيء من البرود والجفاف، وفي عيونهنّ نظرات قاسية لا مبالية مخيفة. لا يتذكّرن تفاصيل حياتهنّ السابقة بأكملها، كما لا يتذكّرن تفاصيل موتهنّ وما يحدث بعد الموت. لا يعبأن بأحد ولا يتكلّمن كثيراً. لا يشرحن من أين هنّ عائدات ولا يفسّرن مشاعرهنّ ولا يُفهم منهنّ شيء. وكأنّهن كنّ في سبات عميق ومعتم، وها قد خرجن منه لا مباليات وغريبات الأطوار مع نهم فائض للنوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تورد الكاتبة صفات العائدات، كلّ على حدة. من الصفات ما هو مشترك ومنها ما يختلف بين عائدة وأخرى. إنّما المعلوم هو أنّه لكلّ عائدة هدفها الخاصّ من العودة. تعود اليامنة لتصحّح أخطاء الماضي وتصوّب ما اقترفته بحقّ ابنتيها. أمّا عليا فقد عادت لتكمل قصّة حبّها مع زوجها كمال الذي توفّيت بعد سنة ونصف على زواجها منه. أمّا الطفلة ريهام فقد عادت لتنتقم من أمّها وتحاسبها على قسوتها السابقة معها وتفضيل شقيقتها عليها. أهداف بشريّة ثلاثة، منها المفهوم ومنها المخيف، تبرّر هذه العودات وتضعها في إطار سرديّ اجتماعيّ إنسانيّ جميل ومنطقيّ على ما في السرد كلّه من غرائبيّة.

تتميّز هذه الرواية كذلك بتعدّد الأصوات السرديّة (البوليفونية) مع سيطرة آسيا على عدد كبير من الفصول، فهي ابنة اليامنة أي العائدة الأولى وصديقة عليا أي العائدة الثانية وتعرف بشأن ريهام العائدة الثالثة. فتتشابك قصص العائدات الواقعة في القرية نفسها والتي تبدأ في اليوم التالي لوفاة الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش (9 آب/ أوغسطس 2008) وتمتدّ إلى 15 كانون الأوّل/ ديسمبر 2008. ويصل القارئ إلى الفصل الأخير مترقّباً النهاية التي يمكن أن تختارها النمس لرواية بهذه الغرائبيّة والقوّة الخياليّة. وسارة النمس لا تخيّب قارئها على الرغم من أنّ النهاية ليست تماماً ما كان ليتوقّعه.

رواية "على فراش الحياة" رواية شيّقة، ذكيّة، متقنة، مسبوكة الأسلوب ومتماسكة الأفكار. تميل سارة النمس بنصّها إلى الفنّيّة السرديّة على ما يحمله الموضوع من آفاق فلسفيّة محتملة وممكنة التوظيف، فتحرص على ألاّ تغرق في أيّ موضع من المواضع في شرح فلسفيّ أو في نظريّات دينيّة روحيّة. ولا تحاول في أيّ مكان أن تفسّر ظاهرة هذه العودات أو أن تفسّر الموت، بل نراها تعامل العودة إلى الحياة على أنّها حدث روائيّ فنّي على ما فيه من إرباك للمنطق البشريّ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة