Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القرون الوسطى مصدر رؤى الرسام غوستاف مورو

مئة عمل فني تكشف في معرض باريسي جماليات المصادر التاريخية والجغرافية

من أجواء الرسام غوستاف مورو الأسطورية (خدمة المعرض)

ملخص

مئة عمل فني تكشف في معرض باريسي جماليات المصادر التاريخية والجغرافية

نعرف الفرنسي غوستاف مورو (1826 ــ 1898) رساماً ترك خلفه روائع فنية تفتن المتأمل فيها بمجرّد وقوع نظره عليها، سواء بموضوعاتها الأسطورية والدينية ودلالاتها الرمزية العديدة، أو بعبقة ألوانها النيّرة والمكثّفة التي تضفي على معالجة هذه الموضوعات نفحة صوفية فريدة، أو بعربسات خطوطها التي تنمّ عن حس تفصيلي مدهش وميل إلى الزخرفة يعززان وقعها وجانبها الملغَّز. أعمال مثل "سالومي"، "أوديبوس وأبو الهول" أو "التجلي"، جعلت من صاحبها أحد أكبر وجوه التيار الرمزي، وما زال باب التأويل مفتوحاً عليها، على رغم مرور أكثر من قرن ونصف على رسمها، والدراسات الغزيرة التي تناولتها.

وفعلاً، لم ينته بعد مؤرّخو فن القرن التاسع عشر والمتخصصون في جمالياته التشكيلية من كشف مكامن ثراء لوحات مورو ومراجعها المدوخة، بخلاف أعمال معاصريه الرمزيين. والدليل؟ المعرض المُقام حالياً في "متحف غوستاف مورو" في باريس، والذي يتوقف، للمرة الأولى، عند ما استقاه هذا الرسام باكراً من مصادر القرون الوسطى، مستكشفاً دورها المهم والمجهول في إثارة خياله وحساسيته، ومدّه بالرؤى الحلمية الباهرة.

وفي هذا السياق، يكشف القائمون على هذا المتحف عن نحو مئة عمل فني تتراوح بين لوحات زيتية ومائيات ورسوم ومحفورات، ويتجلى فيها بوضوح الأثر الكبير لهذه المرحلة التاريخية على عمل مورو، كما تتجلى عموماً آثار فضوله الكبير الذي حثّه على التنقل بين إيطاليا وبلجيكا وهولندا، وعلى الغرف أثناء هذه الأسفار من مصادر تاريخية وجغرافية مختلفة. هكذا، بعد محاكاته الرسامين الرومنطيقيين على مستوى الأسلوب، في بداياته، تمكن من ابتكار شكل فني فريد يقع عند تقاطع حقب ومصادر وحي مختلفة. فنّ تآلفي يمزج بروعة القرون الوسطى وعصر النهضة، الشرق والغرب.

متاحف العصور

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بالعصور الوسطى شهد بعد الثورة الفرنسية حيوية جديدة في "بلد الأنوار" بفضل العديد من المؤسسات التي كانت تدعمها الدولة أو جمعيات علمية. وفي هذا السياق، أُسِّست متاحف طوال القرن التاسع عشر ساهمت في إعادة اكتشاف فنون تلك المرحلة التاريخية، الغنية تشكيلياً. متاحف شكّلت مع المكتبات العامة الباريسية أماكن سمحت لمورو في تطوير خياله وتوسيع نطاقه. ومن أبرز المتاحف التي تردد بانتظام عليها، "اللوفر" و"متحف دي تيرم" و"أوتيل كلوني"، إضافة إلى قسم الرسوم الطباعية في "المكتبة الإمبراطورية". وبموازاة ذلك، شكّلت محتويات مكتبته الخاصة أدوات عمل أساسية، كالموسوعات والمجلات المصوّرة التي درس فيها قواعد الزخرفة، أو الوثائق الفوتوغرافية والمطبوعة التي مدّته بموارد صورية غزيرة.

ولأنه كان مقتنعاً بأن "مشاركة الحركة الرومنطيقية في إعادة اكتشاف القرون الوسطى، جعلت هذه الأخيرة تطبع بروحيتها الرسامين الرومنطيقيين، وكل الفن الحديث عموماً"، افتُتن مورو منذ الخمسينيات بدولاكروا وآنغر وتيودور شاسيريو. وفي سياق هذا الافتتان، زيّن بالرسومات قصة باولو وفرانشيسكا المأساوية والمستوحاة من تحفة دانتي، "الكوميديا الإلهية"، واهتم بقصيدة أريوستو الملحمية، "أورلاندو فوريوزو"، خصوصاً بشخصيتي روجيه وأنجيليك الشرقيتين فيها اللتين رسمهما ضمن مشروع تزيين مروحة يد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى شكسبير الذي ألهمه بشخصيات مسرحياته التي تقع أحداثها خلال القرون الوسطى، مثل هاملت والملك لير وليدي ماكبث، أو بالنسبة إلى ميثة فاوست القديمة التي أغوته إعادة غوته إحيائها، فاقتنى عدة رسوم طباعية لدولاكروا حول موضوعها.

وباكراً جداً، تمكّن مورو من فرض نفسه كرسّام أحداث تاريخية. ومنذ مطلع الستينيات، استشفّ الشاعر وناقد الفن تيوفيل غوتييه مناخاً من "العصور الوسطى" في لوحة "أوديبوس وأبو الهول"، التي كتب حولها: "يلفت هذا المزيج من الصلابة والرهافة القوطيتين، في موضوع إغريقي، الانتباه بطابعه المفاجئ والمثير. (...) ثمة علمٌ كبير مخفي تحت هذه الهيلينية القوطية". بعد ذلك، شبّه غوتييه شخصية ميديا الأسطورية في لوحة "ميديا وجايسون"، والفتاة الثيراسية في لوحة "أورفيوس"، بـ "أرستقراطيتين من القرون الوسطى". وفي اللوحة الأخيرة، توقف ملياً عند الزخارف على ثوب الفتاة، ملاحظاً أن النماذج الزهرية والأحجار الكريمة والدبابيس التزيينية تستحضر فنون الحلي والمنمنمات والنسيج خلال القرون الوسطى. ملاحظة أكّد مورو صوابها لدى شرحه هذا العمل في أحد دفاتره: "الفستان الزهري مستوحى من فساتين القرن الرابع عشر والمنمنمات الهندية والصينية واليابانية".

وفي الأعمال التي أنجزها بعد حرب 1870، يظهر محاربون من القرون الوسطى، كالفارس الصليبي في طريقه إلى القدس، أو المقاتلة جان دارك التي خصّها بعدة رسوم ضمن مشروع منحوتة، إضافة إلى موضوعات وشخصيات نموذجية تعود إلى الحقبة نفسها، كالحب العذري والمبشّرين وصائدي الصقور. نشاهد أيضاً ريبرتواراً صورياً كاملاً من وجوه قديسين وقديسات، تردّنا معالجتها التشكيلية في كثير من الحالات إلى فن القرون الوسطى، وتستحضر بألوانها، وتأطيرها، وقيمة تفاصيلها المخطوطات المزوّقة.

في المقابل، لا تحضر في لوحات الفنان الهندسة الدينية لتلك المرحلة، إلا في حالات نادرة. فبخلاف الرسامين الـ "تروبادور" الذين أسقطوا مشاهدهم وتمثّلاتهم داخل تصميمات داخلية قوطية، لم يكترث مورو للحقيقة التاريخية في عمله، باستثناء سلسلة "ملائكة رحّالة" التي تحضر شخصياتها داخل كاتدرائيات. ولعل ذلك يعود إلى الغموض الذي اكتنف علاقته بالدين ودفع الكاتب جان لوران إلى صفه بـ "الوثني المتصوِّف"، علماً أنه كان يشارك شاتوبريان وجوزيف دو ميستر ولوي فييو، كتّابه المفضّلين، قيمهم المسيحية المرسّخة في عصر القرون الوسطى، ووضع فنه في خدمة هذه القيم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الواقع، اعتمد مورو باكراً في عمله مقاربة توفيقية قادته إلى إشراك عناصر تشكيلية من عصور وثقافات وأديان مختلفة. وفي هذا السياق، غالباً ما كان عصر القرون الوسطى يتشكّل جنباً إلى جنب مع العصور القديمة وعصر النهضة. توليف صوري وأسلوبي لاحظه نقّاد الفن منذ الستينيات واعتبروه ميزة خاصة بفنه. وخلال العقدين الأخيرين من مسيرته الإبداعية، ثابر الفنان على اعتماد هذه "الانتقائية الزخرفية" وطوّرها لدى استكماله العديد من اللوحات التي كان قد رسمها في وقت سابق.

هكذا، تحوّلت العناصر الزخرفية، إثر انحرافه بها عن وظيفتها الأولية، إلى أجزاء من قلانس أو ملابس أو إكسسوارات مختلفة، وتنقّلت معه من لوحة إلى أخرى، من دون أي احترام لحقيقة مصدرها التاريخي أو الجغرافي، مجسِّدةً في تشابكها عالماً يقع خارج الزمن. ويظهر ذلك جلياً في لوحة "التجلي" التي استعادها مورو وأضاف عليها عناصر من الفن الروماني (roman)، وفي لوحة "سالومي" التي عمد، قبل عام على وفاته، إلى إثراء ديكورها الداخلي بعناصر استقاها من ألبوم "متحف النحت المقارن".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة