Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حفيد ماركيز ماتيو إليثوندو يختبر الكتابة على تخوم الموت

  رواية "الموعد الاخير مع السيدة" رحلة الى جحيم الحياة المصطنعة  

عالم على تخوم الموت المتخيل (من الكتاب)

ملخص

رواية "الموعد الاخير مع السيدة" رحلة الى جحيم الحياة المصطنعة

صحيح أن النشأة في كنف كاتب عظيم يمكن أن تخلق ميلاً إلى الكتابة، لكن غالباً ما يشكّل هذا النسب عبئاً يسحق الميل المذكور ويدفع مَن يرزح تحته إلى اختيار درب آخر له. حقيقة لا تنطبق لحسن الحظ على الشاب ماتيو غارسيا إليثوندو الذي عانق الكتابة وتمكن من وضع رواية أولى باهرة، "الموعد الأخير مع السيدّة" (2020)، على رغم نشأته، ليس في ظل كاتب عظيم واحد، بل اثنين! فجدّه لأبيه هو العملاق غابريال غارسيا ماركيز، وجده لأمه هو الكاتب الطليعي الكبير سلفادور إليثوندو.

إنجاز الشاب إليزوندو في هذه الرواية، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "موريس نادو"، لا يقتصر على تمكّنه من تجاوز عبء نسبه، ومضارعة جدّيه في حلبة الكتابة، بل يكمن أيضاً في الموضوع الذي اختاره لها: المخدرات وجحيمها. موضوع سبق وعالجه كتّاب كبار، وإن من زوايا مختلفة، مثل بودلير في "الفراديس المصطنعة"، توماس دو كوينسي في "اعترافات مدمن أفيون"، ألدوس هاكسلي في "أبواب الإدراك"، مالكوم لوري في "تحت البركان"، ويليام بوروز في "مدمن"... وبالتالي، من الصعب جداً إضافة جديد على ما فات هؤلاء الكتّاب. ومع ذلك، لا نبالغ إن قلنا إن "الموعد الأخير مع السيّدة" تشكّل شهادة صاعقة وفريدة في هذا الموضوع، بموازاة قيمتها الأدبية الأكيدة.

بطل هذه الرواية شاب مدمن يأتي للاستقرار في قرية مكسيكية نائية تقع على طرف غابة وتدعى زابوتال، حاملاً معه كمية كبيرة من الأفيون والهيروين، بغية وضع حد لحياته، ودفتراً لسرد لحظاته الأخيرة في هذه الدنيا. شاب تتسلط عليه رؤى وذكريات، ونراه خلال الرواية يتأرجح بين الحياة والموت، في المتاهة السحرية لحالة خدره، مستسلماً لتجوال عشوائي داخل القرية، قبل أن يكتشف حانة تتقاطر إليها النفوس الضائعة، ويعلّمه السكارى والعاهرات فيها تدخين العقارب لتجاوز إدمانه. لكن مع تضاعف ثقوب ذاكرته وتضاؤل مخزونه من المخدرات، يقوى شعوره بالنقص، ويقترب من تخوم الموت، هذا إن لم يكن قد عبر إلى الجهة الأخرى في لحظة ما، من دون أن يدري.

المحطة الأخيرة

زابوتال هي المحطة الأخيرة على أحد خطوط الحافلات، ومكان تتوقّف الحضارة على حدوده: "هنا ينتهي عالم البشر، ويبدأ عالم الأدغال". قرية قوامها بضعة شوارع مهجورة، منازل بائسة ومعدودة، مزرعتان التهمتهما الغابة وتحوّلتا إلى أطلال، إضافة إلى حانة السكارى والعاهرات. مكان مثالي لقضاء هذا الشاب أيامه الأخيرة، ومرآة لحالته الذهنية، هو الذي فقد كل شيء: عائلته، كلبه الوفي، أصدقاءه الذين رحلوا، الواحد تلو الآخر، إثر جرعة هيروين زائدة، ورفيقة دربه الغالية، فاليري، التي لاقت المصير نفسه، بقربه، ولم يستطع إنقاذها لأنه كان في نشوة خدره. ولذلك، يرغب في اللحاق بها، ساعياً قبل ذلك إلى "موعد أخير مع السيّدة". لكن من هي هذه "السيدة" التي تمنح الرواية عنوانها؟ الحقنة الأخيرة التي تجلب السلام لمتلقّيها؟ أم الموت الذي يصفه أحد سكان القرية بـ "السيدة الكبرى، الأكثر خبرة وترحيباً وصبراً بين العاهرات"؟

سردية آسِرة، بصيغة الحاضر، لمدمن يسير على الطريق الوعر الذي يؤدي حتماً إلى الهلاك. تستحضر رواية إليثوندو في ذلك روايتي لوري وبوروز اللتين سبق ذكرهما. فمثل بطل كل منهما، عاش الراوي طوال حياته من أجل تعاطي المخدرات، استنشاقاً أو حقناً. ولذلك، تراه يمتلك أفضل من أي شخص آخر الكلمات الدقيقة والصائبة لوصف مختلف حالات النشوة التي يُغرقه فيها الأفيون، الذي "ذو طعم المعجّنات التي خرجت تواً من الفرن"، أو الهيروين الذي "يمنحنا الانطباع بأننا في علاقة حب مع المرأة الأكثر حسّية على هذه الأرض".

ولأن لذّته الوحيدة باتت تقتصر على لدغات المخدّر، تتملك هذا الشاب أمنية "الموت مرة واحدة وإلى الأبد"، وأيضاً "حاجة الكتابة عمّا نشعر لدى موتنا"، لأن كل مَن اختبر هذا الشعور "لم يعد هنا لسرده". وفي انتظار موعده الأخير مع السيّدة التي ستحرّره أخيراً من حياة لم يعد يرغب فيها، نراه يتسكّع، حيّاً ــ ميّتاً، في أرجاء تلك القرية، ملتقياً تارةً بأشخاص غريبي الأطوار، وطوراً بحبيبته وأصدقائه المتوفّين، من دون أن ننسى أولئك الأموات الغرباء الذين يراهم وحده، في خدر تعاطيه، ويطلب كل واحد منهم خدمة منه. لقاءات بين أحلام وهلوسات وواقع، يطفو هذا الشاب خلالها في برزخٍ ضبابي، ويصبح مدمناً على ذلك العالم الوسيط الذي لا يلبث أن يقوده إلى سلام الضفة الأخرى.

الإختبار والزوال

قيمة هذه الرواية تكمن أولاً في قدرة لغتها، الغنية بصورها ومفرداتها وجمالياتها، على حملنا وصعقنا بوصفها المفصّل لطبيعة المخدرات التي يتناولها بطلها، وبتصويرها الفجّ لحظات تعاطيه وطُرُقه ، ومفاعيل هذه المخدرات على نفسه وجسده، والألم الرهيب الذي يختبره لدى زوالها. وفي ذلك، تستحضر أيضاً إلى ذهننا رواية بوروز الأخرى، "الوليمة العارية"، وتعزز احتمال أن كاتبها يتكلم فيها عن سابق تجربة. وفي الوقت نفسه، تفتننا هذه الرواية بالواقعية السحرية فيها التي ترافق ذلك الهبوط إلى الجحيم، ثم تتبدد لدى بلوغه، وبالتالي بتلك الكتابة المغناطيسية التي تنقل على أفضل وجه هذه التجربة، وتكاد تشكّل بطابعها المخملي، المخدِّر، دعوة لتعاطي الأفيون أو الهيروين، لولا تلك النبرة المؤلمة فيها، وإيصالها إيانا، في نهاية المطاف، إلى واقع قاتم، مجرّد من جميع الأوهام والتخيلات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

باختصار، رواية غريبة، مبلبِلة وهلسية، تختلط فيها حتى النهاية الأحلام والكوابيس والذكريات الحقيقية أو المخترَعة، والرؤى الناجمة عن تعاطي المخدرات، مخلّفةً لدى قارئها انطباعاً قوياً بأنه مقتاد أثناء قراءتها إلى مكان يجهل كلياً وجهته، جغرافيته وطبيعته. ولذلك، أصاب أحد النقاد في وصفها بـ "فخّ سردي شيطاني يعلق القارئ فيه بمتعة ثمينة"، فكلما تقدّمنا في قراءها، صار ديكورها أكثر استيهاماً، وتحوّلت الكائنات المصادَفة أثناء تجوالنا مع راويها وبطلها، إلى أشباح أو أموات ــ أحياء، الأمر الذي لا يلبث أن يثير داخلنا مجموعة أسئلة مشروعة: هل الراوي على قيد الحياة؟ وفي حال كان حياً في البداية، هل يبقى كذلك حتى الصفحة الأخيرة؟ إن كان الجواب "لا"، في أي لحظة من السردية يفارق الحياة؟ وكيف لا يزال قادراً على الكلام والتجوال والكتابة والسرد؟ ثم ماذا لو أن تلك الإقامة في قرية زابوتال مجرّد واحدة من الرحلات الحلمية الناتجة من حقنة مخدرة؟

الفقرة التالية من الرواية يمكن أن تشكّل إجابة على هذه الأسئلة، ومثالاً على موهبة إليثوندو النادرة في خلق الالتباس وتغذيته: "هذه القرية، زابوتال، ليست سوى انعكاس للعزلة والخراب اللذين يسكنانني. لذلك وصلتُ إليها. لعلّي لم أغادر المدينة قطّ، ربما أنني توفيتُ في سريري هناك، وكل هذا التجوال في القرية المهجورة هو في الواقع رحلة في الـ "باردو"، سفر في الدائرة الـ 24 للجحيم. كيف لي أن أعرف؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة