Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسفة عندما تصبح متاحة للجميع عبر لذة القراءة

الفرنسي أندريه كونت سبونفيل يجمع 600 اقتباس من فلاسفة العالم

عمل فني لنانديفا متامبو (صفحة الفنان - فيسبوك)

يعد أندريه كونت-سبونفيل المولود في باريس سنة 1952 واحداً من جيل الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين الذين حاولوا جعل الفلسفة متاحة لعدد كبير من الناس، محققاً أمنية ديدرو الذي دعا منذ ما يقارب القرون الثلاثة إلى وضع الفكر الفلسفي في متناول الجميع، وقول لودفيغ فيتغنشتاين المشدد على أن الفلسفة ليست مذهباً أو تياراً أو عقيدة بقدر ما هي نشاط فكري بحت. طبع سبونفيل بعفويته وحيويته الساحة الفلسفية الفرنسية، بعد أن سلك مسلكاً مغايراً لمسلك سارتر أو ميرلوبونتي أو فوكو أو دريدا أو دولوز، مذ نشر كتابه "مقالة صغيرة في الفضائل الكبيرة" (1995) الذي بيع كثيراً، وترجم إلى أكثر من 24 لغة.

من أحدث إصدارات كونت-سبونفيل كتابه المسمى "لذة التفكير" (منشورات فويبير). شجع فيه كل من أراد ممارسة النشاط الفلسفي، أي فهم الأفكار والتفكير بنفسه، أن ينطلق أولاً من أفكار الآخرين، لا سيما أفكار كبار الفلاسفة. ذاك أن "طريق الاستقلال الفلسفي" مغامرة تتطلب جهداً وقراءة وتملك أدوات التساؤل والمفاهيم وطرائق التحليل ودقة المنطق والتأمل ومهارات أخرى مختلفة، لن يستطيع أحد أن يصل إليها بمفرده ما لم يستند في البداية إلى قراءة نصوص وأفكار الآخرين، وقد فاضت بها قرائح مبدعين منذ ما يزيد على الـ20 قرناً، مما جعل من الفلسفة معيناً لا ينضب.

لذا جمع كونت-سبونفيل في كتابه هذا نحو 600 اقتباس واستشهاد، اختارها بدقة من كتابات عظماء الفلاسفة منذ ولادة الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد حتى اليوم، موزعاً إياها على 12 موضوعاً رئيساً هي: الأخلاق والسياسة والحب والموت والمعرفة والحرية والله والإلحاد والفن والزمان والإنسان والحكمة. شكلت هذه الاقتباسات والاستشهادات، بمعنى ما، مقدمة عامة أو لنقل مدخلاً جميلاً إلى الفلسفة سيثير بالتأكيد اهتمام كل من أراد "التفكير بشكل أفضل، لكي يعيش بصورة أفضل".

الفلسفة بلا عمر

ويقول كونت-سبونفيل إن تعلم التفكير الفلسفي لا عمر له، مؤكداً أن الإنسان يستطيع أن يفكر دون أن يكون فيلسوفاً، كما في العلوم، كما يمكن له أن يعيش دون أن يفكر، فيسترشد بعاطفته أو يكتفي بأنه لا يدري أنه لا يدري، لكن الإنسان لا يمكن له أن يفكر في حياته وأن يعيش بحسب أفكاره على أفضل وجه بعيداً من الفلسفة. فما الفلسفة؟ وما طرائق التفكير الفلسفي؟

يجيب أندريه كونت-سبونفيل على هذا السؤال بقوله إن "الفلسفة ليست علماً، ولا حتى معرفة، بل هي تأمل في المعارف المتاحة"، أسئلة أكثر منها أجوبة، ومسار "أكثر منها نقطة وصول".

ليست الفلسفة إذاً مجموعة من المعارف التي يمكن تعلمها، بل هي طريقة في استخراج الأسئلة من الموضوعات، لذا لا يمكن، وفق ما قال إيمانويل كانط (1724-1804)، تعلم الفلسفة، لكن الإنسان يستطيع تعلم كيفية التفلسف، أي كيفية طرح الأسئلة والتفكير بنفسه، من خلال مساءلة أفكاره الخاصة وأفكار الآخرين، ومن خلال مساءلة العالم والمجتمع، وإعادة النظر في كل ما حصله من تجارب واختبارات حياتية، والبحث عما يجهله أو خفي عنه. من هذه الزاوية تصبح كتابات كبار الفلاسفة سراجاً ينير سبيل التفكير بشكل أفضل. ولعل كل واحد منا إن تمكن من قراءة نصوص هؤلاء الفلاسفة، سيحقق بحسب كونت-سبونفيل هدف التفكير بنفسه بشكل أسرع وأعمق. فليست هذه النصوص وكتابها، على ما يقول الفيلسوف الفرنسي في استعادة لفكرة كانطية، إلا مجرد فرصة لممارسة فكرية حرة، ولمراجعة الأفكار بأنفسنا، وسبر أغوارها في عملية تفكيك دائمة، إذ ليس من أحد يستطيع أن يفكر بدلاً منا. ولئن كان للفلسفة متخصصوها ومحترفوها ومعلموها، فأنها ليست تخصصاً أو مهنة، بقدر ما هي، في المقام الأول، بعد أساس من أبعاد الوجود الإنساني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول كونت-سبونفيل، على سبيل المثال لا الحصر، إن "البيولوجيا لن تخبر عالم الأحياء أبداً عن كيفية العيش، أو عن ضرورته، أو عما إذا كان عليه أن يكون عالم أحياء". ولن تخبر العلوم الإنسانية الفرد كذلك عن قيمة الإنسانية. لذا كانت الفلسفة ضرورية، لأن الإنسان مدعو بطبعه للتأمل، مدفوع إلى النظر في معارفه وفي أنماط عيشه ورغباته. فليس من معرفة كافية تقيه "شر السؤال". لا الفن ولا الدين ولا السياسة ولا الأخلاق ولا حتى العلوم المختلفة، على أهميتها، قادرة على الإجابة عن كل التساؤلات الإنسانية. ولعلها هي نفسها في حاجة إلى أن تكون موضع تساؤل. هكذا يبدأ، بحسب كونت-سبونفيل، السير على دروب الفلسفة وتفكيرها المنطقي المستقل، غير الخاضع لإجماع الآخرين على أفكار معينة.

العيش فلسفياً

وإذا كانت الفلسفة تتحدد بوصفها العيش بحسب العقل، وهو القدرة الذهنية على الربط والتوحيد والتفسير والتأسيس، ولا تقبل معياراً آخراً سواه، ولو وضعت ما جاء به هذا العقل دوماً على بساط البحث، فهي من ثم عبارة عن استنطاق جذري لكل شيء، وسعي دائم نحو الحقيقة القصوى. والفلسفة بخلاف العلوم، لا تسعى وراء حقائق فردية، بل تتطلع من خلال إنشاء واستخدام المفاهيم، ونظر العقل في ذاته والتأمل في تاريخه الخاص وتاريخ الإنسانية، وفي بعض الأحيان، في تاريخ الأنظمة والنظريات، إلى نقد الأوهام والأحكام المسبقة والأيديولوجيات، وفق اتساق فكري ومنطقي صارم، غرضه بناء عمارة فكرية متماسكة ومترابطة، خالية من التناقضات. فكل فلسفة هي معركة بمعنى ما، سلاحها العقل وأعداؤها الغباء والتعصب والظلمة الفكرية. أما حلفاؤها، فهم بالتأكيد العلوم والمعارف والإنسان نفسه.

لا تبقي الفلسفة إذاً ميداناً من الميادين خارج إطار بحثها. فكل المسائل من وجهة نظر كونت-سبونفيل قابلة للتحول إلى موضوع فلسفي، مؤكداً بذلك قول موريس ميرلوبونتي (1908-1961) إن "مركز الفلسفة في كل مكان ودائرتها اللامكان".

هكذا يراجع كتاب أندريه كونت-سبونفيل على طريقته الأسئلة الأربعة التي لخص بها الفيلسوف الألماني كانط ميدان التفكير الفلسفي حين أراد أن يكشف عن مهامه وضرورته، وهي على التوالي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ ماذا يجوز لي أن آمل؟ ما الإنسان؟ غير أن كونت-سبونفيل أضاف إلى هذه الأسئلة في هذا الكتاب سؤالاً خامساً: كيف يجب عليَّ أن أعيش؟ ولعل محاولة الإجابة بذكاء عن هذا السؤال تشكل بظنه الخطوة الأولى في ممارسة الفعل الفلسفي. وبما أنه من الصعب جداً على الإنسان تجنب طرح هذا السؤال، يستنتج الفيلسوف الفرنسي أن الإنسان لا يمكنه الهرب من الفلسفة، فهي له دوماً بالمرصاد، مما يعني أن لذة الفلسفة تكمن في السؤال الدائم عن العالم والإنسان والعدالة والسعادة والموت والله والمعرفة والجهل. "فليس الإنسان سوى كائن يفكر".

من هذه الزاوية كان التفكير الفلسفي عند كونت-سبونفيل ضرورة، حتى يستطيع كل واحد منا عيش حياة أكثر إنسانية ووضوحاً وسكينة وعقلانية، حياة أكثر سعادة وكثافة وحرية. وهذا بالضبط تحديد الحكمة في التراث الفلسفي. فهل يمكن للإنسان بلوغ الحكمة وتحقيق السعادة؟ يجيب أندريه كونت-سبونفيل عن هذا السؤال بقوله إن الوصول إلى الحكمة التامة والسعادة الكاملة أمر غير متاح لنا، لكن ذلك لن يمنعنا من السعي نحو الحكمة والعمل الدؤوب على الاقتراب منها. ولعل الفلسفة، كما كتب كانط، هي بالتحديد هذا الجهد غير المكتمل الذي يبذله الإنسان في سبيل تطلعه نحو الحكمة والسعادة.

في إطار هذا المسعى يتساءل أندريه كونت-سبونفيل في "لذة التفكير" عن الفلسفة الواجب درسها، بسبب من وجود عديد من المقاربات والمدارس والتيارات الفلسفية. فكان جوابه أن كل التيارات الفلسفية على تباينها مهمة، بقدر ما تحثنا على التفكير والعمل على الوصول إلى الحكمة والسعادة، ذلك أن وظيفة الفلسفة لم تعد بحسبه بناء المفاهيم والأنساق الفكرية ونقلها من جيل إلى جيل، بقدر ما أصبحت نمط عيش. هكذا يتلاقى جواب الفيلسوف الفرنسي مع ما أراده للفلسفة المفكرون الأولون أمثال أبيقور وديوجينس وسنيكا أو الفلاسفة الكلاسيكيون أمثال ميشيل دو مونتاني وبليز باسكال وباروخ سبينوزا وغيرهم من الذين اهتموا بالوجود بدلاً من الاهتمام بالمشكلات الإبستيمولوجية الصرفة. فليست الفلسفة بالنسبة إليهم سوى طريق، وليس أساتذتها ومعلموها سوى بطاقات دخول أو ومضات تضيء سواء السبيل. من هنا كانت قراءة فلسفات الآخرين بالنسبة إلى كونت-سبونفيل نقطة الانطلاق في كل مشروع فكري جدي يريد الوصول إلى لذة التفكير الذاتي، ذلك أن قراءة كتابات كبار الفلاسفة تعني في الوقت عينه الاستناد إلى أفكارهم ومجابهتها، في محاولة للوصول إلى رؤيتنا الخاصة، ولو شكلت هذه الأفكار، بمعنى ما، عقبة أمام بناء فكرنا، لعمقها وعظمتها.

هذا هو برأي كونت-سبونفيل التحدي الحقيقي الذي يواجه الفكر الفلسفي المعاصر، ولعله هو الذي يدفعنا إلى التفكير بذاتنا بغية إيجاد فهمنا الخاص للحياة وللعالم ولإعطائهما معنى يصعب على الإنسان العيش من دونه. أشير في الختام إلى أن كتاب "لذة التفكير" كتاب ملهم وجميل وغني بموضوعاته. هو عبارة عن تمرين في الفلسفة للجميع، ينطلق من استشهادات قيمة اختارها، وعلق عليها واحد من أشهر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب