Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف نكتب تاريخ الأفكار التي شكّلت العالم؟ 

البريطاني فيليب ارميستو يرصد سعي الانسان لاكتشاف الذات والعالم واليوتوبيا المفقودة

لوحة للرسام فيليكس فاللوتون (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

 البريطاني فيليب ارميستو يرصد سعي الانسان لاكتشاف الذات والعالم واليوتوبيا المفقودة

لعل الخلاصة المركّبة التي ينتهي إليها قارئ كتاب "الأفكار التي شكّلت العالم" للمؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرميستو، الصادر عن دار الفرقد، بتعريب علي عيسى داود، هي أن العالم منتَج فكري، وأن الأفكار هي التي تشكّله، وأن توليد الأفكار خصيصة إنسانية بامتياز. ذلك "أن التاريخ يحدث أوّلاً في العقل، وأن الأفكار هي الدافع إلى التغيير الاجتماعي"، على حدّ تعبير المؤلف (ص 11).

هذه الخلاصة يصل إليها القارئ باقتفاء أثر الكاتب في رحلته الورقية، منذ فجر التاريخ حتى أواخر القرن العشرين، وهي رحلة محفوفة بالكثير من الأفكار، القديمة والجديدة، وهي موضع درس وتساؤل وتشكيك. فقد يتفق مع الكاتب كلّياًّ أو جزئياًّ وقد لا يفعل، غير أنه بالتأكيد يخرج من القراءة وفي رأسه الكثير من علامات الاستفهام، وهذا ما يمنح الكتاب أهميّته. على أن الأفكار المطروحة فيه تخوض في حقول الدين والعلم والزراعة والفن والسياسة وسواها من الحقول المعرفية. وهي تدخل في صلب اهتمام تاريخ الأفكار الذي يُعنى بدراسة تاريخ الإنسان في سعيه لاكتشاف الذات والعالم والحصول على مفاتيح "اليوتوبيا" المفقودة.

 محورية الإنسان

في كتابه، يركّز أرميستو على محورية دور الإنسان في توليد الأفكار وتشكيل العالم، فهو، إذ يقارن بين الإنسان والحيوانات الاجتماعية الأخرى، يستنتج أن ما يميّزه عنها هو العقل، والتفكير، والتخيّل، واللغة، والتغيّر الدراماتيكي. لذلك، يسعى في دراسة هذه الميزات بالتحقيق في الفترة الأقدم في تاريخ البشرية، استناداً إلى الأنثروبولوجيا المقارنة وعلم الآثار القديمة، فيقتفي تمظهراتها في اللوحات المحفورة على الجدران ورسوم الكهوف ومظانّ أخرى. وهو بذلك يخرج عن التفكير التقليدي الذي اعتاد البدء بالدراسة من الحضارة الإغريقية القديمة، باعتبار أن الإنسان موجود قبل الحضارات بـ 150000 سنة، ويقترح البدء من نحو 40000 أو 50000 سنة. وهو ما يقوم به في دراسة كيفية تشكّل فكرة الخالق، انطلاقاً من اكتشاف رموز استخدمها الناس في العصر الجليدي تشكّل أول دليل على الدين، معتبراً أن "الأرواحية" هي النوع الأقدم للدين في العالم، وقد لجأ إليها الإنسان القديم تعويضاً عن قصور الحواس في إدراك العالم، فهذا الأخير ليس مجرّد مادة بل هو مسكون بقوى حية تتحكم بعناصر الطبيعة وحركاتها، ولعل هذا الإيمان بالأرواح، منذ القدم، هو الذي قاد، في سلسلة من الأفكار المتعاقبة، على مرّ الزمان، إلى نشوء فكرة الخالق.

على أن فكرة الدين في تعبيراته المختلفة تشغل بضعة فصول في الكتاب؛ فيتناولها في الألفية الأولى قبل الميلاد، بدءاً من فكرة وهم الحواس وقيود المادة التي تقول بها الأوبنشادا السنسكريتية في القرن السابع قبل الميلاد، مروراً بالزرادشتية التي تقول بثنائية الكون، واليانية التي تقول بتحرير الروح من الشر، والبوذية التي تسعى إلى تحقيق السعادة، واللاوية القائلة بقوة العقل وضرورة الطقوس، وانتهاءً باليهودية التي تؤمن بإله واحد يخلق الأشياء من العدم. وفي هذا السياق، يعرض الكاتب نظريات الخلق المختلفة من: العدم، الانفجار الكبير، الفوضى، الذات، والفكر. ولكل من هذه النظريات أتباعها. على أن أكثر من ثلث سكان العالم، حسب رأيه، يؤمنون بنظرية إله واحد يخلق الكون من العدم، وهو ما ذهبت إليه اليهودية، وأخذت به المسيحية والإسلام. ولا يقتصر الخلاف بين الناس على فكرة الخلق بل يتناول أيضاً فكرة الإله بحد ذاتها، بين قائل بتعدّد الآلهة، وقائل بالثنائية، ومؤمن بالإله الواحد. وهو ما تقول به الأديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن المؤرخ يرصد حركة الأفكار الدينية، خلال الـ 1500 سنة، بعد ما يسمّيه عصر الحكماء وحياة السيد المسيح، فيشير إلى: صعود المسيحية والإسلام وتأثرهما بالعقيدة اليهودية، توسّع المسيحية بفعل مرونتها، انحسار البوذية بفعل الكونفوشيوسية في الصين والهندوسية في الهند، نشوء التصوّف المسيحي في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلاديين، ازدهار التصوّف الإسلامي بين القرنين الثامن والثاني عشر الميلاديين. وخلال هذه المدة، لا سيّما في العصور الوسطى منها، برزت محاولات كثيرة للتوفيق بين الدين والعقل، الدين والعلم، الدين والحياة، الدين والثورة، وغيرها.

  الثورة العلمية

الفكرة الثانية التي تشغل حيّزاً ملحوظاً في الكتاب فكرة أرضية وليست سماوية، تتعلّق بالنهضة والتنوير والثورة العلمية، وما تمخّضت عنه من أفكار أسهمت في تشكيل العالم، على هذا النحو أو ذاك. فيشير الكاتب، في هذا السياق، إلى تعدّد اتجاهات الاختراع العالمي، وارتباط النهضة بالثورة العلمية، وتحدّر الأخيرة من أصول هرمسية سحرية، وتوخّي الاستكشاف والتجربة والفلسفة أدوات لتحقيق الإنجازات العلمية. ويلاحظ، بنتيجة الدرس، تجاذب الصين وأوروبا اتجاهات الاختراع العالمي، تشكّل العلوم الإنسانية في العصور الوسطى في أوروبا، تمهيد الهرمسية السحرية للثورة العلمية، تعدّد أدوات المعرفة العلمية، ونشوء أفكار سياسية جديدة مؤثرة في مجرى التاريخ العالمي، من قبيل غائيّة الدولة، وعالمية البشرية، والأممية، ممّا يمكن أن ندرجه تحت عنوان التنوير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن هذا العنوان سيتمظهر في أفكار أخرى في القرن الثامن عشر، من قبيل التقدم، الحرية الاقتصادية والسياسية، وضمان الحقوق بالدساتير، حتى إذا ما أزف القرن التاسع عشر، وتمخّض التنوير عن فشل مطبق في تحقيق النهضة، لا سيّما بعد زلزال لشبونة في خمسينيات القرن الثامن عشر الذي شكل نقطة تحوّل في تاريخ الأفكار الأوروبية، وبعد النتائج العنيفة التي ترتّبت على اندلاع الثورة الفرنسية، بحيث اهتزّت الثقة بالتقدّم، أخذت تطفو على السطح أفكار جديدة / قديمة، مثل الإحياء الديني، والحكمة الشعبية، والاكتشافات الإثنوغرافية، والرومانسية، والمثالية، والقومية، والاشتراكية، والنفعية. ولكلٍّ من هذه الأفكار أوصابها وأعطابها. وليس لأيٍّ منها أن تدّعي امتلاك مفاتيح "اليوتوبيا" الأرضية. وكان من شأن هذه الأفكار أن تترك تأثيرات قاتلة على القرن العشرين، جعلت الكاتب يطلق عليه تسمية "قرن الأهوال"، ومنها: القومية، العسكرة، العنف المدمّر، التفوّق العرقي، قصور العلم، عبادة الدولة وغيرها، مما أدى إلى بروز أفكار جديدة خطيرة، مثل الشمولية، العنف الثوري، التفكير العلمي الجديد، وقد لعبت أفكار نيتشه ونظرية تشارلز داروِن دوراً كبيراً في التمهيد للعنصرية والعنف والإرهاب.

إلى هاتين الفكرتين المحوريتين، الدين والعلم، يتطرّق أرميستو إلى أفكار أخرى، تتعلّق بالحياة على الأرض؛ فيتناول انتقال الإنسان من الزراعة إلى الحضارة، عبر سلسلة من الحلقات المترابطة في مجرى التطوّر. تبدأ بالزراعة، وتمر بالتنظيم الاجتماعي وإنشاء المدن وتوليد الأفكار وهشاشة الحضارات البيئية، وصولاً إلى اضمحلالها أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد.

هذه الأفكار لعبت دوراً كبيراً في تشكيل العالم، عبر التاريخ، مما يجعل منه مُنتَجاً فكرياًّ، أوّلاً وقبل كلّ شيء، ويستدعي إعادة تشكيل مستمرّة له، خاصة في هذه اللحظة التاريخية الحرجة التي نشهد فيها انحراف العالم عن مساره الطبيعي، ونواجه جميعاً خطر المصير المشؤوم.  

اقرأ المزيد

المزيد من كتب