Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أين البصل؟ سؤال مصري بدموع الاقتصاد ورائحة السياسة

شهدت أسعاره قفزة غير مسبوقة في الأسواق دفعت البعض إلى الاكتفاء بشراء ثمرة أو اثنتين

قال نقيب الفلاحين المصريين إن أزمة البصل ليست محلية لكن عالمية (أ ف ب)

ملخص

يقف سعر البصل في الأسواق المصرية اليوم متحدياً الجميع

المحل الصغير حافل بكل ما لذ وطاب من صنوف الخضراوات: باذنجان يمكن أن يكون "طاجن مسقعة" أو محشي، كوسة قابلة لأن تكون صينية بالبشاميل أو مطهية بالطماطم، سبانخ يحتمل السلق أو اتباع الوصفة المعقدة على نار هادئة. الخيارات متعددة، لكن الجندي المجهول غائب. أين البصل؟ سؤال على كل لسان! البائع يتهرب مرة من الإجابة، ويتمتم بكلمات غير مفهومة مرة.

وأمام طوفان السؤال عن البصل، المكون الرئيس في كل صنف خضراوات وطبق سلاطات وأحياناً مستقلاً بذاته منفرداً برائحته النفاذة على موائد المصريين، قال بصوت جهوري وكأنه ضاق بفداحة الحدث أو مل ثقل السؤال: "عندي أخبار وحشة" (لدي أخبار سيئة). "الكيلو بـ50 جنيهاً". وجمت الوجوه، وشحطت الأنظار، وتفجرت ينابيع تحليل جنون البصل سياسياً، وتفنيد غيابه اقتصادياً، والإسهاب في توقعات ما ستؤول إليه بورصته عقب قبل وبعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية.

العالمون ببواطن الأمور

غير العالمين ببواطن الحياة في مصر يدهشون حين تذكر الانتخابات الرئاسية التي ينتظر المصريون نتائجها بعد أيام قليلة مقترنة بالبصل الذي صعد سلم الشهرة، واعتلى مكانة على سلم الخضراوات لم يكن يحلم بها حتى أشهر قليلة مضت.

وجد البصل نفسه وقد جرى تصعيده من "بصلة المحب خروف" في دلالة على أن الهدية مهما قل سعرها وانخفضت قيمتها المادية لدرجة تشبيهها بالبصل المتدني السعر تكون "خروفاً" لو جاءت من محب إلى شراء ثمرة البصل بالعدد.

 

ثقافة شراء الثمار بالعدد وليس بالكيلوغرام ليست مصرية أصيلة. ليس هذا فقط، بل إن الثقافة المصرية الأصيلة كانت تشتري بعض المنتجات بـ"الشوال" الذي يتسع لـ20 أو 30 كيلوغراماً. ولت هذه الأيام ولم تكتف بالانتقال إلى الكيلوغرامات، إذ الحد الأدنى للبصل في أي بيت مصري أصيل لا يقل عن خمسة أو ستة كيلوغرامات، لزوم كل أكلة وصحن سلاطة ومخللات ومشهيات أساسية، بما فيها طبق الفول المدمس الصباحي وحبات الفلافل على مدار ساعات اليوم، بل بات البعض يشتري ثمرة أو اثنتين "إلى أن يأذن الله أمراً" كما أعلنت سيدة بسيطة اكتفت بثلاث ثمرات. وخرجت من المحل وهي تتمتم بكلمات اختلطت فيها السياسة بالانتخابات الرئاسية والنتائج المنتظرة مع لمحة عن الوضع الاقتصادي وما ينتظر البلاد والعباد.

العباد في محل الخضراوات

العباد المتكدسون في داخل المحل انطلقوا كعادة مثل هذه الظروف الصعبة التي يجن فيها جنون صنف خضراوات، أو يلوح في الأفق شبح تعويم جديد، أو تتناثر أقاويل حول رفع أسعار سلعة استراتيجية هنا مثل الوقود أو تتعلق بالكيف والمزاج الشعبي مثل السجائر، متبادلين أطراف الحديث تارة، والخلاف تارة أخرى حول ما حل بالبصل، وما يمكن توقعه في بداية فترة رئاسية جديدة بعد أيام.

في مثل الأيام، ينقسم المصريون فريقين: فريق مهون من حدة المصاعب، داعياً إلى شد الأحزمة على البطون، والنظر إلى ما يحدق بالبلاد من أخطار أكبر، وما يدبره الأعداء من مخططات أوسع، وفريق مهول من حدة المشكلات متململاً من حديث شد الأحزمة، ومعلناً فراغ البطون، وداعياً إلى النظر بعين الاعتبار إلى مشكلات البلاد الداخلية، والتوقف عن تعليقها على شماعات خارجية، أو حجج تتعلق بالأمن والسلامة والحدود والمؤامرات.

ولأن حديث المؤامرة المنصوبة من قوى خارجية على البصل لتأليب الرأي العام المصري على قيادته، لا سيما في ظل انتظار ولاية ثالثة للرئيس عبدالفتاح السيسي من جهة، ونفي المؤامرة واتهام الحكومة والمسؤولين بالإخفاق في مواجهة المشكلات الاقتصادية والتقصير في حل الأزمات، لا سيما الغذائية يستغرق وقتاً طويلاً، فقد أخرج صاحب المحل أجولة البصل ورصها على الرصيف، لتجذب معها جموع المتناقشين والمتجادلين حول البصل والرئاسة وحقيقة الأزمة وأبعادها.

أبعاد أزمة البصل الحالية تجدد نفسها بين الحين والآخر على مدار الأشهر القليلة الماضية. وعلى رغم أن أزمات السلع وتوافرها، ومعضلات المنتجات الغذائية وجنون أسعارها، وحتى قفزات الخضراوات والفواكه غير المنطقية تتكرر لأسباب مختلفة على مدار العقود لأسباب كلاسيكية تراوح بين "جشع التجار" المعتاد، أو "إهمال الجهات الرقابية" المعروف، أو غضب الطبيعة من سيول أو أمطار، أو موجات حرارة أو برودة، فإن ما ألم بالبصل أخيراً لم يعهده المصريون من قبل.

كشري من دون "ورد"

لم يحدث من قبل أن أكل المصريون الكشري من دون "ورد"، أو استهلوا طبق الفول بأقل القليل منه، أو خرجت "الطعمية" (الفلافل) من المقلاة من دون رائحة خليط الفول مع البصل الشهية.

 

المصريون أصحاب المركز الرابع عالمياً في قائمة "أكثر الشعوب أكلاً للبصل"، والشعب الوحيد الذي قدس هذه الثمرة ذات الرائحة النفاذة في عصور ما قبل التوحيد، والمطبخ الذي لا يخلو من البصل في الأعياد وغير الأعياد، والأفراح والأتراح على مدار آلاف الأعوام وجدوا أنفسهم في مواجهة صادمة مع غياب البصل.

غياب البصل حين فاجأ المصريين للمرة الأولى في سبتمبر (أيلول) الماضي باغت الجميع بسعر الكيلوغرام منه بـ25 جنيهاً مصرياً (81 سنتاً أميركياً). اليوم ينزل رقم الـ50 على رؤوس المصريين كالصاعقة، وهو النزول الذي يربطه البعض بمطالب الجموع من الرئيس في الفترة الرئاسية الجديدة.

الفترة الرئاسية الجديدة ربما تستهل بمخاوف الأمن القومي، وحرب القطاع، ونسبة التضخم، وشح الدولار، وضعف الجنيه، وجميعها يتزاحم على قائمة التحديات الكبرى، لكن لأسباب لا يعيها سوى العالمين ببواطن حياة المصريين ومطابخهم ووصفات مأكولاتهم يجد البصل لنفسه مكانة بارزة على القائمة نفسها.

قائمة الأسباب

قائمة الأسباب وعوامل الشد والجذب فيما يختص بالبصل وما ألم به جار تداولها بكثرة حالياً. شعور ما يعتري البعض من المصريين بأن هالة من السرية تحوم حول أسباب الأزمة. البعض يقول إن كلفة زراعة البصل في مصر زادت بنسب تراوح ما بين 100 و200 في المئة، مما جعل زراعته أمراً غير مجد لجموع الفلاحين. أسعار المبيدات والأسمدة والكهرباء زادت بصورة غير مسبوقة أو متوقع، وفي حال جرى فرض خفض الأسعار، فإن المسألة برمتها تكون خاسرة للفلاح والتاجر والمورد، وكل من هو ضالع في منظومة البصل.

منظومة البصل المرتبكة والمربكة تناولها رئيس قسم بحوث البصل في معهد بحوث المحاصيل الحقلية عبدالمجيد مبروك أبو دهب، في أحاديث صحافية، بقوله إن عوامل الأزمة متداخلة ومتشابكة. يذكر أسباباً مثل معدات العرض والطلب، والكميات المزروعة والمساحات المخصصة له والصادرات، وكذلك أسعار مستلزمات الزراعة والرعاية وجني المحصول والتحميل والتوريد والعمالة. ولم ينس أبو دهب التطرق إلى أبرز الأسباب التي يجري تداولها سواء من قبل المواطنين أو المسؤولين على حد سواء، إذ جشع التجار من جهة، وإقبالهم على تخزين كميات كبيرة منه بغرض إعادة طرحها بأسعار أعلى.

وزارة التموين مسؤولة

أعلى جهة رسمية قادرة على شرح أو تحليل أو تعليل أو حل معضلة البصل هي وزارة التموين والتجارة الداخلية. وفي أوائل أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، باغت الرئيس السيسي الوزير في إحدى الفعاليات بقوله "الناس تقول إن الدكتور علي (المصيلحي) لا يسيطر على أسعار السلع في السوق. أرجو أن ترد عليهم".

 

الدكتور علي حين "رد عليهم" قال إن قراراً صدر بمنع تصدير البصل بعد ما ارتفع سعره، وإن السعر بدأ ينخفض بعد القرار، ثم تحدث عن البصل والطماطم (والأخيرة كانت تشهد ارتفاعاً أيضاً في الأسعار). وقال إن ما حدث هو "فرق عروات الزراعة"، وإن خفض أسعار الطماطم من قبل ووصول الكيلوغرام إلى ثلاثة جنيهات والخمسة كيلوغرامات بـ10 جنيهات، كان بسبب زيادة المطروح.

يشار إلى أن "العروة" في الزارعة هي الفترة الزمنية التي تجري خلالها زراعة محاصيل بعينها، بحسب فصول السنة. وعاود الحديث عن "فارق العروة" قائلاً "ما يحدث اليوم هو فارق عروة"، ومنهياً الرد بقوله "بكرة يبقى أحسن من النهارده"، لكن ما جرى هو أن العروة تبعتها عروات، و"بكرة" جاء دون أن يكون أحسن من "النهارده" فيما يتعلق بسعر البصل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

السعر يتحدى

سعر البصل في الأسواق المصرية يقف اليوم متحدياً الجميع، بما في ذلك القرار الذي صدر قبل أيام بتمديد قرار منع تصدير البصل حتى 30 مارس (آذار) المقبل. القرار حتى اللحظة لم ينعكس إيجاباً على مدى توافر البصل أو خفض أسعاره. ليس هذا فقط، بل أغضب المجلس التصديري للحاصلات الزراعية الذي يطالب الحكومة بإعادة النظر في القرار، لا سيما أن المساحات المزروعة بصلاً في مصر هذا الموسم زادت مقارنة بالموسم الماضي، إضافة إلى أن استمرار منع التصدير سيؤدي إلى عدم قدرة المزارعين على بيع المحصول بسعر يناسب الكلفة.

نقيب الفلاحين حسين أبو صدام من جهته خرج بتصريح يفترض أن يهدئ من روع المزاج العام المتكدر من اشتعال أسعار البصل. وعلى رغم إشارته إلى أن الدولة صدرت كميات كبيرة من البصل، وأن المساحة المزروعة بصلاً محدودة (عكس ما ذكره آخرون)، فإنه عاد وقال إن أزمة البصل "ليست محلية لكن عالمية". ولم يكتف بذلك، بل فجر قنبلته الحميدة وقال إن كيلو البصل سينخفض إلى خمسة جنيهات (16 سنتاً أميركياً) في أبريل (نيسان) المقبل!

وإلى أن يأتي أبريل المقبل، يشغل المصريون أنفسهم إما بالتفكه من الطفرة التي يشهدها البصل الذي ظل آلاف السنوات ثمرة شعبية في متناول أيدي الجميع، قبل أن يتحول إلى سلعة عزيزة على القلب عصية على الجيب، أو بالبحث عن غيبيات البصل وربما روحانياته.

فبين التحذير من الاقتراب من محيط المسجد حال تناول المصلي بصلاً، بسبب رائحته الكريهة في الفم، وهو ما يخفف من وطأة غضب غياب البصل، والبحث عن تفسير من يحلم بالبصل بأنه حلم غير مستحب، ويعني (بحسب تفسير ابن سيرين) كشف الأسرار وتفجر الفضائح، أو يدل على الكرب والهم الشديدين، يمضي البعض من التواقين للبصل وقتهم في البحث عن معانيه وانعكاساته، لكن تظل الأزمة منعكسة مطلباً رئيساً على رأس أولويات الرئيس القادم في الفترة الرئاسية المقبلة. ربما يكون البصل مجرد مكون من مكونات الأزمة الاقتصادية، وقد يكون غيابه موقتاً، أو ارتفاع أسعاره بفعل التصدير، أو كلفة الإنتاج أو رغبة الفلاح أو تخبط الحكومة، لكنه يدق باب السياسة من أوسع أبوابها ألا وهي الرئاسة، ويتلاعب بمشاعر المواطنين سلباً حال غيابه وارتفاع أسعاره، وإيجاباً لو نجح الرئيس القادم في توفيره وخفض أسعاره وعودة "الورد" (بصل الكشري) بكميات وفيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات