Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نهاية عام تليق بتناقضات المصريين المتناغمة

كانت 2023 السنة التي حافظ فيها الجنيه على سقوطه المدوي بعد أن بدأها بتعويم رابع وتنخفض قيمته مجدداً ويودعها بجروح غائرة وآلام مفجعة

حافظ المصريون على مدار عام مضى على تناقضاتهم المتناغمة وأوجاعهم الاقتصادية المتفجرة (اندبندنت عربية)

ملخص

حافظ المصريون على مدار عام مضى على تناقضاتهم المتناغمة وأوجاعهم الاقتصادية المتفجرة وتعاطفاتهم القومية

نهاية تليق بالعام الصعب، إن لم يكن الأصعب، وبداية تشبه المصريين في التناقض المتناغم بين غضب الاقتصاد وقلق المستقبل من جهة، والتسليم بإرادة الله ونيران الإقليم واشتعال الكوكب، وهيمنة أمل لا يرتكز على سبب بعينه في أن يكون القادم أفضل من جهة أخرى.

التناقض المتناغم بدت ملامحه واضحة في منطقة الكوربة في حي مصر الجديدة، الراقي سابقاً، المطموس المعالم حالياً. جحافل المراهقين والمراهقات ومئات الصبية القادمين من أحياء شعبية مجاورة وغير مجاورة، بغرض الاحتفال بنهاية عام وبداية آخر في المنطقة التي ما زالت تحتفظ بهالة من رقي الأمس غير القريب، ولمسة من أرستقراطية زمان، مما يعكس التناقض المتناغم بكل تفاصيله.

سكان المنطقة الأصليون، بقايا الماضي المقر بطبقات ثلاث رئيسة في المجتمع، عليا منفصلة، ومتوسطة رمانة ميزان، ودنيا مفعمة بالحياة متشوقة لارتقاء السلم الطبقي، لكنها غارقة في كل عوامل إعادة تدوير الفقر، يحافظون منذ سنوات طويلة على عادة تزيين "الكوربة" بشجرة عيد ميلاد، وإضاءة المباني التي شيدها البارون البلجيكي "أبو مصر الجديدة" قبل ما يزيد على 100 عام.

"السيلفي" رغم التحريم

إنها المباني التي تجذب آلاف المحتفلين في هذا الوقت من كل عام، يلتقطون "السيلفي" ويقفون في عرض الطريق لالتقاط الصور الجماعية وتلك المباني في الخلفية. الحرص السنوي بالغ لتوثيق حضور الآلاف هذه الاحتفالات "الغربية" التي يجري لعنها ويحرم الاحتفال بها غالبية مشايخ زوايا التجمعات العشوائية، وكذلك أئمة مساجد المناطق الشعبية ما إن ينزلوا من على المنبر.

وهي المباني التي ما أن تقع في قبضة رئيس حي لا يقدر من قيمة الجمال المعماري سوى الخرسانة الرمادية المتمثلة في أبراج تحوي آلاف الوحدات السكنية، أو يسيطر عليها مقاول لا يبتغي من الحياة إلا حفنة إضافية من الجنيهات، وربما الدولارات يكتنزها، حتى يهدم القديم التقليدي المفعم بجمال المعمار ويقوم بتشييد الجديد العشوائي المتخم بقبح التكدس.

 

هذه المباني نفسها تقف في ليلة رأس السنة الميلادية هذا العام شاهد عيان على ما جرى في "المحروسة" على مدار 365 يوماً ليست كغيرها. لقد كان عاماً مليئاً بآلام الاقتصاد، ومرارة شح البصل، وأوجاع جنون السكر، وخبل أسعار الرز، وتبدد آمال وصول اللحوم الحمراء إلى المائدة، وتقلص حضور الأسماك، وتأرجح مكانة الدجاج بحسب رغبات المربين والتجار والموردين.

كما كان عاماً تشابكت فيه آثار حرب روسيا في أوكرانيا وآثارها على الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد العالمية وتفسير جانب من الأزمات الغذائية وغير الغذائية في ضوئها، مع اندلاع الحرب في السودان وتأزم أوضاعه ونزوح الآلاف من سكانه صوب مصر، وتأرجح الرأي العام المصري بين الترحيب المطلق بالقادمين الجدد المنضمين للأشقاء من سوريا وكذلك من اليمن والصومال وإريتريا وتوليفة من الدول الأفريقية، وبين الترحيب المخلوط بمخاوف من تفاقم الأزمة الاقتصادية المتفاقمة أصلاً.

صمود الجنيه أمام الطعمية

كان 2023 العام الذي حافظ فيه الجنيه المصري على سقوطه المدوي، ليبدأ العام بتعويم رابع وتنخفض قيمته من 24.7 جنيه إلى 32 جنيهاً للدولار الواحد، ويودع العام بجروح غائرة وآلام مفجعة لا تتمثل في "استقرار" قيمته عند 30.75 جنيه للشراء و30.85 جنيه للبيع في مقابل الدولار، ولكن في موت إكلينيكي للبيع والشراء الرسميين. فلا الدولار متاح في المصارف للبيع، ولا العملاء أو المواطنين من غير العملاء ممن يملكون الدولار يبيعونه عبر الطرق الرسمية. "التفاح الأخضر" أو "الأخضر" اختصاراً يقف في نهاية العام منتصراً مزهواً مطلاً على الجنيه الذي لم يعد قادراً على الصمود ولا حتى أمام قرص الطعمية الواحد.

ورغم هذه الأحداث المتشابكة المتعثرة التي تبدو مؤسفة، فإن احتفالات رأس السنة الميلادية في الكوربة تقول شيئاً مختلفاً وإن كان عصياً على الفهم أو التفسير. على الرصيف الذي يتوسط شارع بغداد والمحاط بعمارات "البارون إمبان" رائعة المعمار المضاءة بالزينة، وقفت أسرة سودانية تلتقط الصور، وعلى مقربة منها مجموعة من الشباب السوريين يلتقط كل منهم "السيلفي" من كل الزوايا وجنسيات عربية أخرى، منهم من جاء يحتفل، ومنهم من يقيم هناك إلى حين انتهاء الصراع في بلده.

قابضون على جمر الطبقة المتوسطة

أما الغالبية فهي من أبناء البلد. طبقات مختلفة تتداخل في تناغم محبب. القابضون على جمر الطبقة المتوسطة وأعلاها بقليل يجلسون متلاصقين في مقاهي "الكوربة" الأنيقة ذات الأسماء الغريبة الجاذبة للباحثين عن الثقافات الأجنبية والقادرين على شراء كوب من القهوة، بحد أدنى 60 جنيهاً مصرياً، أي نحو دولارين بالسعر الرسمي.

وفي المقاهي والمطاعم الشعبية في شارع إبراهيم، تتداخل وتتجاور الطبقات المحتفية بالعام الجديد على مقاعد مطعم السمك الصغير، وعربة "الزلابيا" على الناصية، ومحل الفول والفلافل الذي ترتفع زيناته في كل احتفال إسلامي أو مسيحي أو وطني وأحياناً في الاستحقاقات الانتخابية إن لزم الأمر.

ورغم هذه الأجواء الصاخبة احتفالاً والمفعمة احتفاءً بالعام الجديد، فإن أوجاع المحتفلين لا تغب عن المشهد. الأسرة التي نظمت احتفالاً "على الضيق" (صغيراً) في الحديقة العامة المواجهة لكنيسة البازيليك التاريخية جاءت محملة بشايها وقهوتها وساندوتشاتها، وكذلك مياهها الغازية "المصرية" لأنها مقاطعة، وكذلك عاجزة عن دفع نصف راتب الأب الشهري في "قعدة على القهوة". هذا عن العجز، أما المقاطعة، فما زالت مستمرة، ولكن خافتة، وصامدة على رغم إطالة مدى حرب القطاع.

حرب القطاع في الاحتفال

حرب القطاع في القلب من احتفال الكوربة، وهو الاحتفال الممثل لعديد من الاحتفالات برأس السنة في ربوع المدن المصرية. شجرة رأس الميلاد التي كان يتم تدشينها في الميدان، والتي تحولت على مدار سنوات إلى مزار احتفالي في مثل هذا الوقت من كل عام تقف، أو بالأحرى يقف هيكلها، شاهداً على علاقة المصريين بما يجري في غزة، والمواقف المتواترة والمختلفة التي تتخذها قاعدة شعبية عريضة من الحرب. الهيكل يفتقد كساءه الأخضر، والكساء الغائب يفتقر زينات الشجرة الحمراء والزرقاء والخضراء، لكن الهيكل الخاوي يحمل رسالة بليغة تفوق رسالة الاحتفال بالزينات.

شجرة أعياد الميلاد ورأس السنة في الكوربة تعطي كل عام للمصريين روح الفرح والسعادة والرجاء والأمل، كونها أول شجرة أعياد في شوارع القاهرة. وأصبحت تقليداً سنوياً لاحتفال سكان مصر الجديدة وزائريها، لكن هذا العام، كيف نحتفل وجيراننا في فلسطين تحت القصف والتهديد اليومي في البرد في الشتاء القارس في الأراضي المقدسة؟ تضامناً معهم، اتفق كل سكان مصر الجديدة وتراث مصر الجديدة على تقليل مظاهر الاحتفال هذا العام وعدم وضع شجرة الكريسماس بالميدان، دون أن يقلل ذلك من آمالنا الدائمة بغد أفضل لأهلنا في غزة والضفة. وأعياد ميلاد سعيدة وسنة جديدة سعيدة لمصر والمصريين مع التمنيات بالسلام والعدالة للجميع.

شجرة كريسماس الكوربة المتحولة إلى نصب تذكاري لأحداث غزة مع خلفية الاحتفال بعام مضى كبيس وآخر جديد لا يخلو من أمل اختتمت رسالتها بما من شأنه أن يقرب بين الناس نظرياً، وما هو قادر على إشعال فتيل الحرب "الفكرية" السنوية عملياً.

الجدل الكلاسيكي

عملياً، هذا الوقت من كل عام ليس احتفالاً فقط بعام يلملم متعلقاته وآخر يحظ رحاله، لكنه يشهد كذلك الجدل الكلاسيكي بين فريقي تحريم الاحتفال برأس السنة لأنها "ميلادية" وحظر تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد المجيد لأسباب عدة.

وهذا العام ليس استثناءً. ليس هذا فقط، بل ألقى تديين الحرب في غزة وتفريغها من مكون احتلال غاشم لدولة وتصرف جائر لجيش عنصري، إلى حرب مسلمين ضد يهود بظلال وارفة على كلاسيكيات التحريم والمنع. هذه الظلال قوت شوكة التشدد وعضدت جذور التطرف.

 

"لماذا اختلفت أقوال العلماء حول الاحتفال برأس السنة الميلادية؟" دار الإفتاء تحسم الجدل حول حكم التهنئة برأس السنة الميلادية"، "شروط مشاركة المسلمين في الاحتفال برأس السنة الميلادية"، "ما حكم استخدام المفرقعات الاحتفالية في رأس السنة الميلادية؟"، كلها عناوين صحف ومواقع إخبارية مصرية رصينة في نهاية عام 2023 من الألفية الثالثة. ليس هذا فقط، بل ظهرت هذا العام صرعة أدعية وابتهالات العام الميلادي الجديد.

وحين بحث الباحثون واجتهد المجتهدون للعثور على دعاء ردده النبي محمد في هذه المناسبة، ولم يجدوا ما يهتدوا به، خلصوا إلى نتيجة مفادها أن باب الدعاء يظل مفتوحاً ليطلب كل عبد ما يتمناه من رب العباد. وتسهيلاً على العباد، يجري تداول عدد من الأدعية لمن يتعثر في عملية الدعاء.

"اللهم إني استودعتك السنة الجديدة، يا رب اجعلها مليئة بالتوفيق والسعادة، اللهم إني استودعتك فتحها ونورها وبركتها وهداها وأعوذ بك من شر ما فيها وشر ما بعدها"، "أول أيام العام الجديد اللهم ارزقنا فيه الخير والفلاح والنجاح وصلاح القلب والنفس والحال"، "اللهم إنا نستودعك سنة مضت من عمرنا بأن تغفرها لنا، وترحمنا وتعفو عنا وأن تبارك لنا في أيامنا القادمة، وتصلح أنفسنا وتيسر أمرنا".

هيكل الشجرة

ويبقى أمر الشجرة، أو هيكل شجرة الميلاد في الكوربة، حيث تم تذييل إعلان ترشيد الاحتفال بآيتين، الأولى من الإنجيل والثانية من القرآن، وهو ما فسره البعض بسد أفواه المتشددين القائلين بحرمانية العيد والشجرة والاحتفال والمحتفلين والمنظمين. "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لوقا14:3). "والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً، ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون" (سورة مريم 33،34).

احتفالات الفنادق المصرية برأس السنة هي الأمر الدنيوي الذي فيه يمترون هذا العام. فبينما أعلن عدد من الفنادق إلغاء حفلات رأس السنة هذا العام "تضامناً مع غزة"، بحسب المعلن، عقد عدد آخر العزم على المضي قدماً في إقامة الحفلات.

ومعروف أن حفلات رأس السنة الميلادية ظلت على مدار عقود طويلة موسماً سياحياً وترفيهياً يدر دخلاً وفيراً على قطاع السياح والفنادق في أوقات الانتعاش الاقتصادي، فما بالك بأوقات التدهور والتضخم والتعويم والأزمات المتواترة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


تداعيات حرب غزة

قبل ساعات، أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية خطتها لمواجهة التداعيات السلبية لحرب غزة على حركة السياحة الوافدة إلى البلد.

مصر المتضررة سياحياً غير مرة على مدار السنوات الماضية، بين أحداث عامي 2011 و2013 وسقوط الطائرة الروسية على سيناء في عام 2015، ثم حرب روسيا في أوكرانيا، وأخيراً حرب القطاع، أعيتها سبل الإنعاش والترويج، لكن الجهود مستمرة. وإلغاء جزء من حفلات رأس السنة يلحق مزيداً من الضرر بالقطاع الذي يشغل ما لا يقل عن ثلاثة ملايين مصري ومصرية في مهن تتعلق بالسياحة، أي 12.6 في المئة من قوة مصر العاملة، ويرسل رسائل سلبية من القطاع المتضرر أصلاً، حتى وإن كانت رسائل التضامن والتعاطف والتكاتف أعلى صوتاً.

صوت السوشيال ميديا الزاعق الصاخب هاجس يطارد كثراً. في مثل هذا الوقت من كل عام يتسابق المطربون والمطربات للتعاقد على حفلات رأس السنة. هذا العام، أمارات التسابق أقل حدة. حتى المتسابقون، يبقون تسابقهم حبيس كواليس الحفلات ومنظميها سواء داخل مصر أو خارجها. التضامن والتعاطف والتكاتف مع غزة وأهلها نصب الأعين، لكن لا يعلم ما في القلوب إلا الله. ويبدو أن غالب الفنانين تعلموا من التجربة الأليمة للممثل بيومي فؤاد الذي واجه حرباً عنكبوتية شرسة متهمة إياه بعدم الاكتراث بحرب غزة وشهدائها.

الحرب تغرز أنيابها

حرب غزة التي تغرز أنيابها بسرعة ملحوظة في عديد من القطاعات الاقتصادية في مصر تقف في مواجهة واضحة مع مظاهر بطيئة، ولكن مؤكدة للعودة للحياة الطبيعية، اضطراراً أو اختياراً، في ضوء أمارات استمرار الحرب لأجل غير معلوم.

رأس السنة الميلادية أعطت فرصة للمتحرجين من المجاهرة بالتضرر من آثار حرب القطاع لإشهار مخاوفهم. تعليقات مثل "الفنانون أيضاً يحتاجون إلى شراء الطعام والشراب وتأمين حاجاتهم وأسرهم" و"بيوت الآلاف ممن يعملون في كواليس الأعمال والحفلات الفنية أوشكت على الخراب" وغيرها من التعليقات تشهد تصاعداً على خلفية حفلات رأس السنة الملغاة والمتأرجحة بين الإلغاء والإبقاء.

بقاء الحال المتأرجح

ويبقي المصريون على حالهم المتأرجح بين الفرح والغضب، وبين الغرق في أحوالهم الاقتصادية المريرة وبين التماهي مع الأوضاع في غزة، وبين الاحتفال من دون شجرة وقد تحولت نصباً تذكارياً وبين السؤال عن حرمانية الاحتفال والاستعانة بدعاء عام ميلادي جديد في تناقض متناغم يدهش السابقين واللاحقين، ويدهش علماء النفس والاجتماع والتاريخ تارة أخرى، وتصفه نشرات الأخبار بـ"المحير" تارة، و"الغريب" دائماً.

لذلك لم يكن غريباً أن تكون أخبار غزة وحربها هي الأكثر بحثاً من قبل عموم المصريين، تليها أخبار الجنيه المغدور وتعويماته المتواترة. وأكثر الشخصيات التي بحثوا عنها على مدار العام "الصعب" هو لاعب كرة القدم إمام عاشور المثير للجدل خلافاته وإصاباته وانتقالاته، وكذلك الممثلة المثيرة للجدل لأسباب مختلفة جوري بكر، والتي يهرع الملايين لمتابعة أخبارها المفاجئة والتمعن في ملابسها الجريئة، ثم يهرعون بالسرعة نفسها لسبها والتنمر عليها لعدم مراعاتها العادات الأصيلة والتقاليد المحافظة.

حافظ المصريون على مدار عام مضى على تناقضاتهم المتناغمة وأوجاعهم الاقتصادية المتفجرة، وتعاطفاتهم القومية، وفي قول آخر، الدينية المستدامة كعادتهم، حتى ولو انقلبت أحوال الكوكب من حولهم رأساً على عقب.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير