Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاستفادة الأميركية من تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا

لا تحمل الولايات المتحدة الإرث الاستعماري نفسه في منطقة الساحل لكنها مطالبة بتغيير استراتيجيتها في ظل تنامي الوجود الروسي

حكومات مالي والنيجر وبوركينا فاسو أطاحت بالنفوذ الفرنسي وعازمة على تشكيل تحالف سياسي ونقدي (رويترز)

ملخص

ما أبرز الدروس المستفادة بالنسبة إلى الولايات المتحدة من تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي؟ وهل تختلف واشنطن عن باريس في نظر الأفارقة؟

في وقت اختتمت فيه فرنسا عام 2023 بحضور متضائل في منطقة الساحل الأفريقي المضطربة بعد سحب قواتها من ثلاث دول حليفة تقاتل منظمات متطرفة، واستبدال بنفوذها هناك وجود روسي متنام، تراقب الولايات المتحدة الوضع بحذر في محاولة للتعلم من تجربة باريس المريرة وتجنب أخطائها، فما أبرز الدروس المستفادة بالنسبة إلى أميركا؟ وهل تختلف واشنطن عن باريس في نظر الأفارقة؟

تراجع نهائي

شهد عام 2023 ما يمكن أن يوصف بالتراجع النهائي الذي لا رجعة فيه للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، الذي كان عملية جارية بالفعل منذ فترة، لكنها تسارعت في السنوات الثلاث الماضية، وتميزت بسلسلة من إطاحة العسكريين رؤساء منتخبين ديمقراطياً في بلدان مختلفة، كان أولها في مالي في عامي 2020 و2021 ثم في غينيا خلال سبتمبر (أيلول) 2021، ثم في بوركينا فاسو في يناير (كانون الثاني) وسبتمبر 2022، وأخيراً جاء دور النيجر حين تمت إطاحة الرئيس محمد بازوم، الحليف الوثيق لباريس، في الـ26 من يوليو (تموز) الماضي، الذي كان بمثابة الضربة القاضية للمصالح الفرنسية في منطقة الساحل، لأنه أدى عملياً إلى انهيار المعقل الأخير للنفوذ الفرنسي الذي لم يعد موجوداً الآن، وحل محله تزايد النفوذ الروسي.

كان آخر عمل لهذا التباعد التدريجي هو سحب الوحدات العسكرية الفرنسية من النيجر، الذي اكتمل قبل أسبوع واحد، عندما غادرت آخر مجموعة مكونة من 1400 جندي عقب أشهر من التوترات المريرة بين باريس ونيامي التي بدأت في أوائل أغسطس (آب) الماضي، عندما نددت الحكومة الانتقالية للنيجر بقيادة الجنرال عبدالرحمن تشياني باتفاقات التعاون العسكري مع باريس واعتبرت أن وجود 1400 جندي فرنسي في البلاد غير قانوني، ولم ينته الأمر إلا في نهاية سبتمبر باستسلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لرغبة الحكومة الجديدة.

فجوة تتسع

 غير أن الفجوة التي تفصل الآن بين النيجر ومعها جارتاها مالي وبوركينا فاسو عن فرنسا من المتوقع أن تتسع، إذ يبدو أن المجالس العسكرية الحاكمة في باماكو وواغادوغو ونيامي عازمة على تشكيل تحالف سياسي ونقدي، وهو ما أعلنه الجنرال تشياني في حديث مع إذاعة محلية، وإذا تم تأكيد هذه التصريحات في مالي وبوركينا فاسو فسوف يفرض ذلك مسافة إبعاد إضافية للدول الثلاث عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، ومن ثم عن فرنسا والنفوذ الغربي، الذي كان قد بدأ بالفعل في الـ16 من سبتمبر الماضي، عندما شكلت الدول الثلاث تحالفاً عسكرياً ودبلوماسياً بهدف ضمان استقلالها عن الهيئات الإقليمية، وأنشأت هيئات مؤسسية وقانونية للتحالف وخلق اتحاد اقتصادي وسياسي حقيقي يوازن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، التي ينظرون إليها على أنها منظمة لا تزال تسيطر عليها فرنسا وحلفاؤها الغربيون.

وجاءت الضربة الحاسمة الأخرى للعلاقات بين النيجر والغرب في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، عندما أعلن المجلس العسكري في نيامي عزمه على إنهاء اتفاقات الدفاع والأمن مع الاتحاد الأوروبي، التي نصت على دعم النيجر في الحرب ضد الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية، وقبل ذلك وجه عسكريو النيجر ضربة قاسية أخرى لحلفائهم الأوروبيين السابقين، معلنين إلغاء قانون يجرم الاتجار بالمهاجرين عبر الدولة الواقعة في منطقة الساحل الذي يعمل منذ عام 2015 وظل يمثل لسنوات حجر الزاوية في استراتيجية مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، ولقي معارضة واسعة النطاق من قبل سكان الصحراء، الذين تعتمد اقتصاداتهم إلى حد كبير على الاتجار بالبشر للعمل في دول القارة الأوروبية الغنية.

وعلى رغم أن القانون لم يحل مشكلة المهاجرين، فإنه خفض عدد القادمين لأوروبا من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذين يمرون عبر النيجر وليبيا، وليس هناك شك في أن إلغاء القانون يمثل ضربة خطرة للاستراتيجية الأوروبية لإدارة تدفقات الهجرة من أفريقيا.

تحذير واشنطن

قد يكون سحب باريس قواتها مضطرة من النيجر وسط موجة من المشاعر المناهضة لفرنسا بمثابة تحذير للولايات المتحدة وخططها في منطقة مضطربة، حيث تتطلع واشنطن إلى تعزيز نفوذها بعدما نجحت في الإبقاء على ما يقارب 1100 جندي في النيجر وتعزيز الوجود العسكري الأميركي في أفريقيا، لكنها أيضاً يجب أن تنتبه للنكسة الفرنسية بحسب المحلل في شركة "أكسفورد أناليتيكا" ناثانيال بأول، الذي اعتبر أن الرسالة التي يبعث بها فشل باريس في منطقة الساحل، بخاصة إلى واشنطن، هو أنه من الخطأ أن تعتمد السياسة الأمنية على أنظمة فاسدة لأنه عندما تتم إطاحة هذه الأنظمة غالباً ما ينظر إلى داعميها الأجانب على أنهم متواطئون ويمكن أن يفقدوا نفوذهم.

كانت النيجر بمثابة المركز لعمليات مكافحة الإرهاب لكل من فرنسا والولايات المتحدة في منطقة الساحل، إذ توجد الجماعات المسلحة التابعة لتنظيمي "القاعدة" و"داعش" بشكل نشط، وعلى رغم أن الجهود التي بذلها الرئيس محمد بازوم قبل الانقلاب الذي أطاحه كانت ناجحة، فإن الأميركيين والفرنسيين تجاهلوا قمع بازوم للمعارضة، والطبيعة المثيرة للجدل لانتخابه، وتاريخ البلاد الطويل من العلاقات المدنية العسكرية المشحونة، مما أرسى أسساً هشة لبناء شراكة متينة عليها.

لكن على عكس فرنسا التي دانت وضع بازوم تحت الإقامة الجبرية، سعت واشنطن إلى التعامل مع المجلس الوطني للأمن القومي في النيجر، على رغم دعوتها إلى استعادة الحكم الديمقراطي، واستأنفت نشاطها العسكري في النيجر على اعتبار أنها لا تقوم بعمليات لمكافحة الإرهاب مع القوات العسكرية في نيامي.

ملء الفراغ

ومع مواجهة فرنسا الآن نهاية حقبة في أفريقيا تحاول الولايات المتحدة ملء الفراغ من خلال تمييز استراتيجيتها عن فرنسا، حتى مع بقاء البلدين حليفين في المعركة الأوسع ضد الإرهاب، كما يقول مدير مركز أفريقيا التابع للمجلس الأطلسي "راما ياد".

وفي حين تزعم فرنسا في كل مكان أنها لا تحتاج إلى النيجر ولا إلى اليورانيوم الموجود في أراضيها، فإن الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى تعرف أن نيامي مهمة كجزء أيضاً من غرب أفريقيا الذي يبدو بالنسبة إلى معظم المراقبين العالميين نقطة مثيرة للاهتمام تتبع قصة قديمة تعود إلى سنوات الحرب الباردة والمنافسات بين القوى الخارجية العالمية.

ولعقود من الزمن كان ذلك يعني التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكن في الآونة الأخيرة تحول التنافس إلى مصالح أميركا مقابل مصالح الصين، وفي أعقاب الانقلاب في النيجر سارع المحللون إلى التركيز على معركة واشنطن وموسكو في منطقة الساحل الأفريقي، مع إضفاء مظهر جديد على مجموعة "فاغنر" الروسية.

منافسة روسيا

وعلى رغم القلق الأميركي من أن تزايد عدم الاستقرار والمشاعر المعادية للغرب في منطقة الساحل من شأنه أن يشجع موسكو للحصول على موطئ قدم أكبر في القارة، حتى في وقت تستهلك فيه حرب أوكرانيا اهتمامها ومواردها، فإن ما نشرته وسائل إعلام غربية أن الجيش الروسي ينشئ قوة تسمى "الفيلق الأفريقي" كبديل لـ"فاغنر"، وأن "تيليغرام" نشرت إعلانات تجنيد، لم تتأكد حتى الآن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع ذلك فإن لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين برؤساء 17 دولة أفريقية في قمة انعقدت في سانت بطرسبورغ خلال يوليو الماضي، وتعزيز الوجود الروسي في منطقة الساحل وأفريقيا الوسطى والسودان، يعزز نفوذ روسيا على حساب الولايات المتحدة، وهو ما يعتبره مدير أبحاث مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية جوزيف سيغل مثيراً لعدم الاستقرار، وأن الانتشار الروسي يمثل تهديداً للأمن القومي.

وفي حين يبدو أن اهتمام روسيا المتزايد بأفريقيا مدفوع بالرغبة في توسيع نفوذها العالمي وسط انهيار العلاقات مع الغرب بسبب حربها في أوكرانيا، ولتوسيع أرباحها من مبيعات الأسلحة، وبناء وتشغيل محطات الطاقة النووية، والحصول على حقوق الموارد الطبيعية في جميع أنحاء القارة، فإن البعض مثل أمكا أنكو الخبير في "أوراسيا غروب لاستشارات الأخطار" يرون أن نفوذ روسيا الحقيقي محدود، نظراً إلى أنها لا تمارس سوى القليل من التجارة مع أفريقيا ولا تقدم كثيراً من الاستثمارات أو المساعدات، وليس لدى موسكو كثير لتقدمه للدول الأفريقية.

إرث مكلف

في المقابل يبدو أن جيلاً جديداً من الأفارقة ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي، فعلى عكس الإرث الذي تحمله فرنسا باعتبارها قوة استعمارية سابقة، تبنت واشنطن وجوداً محدوداً في المنطقة، كما أن الأفارقة يريدون تنويع شراكاتهم مع الدول الأخرى، وهناك جيل جديد ليس لديه عقدة الأجيال السابقة مع الاستعمار وكل ما يطلبه فقط هو الاحترام.

ووفقاً لخبير الدراسات المقارنة الدولية في جامعة ديوك مباي بشير لو، فقد ساعدت العوامل الاقتصادية التاريخية في تعزيز السلبية تجاه فرنسا في أفريقيا، بخاصة مع استمرار استغلال المنطقة في التأثير في حياة الناس اليومية، إضافة إلى المشكلات السياسية والأمنية التي عجلت بتراجع فرنسا في أفريقيا، لعبت الاتجاهات الاقتصادية أيضاً دوراً مؤثراً في خلق تصور ما يوصف بالقوة الاستعمارية السابقة في منطقة الساحل.

وعلى رغم أن عصر الحكم الفرنسي المباشر في أفريقيا انتهى رسمياً باستقلال الجزائر في 1962، بعد عامين تقريباً من انفصال كل دولة أفريقية مستعمرة سابقاً عن الإمبراطورية، فإن فرنسا لا تزال تمارس سيطرة مؤثرة في اقتصاد المنطقة، بما في ذلك الاستخدام المستمر للثروات وعملة الفرنك الأفريقي المربوطة باليورو ووجود كبير للقطاع الخاص.

في المقابل لا تحمل الولايات المتحدة العبء التاريخي نفسه، لأنها لم تنخرط قط في المعنى التقليدي للاستعمار والاستغلال في القارة الأفريقية، وهذا ما يفسر أن الاحتجاجات الأفريقية، مثل تلك الموجودة في النيجر، طالبت صراحة بإزالة القواعد العسكرية الفرنسية، بينما لم تستهدف القواعد الأميركية.

دروس لأميركا

ربما تأتي أفضل الدروس المستفادة لأميركا مما توصلت إليه فرنسا، فقد دعا تقرير أصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إلى تغييرات تشمل إنشاء مزيد من المتخصصين في شؤون أفريقيا داخل وزارة الخارجية وتعيين سفراء من أصول أفريقية، وإعادة هيكلة مساعدات التنمية الفرنسية وتبني سياسة أكثر شفافية وواقعية في التعامل مع أفريقيا.

ولتقديم بديل جذاب يعتقد أن باريس والحكومات الغربية الأخرى في حاجة إلى النظر في السياسات التي تؤكد التنمية إلى جانب الأمن والنظر في الدول الساحل في غرب أفريقيا التي تتعرض بشكل متزايد لخطر الهجمات من الجماعات المتطرفة، إذ يجب أن تكون هناك رؤية لمنطقة الساحل على نطاق أوسع، تعالج نقاط الضعف في المنطقة وتحارب بشكل خاص المعلومات المضللة.

وإذا كانت الولايات المتحدة راغبة في بناء علاقات أكثر صلابة مع دول القارة، في العقد السابع من استقلالها، فعليها ألا تهدر الفرص مثلما فعلت في الماضي حين بدلت شعاراتها السياسية كل بضع سنوات ولم تقدم من التزاماتها الاقتصادية سوى القليل من الشراكات مع القطاع العام ونادراً ما تعاونت مع القطاع الخاص باستثناء مشاريع الطاقة في النفط والغاز.

وحتى عندما تنفق واشنطن مبلغاً لا بأس به على المساعدات العسكرية للدول الأفريقية الصديقة فإن هذا يتعلق في الغالب بحماية المصالح الأميركية، مثل ما يسمى بالحرب على الإرهاب.

وكما تقول الممثلة الدائمة السابقة للاتحاد الأفريقي لدى الولايات المتحدة، أريكانا تشيهومبوري كواو "على واشنطن عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا في سياق تفاعلاتها بالقارة، إذ يجب عليها أن تأتي إلى أفريقيا كشريك على قدم المساواة، وسوف نرحب بها، أما إذا جاءت إلى أفريقيا لمواصلة الاستغلال، فلن ينجح هذا".

المزيد من تقارير