Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لكل منا قمره الخاص مع أنه يملكنا

كيف قام رفيق الأرض السماوي بتحويل الكوكب وقيادة التطور وجعلنا ما نحن إياه؟ كتاب ريبيكا بويل الجديد يقربه إلينا أكثر من أي وقت مضى

ما يفعله البشر الآن بالقمر يوشك أن يلحق به تغييرات سيتعذر التراجع عنها (أ ف ب)

لم تزل في ذاكرتي أبيات لشاعر لا يذكر ضمن الشعراء المصريين ولا عجب، فحتى أواخر القرن الماضي كان يجرؤ أن يكتب قصيدة عن القمر، عمودية بالطبع، وكان الشعراء آنذاك قد خاصموا القمر منذ أمد بعيد، والطبيعة كلها، وغرقوا طوعاً أو كرهاً في الأرض الخراب.

وينتفي أي عجب حين أجد ذلك الشاعر في ذاكرتي يخاطب القمر مباشرة (إني على عهد الوفاء وإن * تغيرت المشاعر حول كنهك والفكر* هم ينظرون إليك نظرة تاجر* وأنا بعين الشعر أنظر يا قمر).

اسمه في ما أتذكر عبدالرحمن صان الدين، وهو أحد عشرات الشعراء الذين تقرأهم غالباً في صفحات هي بمنزلة الفواصل بين مواضيع مجلة "الأزهر"، أو تجد دواوينهم مطبوعة في غير المنابر التي يسيطر عليها ويتوارثها الشعراء المكرسون في أرض الواقع.

 لكن أولئك المطرودين من أرض الواقع عازفون عن القتال عليها راضون بهوامشهم، وهم الذين قدموا لصبي في المرحلة الإعدادية نوعاً من الشعر أمكنه أن يقرأه ويتعلم عبره الوزن ويلقي منه على زملائه فيطربون ويطرب معهم، وذلك ما لا يمكن أن يحققه لتلميذ صغير أدونيس نفسه.

رفيق الأرض السماوي

على رغم هذه الجفوة من الشعراء فثمة اهتمام بشري كبير بالقمر الآن وإن لم يكن شعرياً.، فقبل أيام كتبت ريبيكا بويل في "نيويورك تايمز" [21 يناير (كانون الثاني) 2024] أن ما يفعله البشر الآن بالقمر يوشك أن يلحق به تغييرات سيتعذر التراجع عنها، ومن ذلك مثلاً رغبة بعضهم في أن يتخذوا فيه مدافن لرفاتهم أو رفات ذويهم، فقد حاولت شركة إسرائيلية عام 2019 أن تنقل رفات بعض الجثث البشرية المحروقة إلى "الجار السماوي" على حد تعبير بويل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم أن المقالة لا تتوقف كثيراً عند تفاصيل تلك الرحلة التي فشلت في الوصول إلى غايتها وتحويل القمر إلى مقبرة بسبب تسريب وقود، لكن المؤكد أن الثمن الذي دفعه أولئك الموتى الرومنتيكيون أو ذووهم كان باهظاً، وفضلاً عن ذلك تضرب بويل أمثلة كثيرة أخرى لجهود البشر الرامية إلى استغلال القمر، سواء بالبحث فيه عن معادن بهدف استخراجها أو موارد أخرى أو بإقامة اقتصاد قادر ذاتياً على الدوام، بما يجعل المقالة تنبيهاً إلى نزعة في علم الفضاء تجرفه إلى نطاق "البيزنس"، إذ يتولى القطاع الخاص بعض الأدوار التي اقتصرت من قبل على المعاهد والمؤسسات العلمية الراسخة.

وليست مقالة بويل هذه منشورة لوجه الله أو وجه القمر، وإنما هي على الأرجح لترويج كتاب حديث الصدور لكاتبة المقالة نفسها عن القمر، ومع ذلك فإنها تبقى صالحة للفت الأنظار وتوسيع دائرة القلق، فلا يكفيك ما يجري على الأرض من حروب وحشية أو إفساد للمناخ أو قمع للحريات أو غير ذلك من بلايا الأرض، لكنك مدعو إلى أن تقلق أيضاً على الفضاء.

ولو أن الكتاب في الحقيقة خلافاً للمقالة لا يكتفي بأن يثير القلق، ولكنه في الأساس يوفر لك صحبة ربما لم يأنس بمثلها البشر منذ عقود طوال.

صدر الكتاب حديثاً لريبيكا بويل، الصحافية العلمية بمجلة "كولورادو سبرينغز"، بعنوان "قمرنا: كيف قام رفيق الأرض السماوي بتحويل الكوكب وقيادة التطور وجعلنا ما نحن إياه"، عن دار "راندم هاوس" في 336 صفحة.

والغريب في كثير من العروض النقدية لهذا الكتاب أن معظم كتابها استهلوها بذكريات شخصية عن القمر، فبدا لي أنه قد لا تكون هناك غضاضة في أن أحاكيهم.

في ذاكرتي أن العالم المصري فاروق الباز حكى يوماً أنه في أوائل أيام عمله في "ناسا" سأل أحد العلماء في مؤتمر عن خريطة جيولوجية للقمر، فنظر إليه الرجل في استنكار وبدا كمن يقول إن خريطة كهذه غير موجودة، ولا حاجة لأحد هنا إليها، فلم يقتنع العالم الشاب وخرج من المؤتمر ليجمع كل ما صادفه في الوكالة من بيانات حتى اجتمع لديه كم هائل استوجب طاولات كثيرة لترتيبه وتصنيفه فقط، ثم عكف يعمل عليها حتى خرج بتصور للخريطة الجيولوجية التي كان يبحث عنها، وخلال المؤتمر التالي قدم عرضاً بما توصل إليه، فإذا بالذي استنكر عليه سؤاله من قبل يعتذر معترفاً للعالم الشاب بأنه أثبت أنهم ما كانوا يعرفون عن القمر إلا القليل.

من يستطيع تجاهله؟

والحق أننا اليوم أشبه بذلك العالم، فكلنا نتلقف أخبار الكواكب البعيدة والنجوم النائية وتثير خيالاتنا الثقوب السوداء، ونفغر أفواهنا أمام الصور الإعجازية التي تتصدق بها "ناسا" بين حين وآخر للكون السحيق الجميل، وتقريباً لم نعد نبالي بالقمر، لكن ريبيكا بويل تحذرنا حين تستهل كتابها، كما تبين "كيركوس ريفيو"، بالغزو البحري عام 1943 لجزيرة تراوا الواقعة تحت السيادة اليابانية، حيث أقام مخططو ذلك الغزو خططهم على أن المد سيكون عالياً بما يسمح لسفن الإنزال بعبور الشعاب المرجانية، ولم تصدق تقديراتهم وعلقت السفن فاضطر الجنود إلى الخوض في المياه إلى الساحل تحت القصف، ولقي أكثر من 1000 منهم مصرعهم، "والدرس المستفاد: تجاهل القمر لكن على مسؤوليتك".

قد يعلم معظمنا بأن للقمر تأثيراً على المد والجزر، لكن ما ذلك إلا قمة جبل جليد من معلومات تغوص ريبيكا بويل في أعماق التاريخ لاستخلاصها، بل إنها تصل إلى ما قبل التاريخ مستنطقة آثاراً ورسوماً على جدران كهوف ونقوشاً مبهمة محفورة على عظام وصخور، تتفق مع كثير من علماء الآثار على أنها في الغالب علامات لتحديد الزمن، وتتقدم قليلاً إلى حين "ظهرت أولى الحضارات التي أجاد أهلها القراءة والكتابة في ما بين النهرين ومصر، إذ أصبح القمر سجلاً للأحداث وعرافاً بالمصائر وسلاحاً ذا بأس وإلهاً معبوداً".

 

 

وفي استعراضها لـ "قمرنا" ["نيويورك تايمز" - 15 يناير 2024]، كتبت كاترينا ميلر أننا اليوم نحمل على هواتفنا الذكية تقويمات نعرف بها الأشهر والأيام، وأننا لم نعد مرغمين على تخيل ما يمكن أن يكون عليه القمر، إذ لدينا للمرة الأولى في تاريخ البشرية بيانات وفيديوهات، بل ورسومات رسمها أشخاص ذهبوا إلى هناك، وكلها يكشف طبيعته.

"إذاً فقد تبدد غموض القمر منذ أمد بعيد"، ولكن "لماذا إذاً لا نزال ننظر إليه في عجب؟ ربما لأنه القطعة الوحيدة من كوننا الشاسع التي يمكن أن يكون لمعظمنا تجربة معها، فكل ما عليك هو أن ترفع عينيك إلى أعلى أو أن تطأطئ بهما في كتاب بويل الجديد الذي يقرب القمر أكثر من ذي قبل".

تستهل ميلر استعراضها للكتاب قائلة إن القمر طالما بدا لها "مضجراً بعض الشيء، وكم حدثتني نفسي بأنه لو أن بوسع أحد أن يدرس أي شيء في الكون، سواء أعماق الثقوب السوداء أو الانفجارات النجمية القصية أو الجزيئات الشبحية المعروفة بالنيوترينوات مثلما فعلت أنا، فلماذا حقاً يختار دراسة هذا القمر العاطل من الغموض؟".

وتستدرك، "لكن الكاتبة العلمية ريبيكا بويل أثبتت لي خطأ ما كنت أظنه، ففي كتابها ’قمرنا‘ تصطحب بويل القارئ عبر تاريخ كل من كوكب الأرض والإنسانية، منذ نشأة كوكبنا وحتى تطور الحياة وصولاً إلى ظهور الحضارة والدين والفلسفة وأخيراً العلم، وعبر ذلك كله كان للقمر، بحسب بويل، دور بطولة في الطريقة التي صرنا بها ما صرنا إليه، وتشكلت بها هويتنا".

تكتب بويل أن "القمر أقرب إلى أخ منه إلى تابع"، معللة ذلك بأنه تكون من غيمة الحطام الكوني التي تشكلت منها الأرض، وتكتب أن جاذبيته عامل استقرار لمناخنا الأرضي بما يجعل القمر على حد تعبيرها "قبطان مواسمنا"، وبصفته حاكم المد والجزر فقد اجتذب القمر كائنات بدائية إلى بحار الأرض الأولى الغنية بالمواد الغذائية، ثم ردها إلى الساحل تارة أخرى فـ "خرج السمك من الماء ليشرع في السير".

تصف كاترينا ميلر كتابة بويل بأنها في مثل "عذوبة حكايات ما قبل النوم، تصور بها القمر أكثر من محض محرك لظواهر طبيعية، فتقول إن البشر طالما نظروا إليه ليفهموا قياساً إليه مكاننا من تحته، فضلاً عن دوره الأساس في العلم الحديث وهو أن يروي لنا قصتنا".

هل يصير مستعمرة؟

كان قدماء البشر يستعملون القمر في التوقيت فمهد ذلك طريقهم إلى وضع أنظمة الزراعة والدين، فما أكثر الأديان التي اتخذت القمر إلهاً، ولما حان الوقت الذي حوكم فيه غاليليو على زعمه أن الأرض ليست مركز نظامنا الشمسي، وقد اكتشف ذلك جزئياً بفضل تعقبه حركة القمر، فقد القمر شخصيته الإلهية وبدأ الناس يتفكرون في الغرض الفعلي من وجوده وفي موقعنا من الكون، ويذهب "قمرنا" إلى أن هذه الأفكار كانت بذور الفكر الفلسفي وبواكير الملاحظة العلمية، وفي ذلك تقول بويل "يكتب مؤرخ الأديان ميرسيا إلياد عن ’ميتافيزيقا القمر‘ المشتركة بين جميع الكائنات الحية في كتابه ’المقدس والمدنس‘ فكما أن كل الأحياء تنمو وتتحول وتضمحل وتموت، فلا بد ألا ننسى أن ما يكشف عنه القمر للمتدين ليس فقط أن الموت والحياة مرتبطان بعرى لا تنفصم، بل وأن الموت أيضاً، وفي المقام الأكبر، ليس نهائياً، فسوف يعقبه دوماً ميلاد جديد".

 

 

وتضيف بويل، "وأنا وإن كنت أعتقد عموماً أنه لا وقت لدي للميتافيزيقا ومسائلها، وذلك لأنني أتعامل مع أسئلة فيزيقية بحتة، فأعرف أن الكون يتمدد وأن ملايين الشموس تجمع من حولها ملايين الكواكب، وأن الحياة موجودة على كوكبنا هذا لأن النباتات قادرة على غزل السكر من ضوء الشمس، ومع ذلك فإنني لا أخلو من ميتافيزيقا شخصية للقمر".

تقول كاترينا ميلر إن السرد في بعض الأوقات يجنح ببويل عن موضوعها لدرجة التساؤل عن علاقة ما تقوله بالقمر، "لكن مثلما يعاود القمر الظهور دائماً في سماواتنا تعاود بويل الرجوع لموضوعها، فدائماً يقام الرابط، سواء كان طبيعياً أو روحانياً أو فكرياً أم أسطورياً"، ولعل شيئاً من ذلك يتضح في ما تكتبه بويل عن الأمومة:

"في بعض أكثر اللحظات كآبة من أوائل عهد النساء بالأمومة، حينما تعاني نساء كثيرات من طائفة كبيرة من مصاعب ما بعد الولادة، تعلمت كلمة بديعة هي matrescence [أو التأمم إن جاز الاشتقاق] ومعناها عملية التحول إلى أم كحال المراهقة أو الشيخوخة، وعمليتي البلوغ والهرم البيولوجيتين، فإن التأمم حال قوامها التغير والتكشف والتطور والمرور، وخوض تجربة التأمم يعني اقتطاع المرأة قطعة من قلبها وتعريض لحمها الرقيق للعالم، فهي اسم يجب أن يكون فعلاً، فالانتقال إلى الأمومة فعل صيرورة ونماء وازدهار ومحو وخلق وإعادة بناء، وكل ما يفعله القمر في كل دورة من دوراته".

"عندما أنجبت ابنتي الأولى صار القمر رفيقاً أهلاً للثقة، أحياناً أطلب منه التوجيه شأن أمي حينما كانت تدعو القديسين، وبعد ساعات من ميلاد ابنتي الكبيرة كان القمر يضمحل إلى الربع الأخير متوهجاً وساطعاً في شباك غرفتي بالمستشفى، ولم أكن أعرف في أية ساعة كنا بل في أي يوم، ولم يكن بوسعي أن أتحرك من فراشي، وساعدني القمر في أن أستشعر موقعي فأعلم أنني لا زلت على كوكب الأرض وأن ابنتي حية، وأننا على الأرجح في الثالثة صباحاً".

وتكتب ريبيكا بويل، "أخيراً أصبح القمر بالنسبة إليّ أداة أعلم بها ابنتيّ أن الحياة لا تدوم وأن دأبها التغير، وأن أعينهما بذلك على فهم لغز الموت، وأنا على يقين من أنني لست وحدي في هذا، فلعل القمر بتبدل أحواله قد أعان البشر الأوائل على فهم هذه المفاهيم وعلى التشبث في الآن نفسه بأفكار تنافسها من قبيل الحزن والفرح والفقد والنمو، فنحن نرى القمر يتغير من هلال إلى محاق إلى بدر، ثم نراه إذ يضمحل ويتضاءل حتى يختفي، فنتعلم اليقين بأنه مع مرور الوقت سيرجع في كامل بهائه من جديد".

وتقودنا بويل من عصر استعمال القمر في اكتشاف الزمن والدين والحياة والموت إلى عصر استشكاف القمر نفسه، "عصر مركبات أبولو الفضائية حين أصبح القمر علامة السيادة السياسية".

والحق أن كتاب "قمرنا" يصدر في وقت يشهد استعار السباق الفضائي من جديد، فخلال الأسابيع الأخيرة من عام 2023 أصبحت الهند رابع بلد يهبط على سطح القمر، وكان ذلك بعد أيام قليلة من تحطم مركبة فضائية روسية استهدفت الوصول إلى قطبه الجنوبي، وأطلقت اليابان مهمتها الخاصة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وزعمت "ناسا" أن بشراً سيدبون مرة أخرى على سطح القمر بحلول عام 2025.

وتقول بويل إن القمر كان يوماً ميقاتياً وكان يوماً إلهياً، وعما قريب قد يحتل بالنسبة إلى البشر دوراً جديداً وهو دور المختبر الطبيعي أو المكان الذي تستخرج منه الموارد، وربما يوماً ما يصبح وطناً آخر".

وعلى رغم أنها لا تصرح بخوفها من دخول القطاع الخاص مجال استكشاف القمر أو استعماره بالأحرى، لكن مقالتها الحديثة في "نيويورك تايمز" لا بد من أن تثير في نفسك القلق، فالقمر في وعينا، وأهم منه لا وعينا، جميعاً ملكية عامة، أو إن شئنا تعبيراً أليق من الملكية، فهو بعض منا، نقبل أن تخفيه غيمة أو أن يختفي من تلقاء نفسه لبعض شؤونه، لكن لا ينبغي أن نقبل أو نسمح أو نتسامح مع أن يخفيه أحد بوضع اليد.

الكتاب: OUR MOON How Earth"s Celestial Companion Transformed the Planet، Guided Evolution، and Made Us Who We Are

تأليف: Rebecca Boyle

الناشر: Random House

المزيد من كتب