Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الضربات الأميركية... خيط رفيع بين الاستراتيجيا والتكتيك

إيران لن تردع لأنها تعتقد ألا فرصة لخوض الولايات المتحدة حرباً معها

مع الضربات الجوية الأميركية التي شملت 85 هدفاً في سبعة مواقع بالعراق وسوريا تحاول إدارة بايدن السير على خط رفيع (رويترز)

ملخص

إدارة الرئيس جو بايدن تواجه مشكلات في تحقيق أهدافها

على رغم الضربات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة في سوريا والعراق ضد الميليشيات التي تدعمها إيران في أكبر وأهم تورط أميركي مباشر، بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فإن تحقيق أهداف إدارة الرئيس جو بايدن بردع هذه الميليشيات عن شن هجمات مستقبلية وإرسال رسالة قاسية إلى إيران لا يزال محل شك، إذ تحاول إدارة بايدن إحداث نوع من التوازن بين تقويض قدرات الميليشيات وتجنب التصعيد، وهو مما يشكل صعوبة تفرضها السياسات الإقليمية المشحونة والاعتقاد أن استخدام القوة العسكرية بطريقة محسوبة ضد إيران أو وكلائها يمكن أن ينجح، فماذا وراء الضربات الأميركية؟ وهل يمكن اعتبار أهدافها استراتيجية أم تكتيكية؟

السير على خيط رفيع

ومع الضربات الجوية الأميركية التي شملت 85 هدفاً في سبعة مواقع بالعراق وسوريا، تحاول إدارة الرئيس بايدن السير على خط رفيع، فمن ناحية تسعى إلى إنهاء الهجمات التي بلغت نحو 165 هجوماً، منذ أكتوبر الماضي، لتظهر لكل من إيران ووكلائها أن هناك عواقب وخيمة مقابل قتل الجنود الأميركيين، وتسعى إلى تقويض قدراتهم على القيام بمزيد من الهجمات في المستقبل، وفي الوقت نفسه يريد بايدن طمأنة الأميركيين بأنه لن يقف مكتوف الأيدي في مواجهة هذه الهجمات وسط انتقادات لاذعة من الجمهوريين في واشنطن، ولكن أيضاً يريد تجنب التصعيد الذي ربما يؤدي إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط.

 

غير أن إدارة بايدن تواجه مشكلات في تحقيق أهدافها، إذ من الصعب ردع إيران من خلال ملاحقة وكلائها فقط، لأن أحد الأسباب التي تدفع إيران إلى العمل مع هذه الميليشيات هو اكتسابها القدرة على الإنكار، مما يسمح لها بالادعاء بأنها ليست مسؤولة عن أي هجمات مثلما حدث مع الهجوم الأخير على موقع "البرج 22" في الأردن، حين أنكرت إيران وأكدت "كتائب حزب الله" ألا شأن لطهران بالهجوم، على رغم أن إيران تمارس سيطرتها على بعض الوكلاء وتتمتع بنفوذ كبير على آخرين.

وعلى سبيل المثال يوجد مسؤول إيراني في مجلس قيادة ميليشيات "كتائب حزب الله" العراقية، بحسب ما ذكرت مجلة "فورين بوليسي"، كما استجابت هذه المجموعة لرغبات إيران في شأن وقف إطلاق النار في الماضي، وحتى بالنسبة إلى الحوثيين الذين يبدون أقل خضوعاً لسيطرة إيران من الناحية الشكلية، فإنها تسلحهم وتدربهم وتمولهم، مما يمنحها، في النهاية، نفوذاً مؤثراً لا يخفى على أحد.

هل تردع الهجمات إيران؟

على رغم التأكيدات الأميركية بأن إيران كانت تشعر بقلق بالغ قبل الضربات الأميركية في سوريا والعراق لدرجة أنها وضعت قواتها على أقصى درجات التأهب العسكري، فإنه ليس من المرجح أن أية عملية عسكرية أميركية من أجل استعادة الردع مع إيران يمكن أن تحقق هدفها، لأن طهران تعتقد بأنه لا توجد فرصة لأن تخوض الولايات المتحدة حرباً معها لأسباب عديدة، ليس أقلها أن الولايات المتحدة تستمر في قول ذلك علناً.

وما دام هذا الاعتقاد قائماً ستستمر طهران في خلق وتغذية وكلائها من الميليشيات المسلحة لاختبار حدود عزيمة القوى العظمى الأولى في العالم، بحسب العضوة السابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي كيرستن فونتنروز، بخاصة أن الهجوم المميت الذي وقع على القاعدة الأميركية في الأردن ضرب على وتر حساس في واشنطن، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي تقتل فيها طائرة "درون" أحد أفراد الجيش الأميركي، كما أنها المرة الأولى التي يقتل فيها فرد من الجيش أو مشاة البحرية الأميركية على يد قوة جوية معادية، منذ عام 1953، خلال الحرب الكورية.

وفي الوقت نفسه من المرجح أن إيران نظرت إلى هجوم "الدرون" على أنه مجرد انتقام لقتل قيادات من "الحرس الثوري الإسلامي" في دمشق قبل أسبوع على يد إسرائيل شريكة الولايات المتحدة، على رغم أن الجنود الأميركيين الذين قتلوا في الهجوم كانت مهمتهم القتال ضد تنظيم "داعش" الذي نفذ هجوماً على الأراضي الإيرانية، في الثالث من يناير (كانون الثاني)، وحذرت الولايات المتحدة طهران منه باستخدام معلومات استخباراتية جمعها الجنود الأميركيون في المنطقة، كما أن الأرواح التي تم إنقاذها في إيران بهذه المعلومات كانت لأعضاء في "الحرس الثوري الإيراني" الذي يمول ميليشيات "كتائب حزب الله" التي قتلت الجنود الأميركيين.

كيف قرأت طهران الرد الأميركي؟

يشعر صناع القرار في طهران أن إدارة بايدن تكره المخاطرة بالتصعيد في عام الانتخابات، وهم على حق في ذلك بالنظر إلى ما أعلنه الرئيس الأميركي وكبار المسؤولين الأميركيين بأن واشنطن غير راغبة في التصعيد مثل إيران، لكن بقدر ما لا يريد الناخبون الأميركيون جر الولايات المتحدة إلى حرب أخرى في الشرق الأوسط، فإن سوء تقدير طهران يكمن في أن رد فعل الجمهور الإيراني على مقتل أحد أعضاء الحرس الثوري الإيراني، يختلف عن رد فعل الجمهور الأميركي في شأن مقتل أفراد الخدمة العسكرية الأميركيين، إذ يحظى الأمر في الولايات المتحدة باهتمام بالغ وأصبح نقطة حرجة من شأنها أن تمنح الرئيس الأميركي صلاحيات أعظم نتيجة لذلك.

وإذا لم تردع الضربات الأميركية الكثيفة ضد قدرات "الحرس الثوري الإيراني" ووكلائه في العراق وسوريا كلاً من إيران ووكلائها، فمن الممكن لإدارة بايدن، في الأيام المقبلة، إضافة الأصول الإيرانية خارج إيران إلى قائمة أهدافها إذا تطلب الأمر ذلك، بخاصة أن استهداف الحوثيين المستمر للسفن الأميركية يمكن أن يشجع إدارة بايدن على إدراج السفن الإيرانية التي تعبر البحر الأحمر كأهداف محتملة من دون اعتبار ذلك تصعيداً.

ومع ذلك، يظل استهداف الأراضي الإيرانية بصورة مباشرة يشكل مخاطرة برد إيراني أكبر، مما قد يخلق دورة تصعيدية من القتال، إذ سيكون من الصعب على النظام الإيراني أن يتعرض لهجوم عسكري ولا يفعل شيئاً، بخاصة أن طهران ألزمت نفسها مقدماً الرد على أي هجوم أميركي.

ما سيفعل وكلاء طهران؟

ربما يقوم وكلاء إيران بتصعيد هجماتهم ضد الولايات المتحدة رداً على الهجمات إذا احتفظوا ببعض القدرات القتالية وهو أمر محتمل إلى حد كبير، مما يستتبعه رد قاس آخر من القاذفات الأميركية الثقيلة في ظل تعهد إدارة بايدن بموجات متتالية من الهجمات لأيام وربما أسابيع، مما قد يؤدي إلى زيادة تنفير الرأي العام في العراق، إذ تجنبت الجماعات المسلحة العراقية التي تسيطر عليها إيران مهاجمة السفارة الأميركية لدى بغداد، على رغم أنها تستطيع القيام بذلك بسهولة، وستواجه الحكومة العراقية كذلك مزيداً من الضغوط لإنهاء الوجود العسكري الأميركي بسرعة أكبر.

ومع ذلك، من المرجح أن تسعى إيران وعديد من وكلائها إلى تجنب حرب أكبر عبر الرد على الضربات الأميركية، في الأقل حالياً، بخاصة أن "كتائب حزب الله" اتخذت بعد هجومها في الأردن خطوة نادرة بإعلانها أنها ستعلق هجماتها، وهو القرار الذي وافقت عليه طهران على ما يبدو لأنها تعرف أن جيشها ليست لديه فرصة للفوز في معركة ضد الولايات المتحدة بصورة مباشرة حال انفلات الأوضاع عن إطارها المحفوف بالخطر.

لماذا امتنعت أميركا عن ضرب إيران؟

انتقلت الإدارة الأميركية بالضربات الأخيرة إلى مرحلة جديدة من جهودها لإدارة الصراع الآخذ في الاتساع، فقد نفذت ما وصف بالرد المتدرج عبر ضرب أهداف متعددة من الجو استخدم خلالها "البنتاغون" قاذفتين من طراز "بي-1"، غادرتا قاعدة "دايس" الجوية في تكساس، في وقت مبكر من الجمعة، وقطعتا رحلة تزيد على نحو 9656 كيلومتراً بعد تزويدهما جواً بالوقود لإنزال حمولتهما الثقيلة من صواريخ "كروز" وغيرها من الذخائر الدقيقة من سماء العراق وسوريا فيما وصف باستعراض للقوة العسكرية الأميركية.

وفي حين كان بايدن وكبار مساعديه مترددين في اتخاذ خطوات يمكن أن تجر الولايات المتحدة إلى حرب أوسع في منطقة غير مستقرة إلى حد كبير، بخاصة أن الإدارة لا تريد أن تصبح الحرب بالوكالة الجارية مع إيران صراعاً أكثر أهمية، فإن الضربات الأخيرة جعلت هذا الاحتمال أقرب مما كان عليه في السابق.

لكن يبدو أن الإدارة الأميركية توصلت إلى قناعة بأن الضرب داخل إيران لن يغير مسار النظام الذي تتمثل أهدافه في إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، والتحول إلى قوة إقليمية في نظام عالمي جديد، بينما تتجاهل اللغة التي يستخدمها تحقيق رخاء الشعب الإيراني أو السلام في الشرق الأوسط، من ثم فإن الخسارة المحتملة في الأرواح الإيرانية المحتملة في حال الصراع مباشرة مع الولايات المتحدة لن تحركهم، بل إن الضرب داخل إيران يمكن أن يقدم خدمة للنظام الذي يحتاج إلى شيطنة عدو خارجي في وقت ستواجه فيه إيران انتقالاً في القيادة على أعلى مستوى بعد وفاة المرشد الأعلى علي خامنئي، البالغ من العمر 84 سنة، وهو ما سيخلق أكبر فترة من الضعف واجهها النظام.

ومن المؤكد أن السلطة في إيران ستحتاج إلى جمع الشعب الإيراني لدعم سياسة النظام لفترة كافية من شأنها أن تقلل خطر تحدي قبضتها على السلطة حينما يكون مستقبل السلطة الدينية الثيوقراطية في حالة تغير مستمر، وربما يعتقد النظام أن الضربات الأميركية ستحفز الشارع الإيراني حول موجة قومية يستطيع أن يركبها خلال الفترة الانتقالية.

أهداف استراتيجية أم تكتيكية؟

ويبدو أن الولايات المتحدة تدرك تماماً أن الضربات الأخيرة لن تؤدي، على رغم كثافتها وتكرارها، إلى وقف تام لهجمات الجماعات الوكيلة لإيران على القوات الأميركية، لكنها تطمح في تقويض هذه الهجمات وإضعافها، لهذا، فهي لا تركز على هذا الهدف التكتيكي، وتصب جهودها أكثر على هدفها الاستراتيجي، إذ تأمل الإدارة أن يؤدي إنهاء الصراع في غزة، في نهاية المطاف، إلى إنشاء دولة فلسطينية وتراجع النفوذ الإيراني وتحقيق سلام أشمل في المنطقة، وهي ترى أن التقدم الدبلوماسي نحو تبادل الأسرى وإنهاء الحرب بين إسرائيل و"حماس" سيكون بمثابة فوز استراتيجي للولايات المتحدة وأصدقائها في المنطقة، وسيكون بمثابة ضربة لإيران وحلفائها، الذين كانوا يحرزون تقدماً كبيراً طوال فترة الصراع المتواصل.

ولهذا لم يكن مستغرباً، وسط الاضطرابات الإقليمية، أن يقوم وزير الخارجية أنتوني بلينكن بزيارته الخامسة إلى الشرق الأوسط منذ بدء حرب غزة، لأن أفضل سبيل لخدمة مصالح الولايات المتحدة ومصالح الأمن والاستقرار يتلخص، بحسب رئيس معهد الشرق الأوسط بول سالم، في مضاعفة الجهود الدبلوماسية التي جعلت إسرائيل و"حماس" على مقربة شديدة من تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار لمدة شهرين، إذ يمكن لمثل هذا الاختراق الدبلوماسي وخفض التصعيد أن يرسي الأساس لوقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب في غزة، إضافة إلى تعزيز الجهود الرامية إلى تقديم مساعدات إنسانية وطارئة على نطاق واسع لشعب غزة، وعلى المدى المتوسط، قد يتيح ذلك إحراز تقدم في التفاوض على وضع الحكم في غزة بعد الحرب بقيادة السلطة الفلسطينية، وفتح طريق لإحياء المحادثات الإسرائيلية - الفلسطينية - العربية نحو حل الدولتين وسلام أوسع.

ومن شأن وضع حد للحرب بين إسرائيل و"حماس" أن يحبط إيران بطريقتين، أولاً، سيزيل الغطاء الذي يستخدمه النظام لتعزيز مظهر القوة محلياً، والذي يتيح له قمع المعارضة قبل فترة انتقال القيادة من علي خامنئي إلى من يخلفه، بخاصة أن المشرعين في طهران يعملون على مشروع قانون من شأنه أن يزيد صلاحيات "الحرس الثوري الإيراني" وميليشيات "الباسيج" التابعة للنظام، التي استخدمت في إعدام عدد من المشاركين في احتجاجات عام 2022.

ثانياً، سيزيل إنهاء الصراع في غزة أي مبرر للأعمال العنيفة التي يقوم بها وكلاء إيران في جميع أنحاء المنطقة، في الأقل وفقاً لما يعلنونه كمهمة خاصة لهم وسيتعين على إيران ووكلائها العثور على شيطان خارجي جديد.

المزيد من تحلیل