Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة اليرموك والنظام العالمي الجديد

هكذا غير انتصار المسلمين وانكسار الإمبراطورية البيزنطية مسار التاريخ وتعددت الروايات حول سبب عزل القائد المنتصر خالد بن الوليد

فرسان عرب في طريقهم إلى المعركة، لوحة بريشة جان ليون جيروم (متحف الفن الفرنسي)

ملخص

هكذا غير انتصار المسلمين وانكسار الإمبراطورية البيزنطية مسار التاريخ وتعددت الروايات حول سبب عزل القائد المنتصر خالد بن الوليد

وصفها كبار المؤرخين شرقيين وغربيين بأنها المعركة التي غيّرت مسار التاريخ، ووضعت مرتكزات بناء نظام عالمي جديد، ذلك لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، وأدت إلى تقدم جيوشهم بسرعة كبيرة في بلاد الشام.

حتى الساعة يتساءل القادة العسكريون الكبار: كيف أمكن لجيش لا يزيد عدده على 36 ألف جندي، أن يهزم جيشاً يبلغ عديده نحو ربع مليون جندي؟

هل كانت جذوة الإيمان المشتعلة في صدور الجنود المسلمين هي العامل الأول والأكبر في هذا الانتصار، أم إن الخطط العسكرية غير العادية التي وضعها خالد بن الوليد، ذلك القائد العسكري الفذ، هي التي مكنت جيش المسلمين البازغ في شبه الجزيرة العربية، من هذا الفوز الكبير؟

على جانب آخر، يتساءل بعض المؤرخين: لماذا تراجع هرقل، عن قيادة جيوش بلاده، وأوكل المسؤولية لأخيه، ما الذي كان يخيفه من ملاقاة هؤلاء الرجال؟

لا تنتهي التساؤلات المهمة والعميقة حول هذه المعركة، ومنها ذلك السؤال المحير عن الأسباب التي أدت إلى عزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش في أوج انتصاره بقرار من الخليفة عمر بن الخطاب؟

هنا محاولة لتقصي وقائع ما جرى في معركة اليرموك عام 15 هجرية (636 ميلادية).

الطريق إلى مواجهة البيزنطيين

لا تبدو معركة اليرموك وكأنها نشأت من فراغ أو في فراغ، بل هي نتاج سلسلة متصلة من العمليات العسكرية التي تم التخطيط لها من قبل جيش المسلمين، على رغم قلة العدد، وعدم الخبرة العميقة في مواجهة جيوش الإمبراطوريات الكاسحة، كما الحال مع الإمبراطورية البيزنطية، التي تشكل الجناح الشرقي من الإمبراطورية الرومانية.

على أن ما ميز ذلك الجيش الصغير الوليد، هو استخدام استراتيجيات الحرب الفاعل والناجزة، عوضاً عن القوة المجردة للتعامل مع مقاييس الدفاع البيزنطية.

سبق التعامل مع الشام، والوصول إلى اليرموك، سلسلة من الحروب الداخلية التي عرفت بحروب الردة، في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، الذي وحد الجزيرة العربية تحت السلطة المركزية للخلافة، واتخذ من المدينة المنورة مقراً لها.

حين استتبت الأمور وتمكن من بسط السيادة على كافة الأراضي العربية، فكر أبوبكر أول الأمر في العراق، التي كانت تعتبر المحافظة الأغنى ضمن محافظات الإمبراطورية الفارسية، وكان ذلك من خلال إرسال جيش بقيادة خالد بن الوليد، أكثر جنرالات العرب دهاء وذكاء، الذي نجح نجاحاً باهراً في عدة معارك ضد الفرس الساسانيين.

بعد نهاية انتصارات المسلمين في العراق، وتأسيس معقل قوي هناك، بدأ أبوبكر في إطلاق نداء لتأسيس جيش لا يصد ولا يرد، يقوم بغزو الشام.

لماذا قرر أبوبكر القيام بهذه الغزوة المهمة؟

الشاهد أن الخليفة الأول اتخذ هذا القرار بعد أن هاجم البيزنطيون جيش بن العاص، المعسكر في أرض تيماء، مما دعاه إلى توزيع جيش المسلمين على أربعة جيوش، ووجه كل منها إلى جزء مختلف من بلاد الشام.

كان قوام كل جيش نحو 8 آلاف جندي. وجه الجيش الأول منه إلى وادي الأردن، والثاني إلى دمشق، والثالث إلى حمص، والرابع إلى فلسطين.

كانت رؤية أبي بكر أن يعمل كل جيش على حدة، وأن لا تجتمع الجيوش الأربعة ما لم تكن هناك حاجة مهمة، غير أن هذه الخطة لم تدم طويلاً، ذلك أنه بمجرد وصول جيش الشام، وجد جيش البيزنطيين بأعداد هائلة، ولهذا كان من الصعب العمل بشكل منفرد، مما دعا الجيوش الأربعة إلى الالتئام، بل طلبوا مزيداً من المدد من أبي بكر، فأرسل إليهم خالد بن الوليد عبر بادية الشام، لينظم الصفوف ويجمع القوات من كل الجهات. وفي طريقه قام بعدد من الفتوحات المهمة، وحقق انتصارات يذكرها التاريخ مثل موقعة "مرج راهط"، تلك التي هزم فيها الغساسنة، وفتح مدينة بصرى.

لم يمهل القدر أبا بكر أن يكمل معركته الكبرى مع البيزنطيين، فقد توفي في عام 13 هجرية 634 ميلادية، وخلفه عمر بن الخطاب، الذي سيتابع ما بدأه سلفه على هذا الطريق.

في الطريق إلى اليرموك

يدرك الذين لهم باع في العلوم العسكرية الاستراتيجية أن هناك قاعدة تسمى "المركز والتخوم"، وأنه كلما تساقطت التخوم، يضحى المركز ضعيفاً جداً، ولهذا فقد كان سقوط مدن مثل حمص (سوريا) وبعلبك (لبنان)، أمراً يسيراً بعد أن سقطت دمشق.

هنا بات من الواضح أن جيش الروم قد أصبح أكثر ضعفاً، مما دعا هرقل ملك الروم إلى حشد كل قواته في منطقة أنطاكية وشمال الشام استعداداً لمعركة حاسمة، بعد أن جعل من تلك المدينة المهمة والمشهورة مركزاً متقدماً لقيادة جيوشه.

بدا واضحاً لهرقل أنه في مواجهة معركة مصيرية مقبلة، ولهذا أخذ في إصدار قرارات تدعو للتجنيد الإجباري في كل ربوع الإمبراطورية البيزنطية، فأرسل الأوامر لحكام الولايات بتجنيد كل رجل بلغ الحلم.

يصف المؤرخون مشهد الجيش البيزنطي بعد أوامر هرقل، بات يضم أعداداً من البشر لا تطيق الأرض تحملها.

هل كان من الوارد أن يقوم هرقل بالانسحاب أو الاستسلام بسهولة أمام جيش المسلمين؟

بالقطع أدرك الرجل أن هناك بلغة عصرنا الحاضر، "معركة قطبية"، قائمة وقادمة، بين المهيمن والقابض بقوة على المشهد الإمبراطوري في المنطقة، وبين من يحاول أن يجد له موضعاً وموقعاً كقوة وليدة نامية.

في البداية بدا واضحاً أن هرقل لم يكن له رغبة حقيقية في مواجهة جيش المسلمين مرة جديدة، غير أن أهل الجزيرة في الشام، وسكان منطقة قنسرين وشمال أراضي الشام، ضغطوا عليه رغبة منهم للانتقام من هزائم المعارك السابقة، ولهذا قبل بمواصلة القتال حال ظهور العرب المسلمين مرة جديدة، وقد هددهم بأنه سيعود إلى القسطنطينية إن لم يظهروا.

جهز هرقل جيشه بالمال والعتاد اللازمين لعجلة المعركة الكبرى المنتظرة، وقد أغدق العطاء على قائد جيشه "فاهان"، فأعطاه نحو 200 ألف درهم، ثم أعطى لكل قائد قرابة 100 ألف درهم.

ولما كان هرقل قائداً عسكرياً صنديداً، فقد علم أن الأموال وحدها لا يمكنها أن تربح المعركة، ما لم تكن هناك إرادة وعزيمة قويتان، ومن هنا وجه خطاباً لجنوده قال فيه: "يا معشر الروم، إن العرب قد ظهروا على الشام ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيداً، فامنعوا حريمكم وسلطانكم وكل ما ملكتم عنهم".

كانت استعدادات البيزنطيين هائلة، ولكنها لم تخف عن أعين استخبارات المسلمين، الذين اكتشفوا بحلول مايو (أيار) من عام 636م. أن هرقل قد جمع قوة كبيرة في أنطاكيا شمال سوريا، إذ تألف جيشه من قبائل السلاف والفرنجة والجورجيين والملكانيين من عرب الشام، وكيف أن هذه القوة قد تم تنسيقها وتوزيعها إلى خمسة جيوش، وقد أشرف هرقل شخصياً على العملية من مدينة أنطاكيا، مما يفتح باباً مهماً للتساؤل، قبل الولوج إلى عمق المعركة: هل كان في نفس هرقل شك من أن تقع بجيوشه الهزيمة، في المعركة المقبلة مع المسلمين، على رغم ضآلة عددهم، وكثرة عديد جيوشه وتسلحها بأسلحة متقدمة ذلك العصر، تفوق كثيرا ما لدى جيش المسلمين، ولهذا فضل القيادة من أنطاكية، وعدم تقدم صفوف جيشه كما كان يفعل قادة المسلمين العسكريين مثل خالد بن الوليد؟

حكماً يأخذنا الجواب إلى التوقف عند شخصية هذان القائدان، وتبيان الفارق بينهما، مما سيحدد مآلات معركة اليرموك.

عن هرقل وقراره المتخاذل

اسمه بالكامل بحسب دائرة المعارف البريطانية، فلافيوس أغسطس هرقل، إمبراطور الإمبراطورية البيزنطية، الذي بدأ صعوده إلى السلطة عام 608 ميلادية.

ولد لأب قائد عسكري أسطوري هو "هرقل الكبير"، وتشير المصادر التاريخية إلى أن أصوله أرمينية في كبادوكية.

شهد عهد هرقل عديداً من الحملات العسكرية، ففي العام الذي توج فيه، كان جيش الإمبراطورية الساسانية قد بلغ قلب الإمبراطورية البيزنطية في الأناضول، ولذلك كان هرقل المسؤول الأول عن إصلاح سياسة الدولة، وتعبئة الجيش، ومن ثم محاربة الفرس الساسانيين.

وعلى الصعيد الديني، تشيد مصادر بتاريخه كقوة دافعة في نشر المسيحية في البلقان، وبناء على طلبه أرسل البابا يوحنا الرابع معلمين ومبشرين مسيحيين إلى مقدونيا وكرواتيا، كما حاول إصلاح الصراع الحاصل في المجتمع والكنيسة حول مجمع خلقيدونية.

والثابت أنه رغم شجاعته السابقة في صراعه مع الفرس، حيث قاد كل الحملات العسكرية بنفسه وكان على رأس الجيوش التي حققت انتصارات كبيرة، فإنه تخلى عن قيادة الجيوش البيزنطية ضد المسلمين.

حاول في بداية الأمر ومثلما أشرنا قيادة جيوشه من أنطاكيا، لكن الأمر لم يفلح، وبقي على حاله من غير أن يعدل موقفه، مما طرح تساؤلاً على المؤرخين الكبار: لماذا تخاذل هرقل هذه المرة، وهل كانت له مخاوف خاصة من جيوش المسلمين وقادتهم، أم إن الأمر يعزى إلى أسباب أخرى غير ظاهرة؟

يرجع المؤرخ العسكري الألماني كريستيان هارتمان، المولود في ألمانيا عام 1959، تقاعس وضعف هرقل أمام جيوش المسلمين الفتية الصاعدة، إلى "الصعوبات المستمرة التي رافقت حكمه من دون توقف مما جعل قواه الجسدية والنفسية تخور، وأنه قد أصبح فريسة للمرض والخوف والشعور باليأس".

أما البروفيسور جون هالدون، الباحث المتخصص في الدراسات البيزنطية، المولود عام 1949، فيرجع تراجع هرقل عن قيادة جنوده إلى: "حاجة البيزنطيين إلى إدراك حقيقة ما حدث من تغيرات في شبه الجزيرة العربية، كسبب في هزائمهم المتتالية عسكرياً، لا سيما أنهم شغلوا بالحرب في ما بينهم، ولم يراقبوا من كثب ما كان يحدث من حولهم".

هل كان قائد جيوش المسلمين في تلك الآونة، الذي سيخلد التاريخ اسمه في المعركة الكبرى في اليرموك، على النقيض من توجهات هرقل العسكرية، مما سيغير موازين المعركة؟

 خالد بن الوليد "سيف الله المسلول"

تبدو قصة خالد بن الوليد وكأنها نوع من أنواع الأساطير، والتساؤل: كيف تحول هذا الرجل الذي عرف بشركه، إلى قائد من كبار قادة جيوش المسلمين، ورجل الانتصارات التي لا تضارع في تاريخ العسكريات البشرية؟

وقد بلغ من خوف وهلع جيش الروم، كما تقول بعض الروايات التاريخية، إنه خلال معركة اليرموك، أن خرج أحد قادة الروم ويدعى "جرجه"، خرج من بين صفوف جنده، وطلب من خالد الحديث معه، فخرج إليه خالد. فقال "جرجه": "أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاه لك فلا تسله على أحد إلا هزمته؟"، فقال خالد: "لا".

فسأله "جرجه": "’فيم سميت سيف الله؟’ فرد عليه خالد قائلاً: "إن الله بعث نبيه محمداً، فدعانا للإسلام فرفضنا دعوته، وعذبناه، وحاربناه، ثم هدانا الله فأسلمنا، فقال الرسول: "أنت سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين، ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين".

وتقول بقية الرواية التاريخية، إن "جرجه" سأله عن دعوته، وعن فضل من يدخل في الإسلام، وبعد حوار طويل بينهما، شرح الله صدره للإسلام، فأسلم وتوضأ وصلى ركعتين مع خالد بن الوليد، ثم حارب مع صفوف الإيمان، فقتل على دينه الجديد.

وفي ظل النعماء الممتدة، وميراث بني مخزوم في ميدان الحروب وقيادتها العسكرية على رقاب قريش نشأ خالد نشأة عسكرية أصقلتها التجارب.

كان من حظ خالد، أن أباه الوليد بن المغيرة المخزومي، كان من أغنى أغنياء قريش، فيحكى عنه أنه كان يكسو وحده الكعبة عاماً، وتكسوها قريش عاماً آخر.

قبل بضعة أشهر انتشر على شبكة "الإنترنت"، تسجيل مصور للبروفيسور الأميركي الشهير "روي كاساغراند" أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوستن ولاية تكساس بالولايات المتحدة، يشرح فيه عبقرية خالد بن الوليد العسكرية في عديد من المعارك، ويبين بنوع خاص فتوحات العراق التي قادها بنفسه، لا سيما معركة "الفراض" حين اتحد الفرس والروم على مواجهة المسلمين في المنطقة الواقعة اليوم بين الحدود العراقية - السورية، بين مدينتي القائم العراقية والبوكمال السورية، وذلك أواخر عام 12هـ/ 634 م، وقد انتشر مقطع هذا البروفيسور الأميركي انتشاراً واسعاً، لأنه قارن بين حجم قوات المسلمين الضعيف عددياً في تلك المعركة، وضعف معداتهم العسكرية مقارنة بالروم والفرس حينها، فضلاً عن وعورة المنطقة عسكرياً، وعلى رغم كل ذلك استطاع خالد بن الوليد أن يفتح غربي العراق بأكمله، مع انتصاره الباهر في تلك الموقعة.

هل كان النصر الكبير المؤازر لخالد بن الوليد وجيوش المسلمين في معركة اليرموك، قدراً مقدوراً؟

اليرموك... معركة الأيام الـ6

يدهش المرء من التنظيم والاستعداد الذي أعده وأشرف عليه خالد بن الوليد، استعداداً لبدء المعركة، فقد بدا وكأن خالداً خريج كبريات المعاهد العسكرية العالمية في حاضرات أيامنا.

إذ أعاد تنظيم الجيش بعد أن تولى قيادته رسمياً، فجعل ربعه من الخيالة، وكانوا نحو 10 آلاف فارس، وتالياً قام بتقسيم الجيش إلى نحو 36- 40 كردوساً، أي كتيبة من المشاة، وزعت على أربعة ألوية، وكان قادة الأرباع: أبوعبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص.

استخدم ابن الوليد المبدأ الاستراتيجي "الحرب خدعة"، ومن هنا اهتم اهتماماً خاصاً بأعين الاستطلاع، فجعل لكل لواء مجموعة من تقوم بمراقبة أرض المعركة كاملة.

كان خط الجبهة يمتد على مسافة 18 كيلومتراً، بحيث يتجه المسلمون غرباً في مواجهة الروم، وإلى الجنوب إلى يمين الجيش الرومي يمر نهر اليرموك، وشمالاً على بعد أميال باتجاه الجنوب الغربي، هناك وادي الرقاد.

وكل خالد كلاً من قيس بن هبيرة قيادة فرقة الخيالة التي تلعب دور الوحدات الاحتياطية للتدخل في حال أي تراجع ممكن للألوية الإسلامية. وكان ضرار بن الأزور ينوب عن خالد في قيادة الوحدة المتنقلة حال انشغل خالد في الأعمال القتالية في المعركة.

أمر خالد قائد قلب الجند أبا عبيدة بن الجراح، بأن يتأخر حتى يكون خلف الجيش، فإذا انهزم أحد جند المسلمين ثم رآه استحيا منه، وعاد للقتال.

في الوقت عينه وضع أبوعبيدة مكانه سعيداً بن يزيد، أحد الـ10 المبشرين بالجنة، ثم تبارز الجمعان بعد أن خطب بالمسلمين أبوعبيدة، وأخذ جيش الميسرة موضع جيش الميمنة، وأعملوا سيوفهم في جيش الروم حتى أثقلوا فيهم، ثم أخذ جيش الميمنة مكان الميسرة.

بدأت المعركة في يوم 15 أغسطس (آب) 636م، مع حلول الفجر اصطف الجيشان للقتال يفصلهما أقل من مسافة ميل واحد.

بدأ الروم في إرسال مبارزيهم المدربين جيداً، غير أن مبارزين المسلمين بدورهم كانوا مدربين بشكل خاص على السيوف والرماح لقتل أكبر عدد ممكن من قادة العدو، وذلك من أجل تثبيط عزيمتهم، وفي منتصف النهار، وبعد خسارة عدد من القادة في القتال الثنائي، أمر "فاهان" قائد جيش الروم بهجوم محدود من ثلث قوات جيشه من المشاة لتجربة  قوة استراتيجية جيش المسلمين، وهل بالإمكان إحداث ثغرة  في أي منطقة ضعيفة في المعركة.

بدا واضحاً أن جيش البيزنطيين، يفتقد إصرار كثير من جنوده الذين لم يكونوا معتادين على القتال على النحو الحاضر، كما لم يتمكنوا من ممارسة الضغط على الجنود المسلمين المحنكين.

كان القتال بصورة عامة معتدلاً، على رغم من أنه في بعض الأماكن كان شديداً، فيما لم يقم "فاهان"، بدعم مشاته المتقدمين، حيث بحلول الغروب كسر كلا الجيشين التماس، وعاد كل إلى مخبئه، وبذلك كانت نهاية اليوم الأول من المعركة.

دامت المعركة أربعة أيام، كانت البطولة الواضحة فيها لفرقة خالد الخاصة، والمعروفة باسم "سرية الخيول المتحركة السريعة"، التي كان يقودها بنفسه، لينتقل بسرعة خاطفة من مكان إلى آخر حيث يكون جيش المسلمين في تراجع تحت ضغط الروم.

جرى الأمر على هذا النحو خلال الأربعة أيام الأولى، كانت خسائر الروم فيها بأعداد أكبر من خسائر جيش المسلمين، وفي اليوم الخامس لم يحدث شيء كثير بعد رفض خالد "هدنة ثلاثة أيام"، التي عرضها الروم بقوله المشهور لرسول الروم: "نحن مستعجلون لإنهاء عملنا هذا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي اليوم السادس حدثت المفاجأة

وبالوصول إلى اليوم السادس، يوم الحسم، تحولت استراتيجية خالد من الدفاع إلى الهجوم، وتمكن بعبقريته من شن الهجوم المجازف على الروم، واستخدام الأسلوب العسكري الفريد من نوعه وهو الاستفادة الصحيحة من إمكانات "سرية الفرسان السريعة التنقل"، ليحول الهزيمة الموشكة للمسلمين إلى نصر مؤزر.

لم يكتف خالد بهزيمة الروم في وادي اليرموك، إذ أخذ في ملاحقة البيزنطيين المنسحبين، حيث لاقاهم قرب دمشق وقام بمهاجمتهم، وهناك قتل القائد العام للجيش الإمبراطوري "فاهان" الذي كان قد هرب من المصير المحتوم الذي لاقاه بقية جنوده أثناء المعركة.

على أنه بعد الانتصار العسكري الساحق لجيوش المسلمين في معركة اليرموك، وبحسب عدد من المؤرخين، حدث ما تم اعتباره مفاجأة مثيرة وربما خطرة، فقد جاء أمر الخليفة عمر بعزل خالد بن الوليد من قيادة الجيش، وهنا تبدو علامة الاستفهام دافعة للتفكير، فاختلف المفسرون في تقديم جواب شاف واف عنها: لماذا عزل عمر خالداً؟

يقول البعض إن الخليفة عمر عزله لكي لا يُفتن به المسلمون لانتصاراته المتوالية.

وهناك مروية تقول إن عمر قال عن خالد "لا يلي لي عملاً أبداً".

اختلف المؤرخون كذلك في وقت وصل فيه قرار عمر بعزل خالد، وهل كان خلال حصار دمشق أم خلال معركة اليرموك؟

وهناك من ذهب إلى أن عمر عزل خالداً بسبب إنفاقه من أموال الغنائم من دون الرجوع إليه، كما روى الزبير بن بكار الذي قال "كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى الخليفة حساباً".

وبين هذا وذاك طرح البعض علامة استفهام حول بقايا ضغائن تعود إلى عصر الجاهلية، ربما كانت السبب المباشر في مسألة الإزاحة التي تعرض لها خالد المخزومي ذو الحسب والنسب.

لكن كل ذلك، لا ينفي أن معركة اليرموك كانت من أعظم المعارك الإسلامية، وأبعدها أثراً في حركة الفتح الإسلامي، فقد لقي جيش الروم، أقوى جيوش العالم يومئذ، هزيمة قاسية، وفقد زهرة جنده، وقد أدرك هرقل الذي كان في حمص حجم الكارثة التي حلت به وبدولته، فغادر سوريا نهائياً وقلبه ينفطر حزناً، وقد ترتب على هذا النصر العظيم أن استقر المسلمون في بلاد الشام، واستكملوا فتح مدنه جميعاً، ثم واصلوا مسيرة الفتح الشمالي إلى أفريقيا.

في هذا المجال يتساءل بعض المؤرخين: هل كانت هذه المعركة بداية لنظام عالمي جديد؟

مؤكد أن العالم البيزنطي القديم، قد أخذ في التواري، وسوف تمتد من بعد هذه المعركة معارك أخرى تبدأ من عند مصر في أقصى الطرف الشرقي للقارة الأفريقية، وسيقدر لجيوش المسلمين أن تصل إلى الأندلس، وتبقى هناك مئات السنين، مما يعني أنها معركة خلّفت وراءها عالماً قديماً، وفتحت الطريق نحو عالم جديد.

المزيد من تحقيقات ومطولات