Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بول أوستر السبعيني متأملا في صراع الحب والفقدان

في روايته الجديدة "بومغارتنر" يستعيد فصولاً من ماضيه وحياته المأسورة بالكتابة

الروائي الأميركي بول أوستر (صفحة الكاتب - فيسبوك)

منذ كتابه الأول، "ابتكار العزلة" (1982)، الذي تناول فيه علاقاته الصعبة بوالده وابنه، وزواجه الفاشل من الكاتبة ليديا دايفيس، عرف الكاتب الأميركي بول أوستر (يعاني من مرض السرطان كما أشيع أخيراً مع تكتم شديد)، كيف يفتن قرّاءه سواء بنثره الآسر أو بالنظرة البصيرة التي يلقيها على حياته الخاصة، الحاضرة دوماً في أعماله، وإن بطُرُق ودرجات مختلفة، وعلى الحياة عموماً، بكل ما يكتنفها من أحداث سعيدة وتعيسة، مع هوس بتلك غير المتوقعة، القادرة على الهبوط بنا إلى دَرَك الجحيم، أو على انتشالنا منه وجعلنا نتذوّق نشوة الوجود.

بلغ أوستر عامه الـ 77، ومنذ عمله الأول المذكور، وضع 8 مجموعات شعرية، 13 بحثاً في موضوعات مختلفة، ثلاثة سيناريوهات أفلام، وخصوصاً 18 رواية رائعة، غالباً بصيغة المتكلم، وبتطلعات ما بعد حداثية، تتجلى تحديداً في تفكيكه الحاذق لفن السرد التقليدي. روايات مختلفة الواحدة عن الأخرى، لكنها تتقاسم جميعاً خصوصيات خيالٍ واحد وجامح، يقولب الواقع المقارَب على هواه، ويمنح نثرها مذاقه الفريد. خيال يحضر بكل محرّكاته ووهجه في روايته الجديدة، "بومغارتنر"، التي صدرت حديثاً في نيويورك عن "منشورات غروف"، ويلجأ أوستر فيها إلى بطل يشبهه إلى حد بعيد، لكن من دون أن يكون مطابقاً له، للتأمل في فصول من حياته السابقة والحالية، وكشف ما يدور في ذهن رجل سبعيني، مثله، ومن خلال ذلك، تشييد صرح روائي جديد نتسلّق أدراجه ونتنقل في أرجائه بمتعة نادرة.

بطل الرواية، بومغارتنر، أستاذ فلسفة سبعيني في جامعة برينستون، لا يزال تحت وقع موت زوجته آنا غرقاً قبل عشر سنوات. ولا عجب في ذلك حين نعرف أنه كان يحبها بجنون، وتوسّلها في ذلك اليوم المشؤوم الذي أمضياه على الشاطئ، ألا تعاود السباحة في البحر، بعدما ارتفعت أمواجه بسبب الرياح. لكن بما أنها لا تصغي إلا إلى نفسها، لفظها البحر بعد دقائق جثةً هامدة. ولذلك، بعد عشر سنوات على هذه المأساة، نرى بومغارتنر حزيناً في صباح يوم عادي، حين تتوالى حوادث عدة تعزز مزاجه المعتم أصلاً. يحرق يده بمقلاة رافقته منذ لقائه بآنا، يعلم أن زوج مدبّرة منزله فقد إصبعين من يده اليمنى أثناء حادث عمل، ويتعرّض لسقوط عنيف على الدرج الذي يؤدي إلى الطابق السفلي من منزله، لدى مرافقته عامل شركة الكهرباء، إد، لقراءة العدّاد.

فلسفة وحب

على رغم البحث الذي يكتبه عن الفيلسوف كيركيغارد، يعجز بومغارتنز عن فعل أي شيء من دون التفكير بحبيبته آنا. إذ لم تكن فقط جميلة وذات سحر كان يجعل الرجال في السهرات يلتفون حولها، بل كانت تكتب أيضاً نصوصاً شعرية وقصصية من دون أن تكترث لنشرها. ولهذا السبب، يجد بومغارتنر نفسه أمام عشرات المخطوطات التي بقيت على مكتبها، بعد وفاتها. وفي لحظة حنين لا تقاوم، يقرر في ذلك اليوم قراءة واحد منها، فيجلس على كرسيها، داخل غرفتها التي تركها كما غادرتها، ويتناول المخطوط الأول الذي تقع يده عليه. هكذا، نقرأ معه واحدة من سردياتها ونصغي إلى صوتها وهي تحدّثنا عن حبّها الأول لفتى رقيق كان يحب القراءة ويعارض حرب الفيتنام، مثلها، لكنه انتهى مجنّداً في الجيش لأنه لم يكن قوياً بما يكفي لمقاومة إرادة والده العسكري، وقُتِل في معسكر التدريب قبل أن يصل إلى ساحات الحرب.

أثناء قراءة بومغارتنر كلمات آنا، "يتملّكه الشعور بسماع صوتها يرتفع من نصّها، وبأنها تحدّثه من جديد، على رغم أنها ميتة الآن، ولم تعد تقول له أي شيء". وكما لو أن ذلك لا يكفي، ها أن الهاتف المفصول عن المقبس يرنّ على مكتبها. وحين يرفع السماعة بعد ثوانٍ من الاضطراب الشديد، يسمع صوت زوجته، التي تنطلق في تطمينه ووصف المكان الذي تتواجد فيه. وقبل أن يتمكن من التلفظ بكلمة واحدة، ينقطع الاتصال، فيظن بومغارتنر أنه غفا على مكتبها، وأن اشتياقه الشديد لها جعله يحلم بمثل هذا الاتصال.

بعد سنوات من وفاة آنا، حاول بومغارتنر معاودة الحياة، فقابل نساء وتردد على حفلات لمعارفه، لكن "الجزء الأكثر عمقاً وحميمية داخله مات"، يقول لنا الراوي. حقيقة لا تزعجه كثيراً لأنه يعرف أنه عاش حياة غنية وتمتع بقدر أكبر من الحرية والرفاهة، مقارنةً بوالديه. وصحيح أنه كان عاقراً، مثل آنا، لكن ذلك لم يقض مضجعهما، بل تمكن كل منهما من إنجاز نفسه على المستوى المهني، ومن تقاسم الواحد مع الآخر، أعمق مشاعر الحب وكل لذات الجسد. ثم أنه ما زال يتمتع بالذاكرة التي تفتنه إلى أبعد حد وتجعله يتساءل مراراً لماذا نتذكّر أشياء معيّنة، تافهة أحياناً، وننسى أشياء أخرى، أكثر أهمية، وما هي محرّكات التذكّر.

هكذا، في يومٍ مشمس، يقرر الخروج للتنزه والاستمتاع بالطقس الجميل، لكن بدلاً من ذلك، تعود ذاكرته به، أثناء نزهته، إلى سنوات طفولته، وتحديداً إلى والده الذي كان يغذّي أحلاماً تشبه أحلامه، لكنه لم يستطع تحقيقها لأنه اختار الاضطلاع بواجب الاهتمام بعائلته وسد رمق أفرادها، حين توارى والده فجأةً، فعانى طوال حياته من القيود التي لجم هذا الخيار بها تطلعاته. رجل كان يترك أحياناً زوجته وأخته في المتجر الذي حلّ فيه مكان والده، ويتسلل إلى الطابق العلوي لقراءة كتابات الناشطة الثورية الفوضوية إيما غولدمان، للمرة الألف. والد بقي حتى وفاته مغلقاً على نفسه، تتعذّر معرفته، مثل كتلة تناقضات، مثل نواة مثالية متصدعة، بخلاف زوجته، والدة بومغارتنر، التي كانت كائناً شمسياً دافئاً، على رغم فقدانها والدها في سن الثالثة، ثم تخلّي أمها عنها بعد فترة قصيرة، للرحيل مع رجل ثري، بلا رجعة.

سيرورة التذكر

في خضّم سيرورة التذكّر هذه، يحضر إلى ذهن بومغارتنر سفره عام 2017 إلى مدينة لفيف في أوكرانيا، تلبية لدعوة من "نادي القلم" الدولي، واغتنامه هذه الفرصة لزيارة بلدة إيفانو فرانكيفسك المجاورة، مكان ولادة والد أمه الذي لم يعرفه قط. زيارة سمع خلالها قصة رهيبة تعذّر عليه لاحقاً التحقق من صحّتها، لكنها هزّت كيانه لدرجة جعلته يرصد لها نصاً بقي غير منجَز، فيُقفِل عائداً من نزهته لإكمال هذا النص، ويمنحنا أثناء عمله عليه تأملاً في موضوع القصص، والسرد عموماً، لطالما عالجه عمل أوستر الكتابي، بطريقة أو بأخرى. نص نقرأه كاملاً، ويقول فيه: "هل على حدثٍ ما أن يكون حقيقياً كي يُقبَل كحقيقة، أم أن الإيمان بحقيقته هو الذي يجعله حقيقياً، حتى لو أنه لم يحدث في الواقع؟"، ويضيف: "إذا تبيّن أن القصة مذهلة وصاعقة لدرجة أن فمنا انفتح شدهاً، وشعرنا أنها غيّرت فهمنا للعالم، أو حسّنته، أو عمّقته، فهل يهمّ إذا كانت حقيقية أم لا؟".

ولأن بومغارتنز أقدم، بعد فترة من وفاة زوجته، على جمع قصائد لها ونشرها في كتاب، يتلقى رسالة من طالبة دكتوراه تعبّر فيها عن رغبتها في كتابة أطروحتها عن شعر آنا، وتسأله إن كان ممكناً لها أن تزوره لقراءة كل ما تركته خلفها من نصوص. وحين يستعلم عن هذه الشابة التي تعيش في ميشيغان، ويتحدث مراراً إليها، يلاحظ أنها تشبه حبيبته الفقيدة في بعض جوانب شخصيتها. يثيره مشروعها إلى حد يجعله يعرض عليها إقامة مديدة في داره، ويجهّز كل شيء لاستقبالها، ويهجس بما يمكن أن يحدث ويحول دون وصولها، كما لو أنه على موعد مع آنا بالذات.

فتنة هذه الرواية، التي تعود إلى جملة أسباب، تجعلنا لا نكتفي بصفحاتها الـ 200 ونتمنى، حين نقلب صفحتها الأخيرة، لو أنها أطول. لكن هذا لا يعني أن أوستر لم يعطِ قصّتها الآسرة، والخيوط التي يكرّها فيها، حقّها من السرد والتأمل. فعلاقة بطلها بحبيبته متفحَّصة من مختلف جوانبها وبطريقة تجعلنا نعيشها معه، داخل جلده، فنشاركه مشاعره تجاه آنا، خصوصاً تلك المؤلمة الناتجة من فقدانها. علاقة مركزية في الرواية، لكنها لا تختزل قيمتها، ولا تحدد بمآلها المعتم نبرة السرد فيها، التي تتأرجح على سلّم ألوان واسع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإضافة إلى النبرة الرمادية المستخدمة لسرد واقع العزلة، بعد تواري الحبيبة، ثمة نبرة فكاهية نيّرة تحيي حوارات بومغارتنر مع عامل شركة الكهرباء، إد، أو مع ساعية البريد، مولي، التي تحضر داخل الرواية كتحية لقيمة الناس البسطاء وحرارتهم. هناك أيضاً النبرة الخاصة لصوت آنا في سماعة الهاتف المفصول عن المقبس، الذي يصل إلى مسمعنا من ظلمة الآخرة، ويُسقطنا داخل مشهد حلمي سوريالي نتلقّى فيه خلاصة تأملات أوستر في ما يمكن أن تكون عليه الحياة بعد الموت. هنالك أيضاً نبرة نصوص آنا السيرذاتية التي يقرأها بومغارتنر على مكتبها، وتوقّع السردية الرئيسة، ونبرة كتاباته. هنالك أخيراً ــ وليس آخراً ــ نبرة التذكّر المؤثّرة التي تعزز وقع غوصه في ما اختبره من أحداث وانفعالات في كنف والديه، ثم مع حبيبته.

وهذا ما يقودنا إلى مكمني ثراء في "بومغارتنر"، أي إقامتها روابط مثيرة بين تجاربنا الجسدية وطريقة ابتكارنا سردية حياتنا، وكشفها تفاصيل مهمة ومجهولة عن ماضي صاحبها. لكن أكثر ما يشدنا، ويهزّنا، في هذه الرواية السيرذاتية هو إسقاط أوستر نفسه، من خلال قصة بطله وشبيهه، داخل واقع لم يحدث بعد (فقدان زوجته سيري هوسفيت)، وعيشه بكل محنته، ووصف الألم الذي يتربّص به وبكل من يبلغ تلك السن التي يصبح فيها احتمال رحيل رفيق دربنا قبلنا، كبيراً جداً. إسقاط لا تكمن قيمته في جرأته فحسب، بل أيضاً في كشفه ما يعبر الكاتب فعلاً به حالياً، وهو ما يفسّر نجاعته وسطوته.

وإذ لا مجال هنا للتوقف عند سائر مكامن قيمة هذه الرواية، نكتفي بالإشارة أخيراً إلى أن أوستر يصف في مكانٍ ما فيها مهنة الكتابة بـ "العقوبة المؤبدة"، مضيفاً: "تتطلب كتابة جملة واحدة جهداً كبيراً... وبما أن جملة أخرى يجب أن تتبعها حتماً لتشييد عملٍ مؤَّلف من جُمَل... تمرّ الأيام بسرعة". وإذ لا شك في صواب قوله هذا، لكنّ الصحيح أيضاً هو أن المرور السريع للأيام بسبب تلك "العقوبة" لم يمنعه، لحسن حظنا، من حبك روايات غزيرة بجُمَل مغناطيسية رائعة تعلّق الزمن وتتلاعب به كما تشاء. و"بومغاردنر" خير دليل على ذلك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة