Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إسرائيل قد تدمر نفسها بنفسها

على الإسرائيليين أن يمدوا أياديهم للفلسطينيين ولبعضهم بعضاً إذا كانوا يريدون تعايشاً مستداماً قائماً على الاحترام

رسم بريشة مارك هاريس (رويترز)

ملخص

تشير المؤشرات إلى أن الإسرائيليين سيستمرون في القتال في ما بينهم وسيواصلون الاحتلال إلى أجل غير مسمى.

في أحد الأيام المشمسة من أبريل (نيسان) 1956، توجه موشيه ديان، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي ذو العين الواحدة، جنوباً إلى ناحال عوز، وهو كيبوتس كان قد أنشئ حديثاً قرب حدود قطاع غزة. جاء ديان لحضور جنازة روي روتبرغ وهو شاب كان يبلغ من العمر 21 سنة، قتل في صباح اليوم السابق على يد فلسطينيين بينما كان يقوم بدورية في الحقول ممتطياً جواده. وكان القتلة قد سحبوا جثة روتبرغ إلى الجانب الآخر من الحدود، حيث عثر عليها مشوهة ومنزوعة العينين، وتسبب ذلك في حالة من الصدمة والأسى على الصعيد الوطني.

لو كان ديان يتحدث في إسرائيل اليوم، لركز في تأبينه على الإدانة الشديدة للوحشية الفظيعة التي ارتكبها قتلة روتبرغ، لكن وفق ما قيل عن خطابه في الخمسينيات من القرن الماضي، كان متعاطفاً بشكل ملحوظ مع الجناة. آنذاك، قال ديان: "دعونا لا نلقي اللوم على القتلة. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، أقاموا في مخيمات للاجئين في غزة، وشاهدونا بأم العين نحول أراضيهم وقراهم، حيث كانوا يعيشون مع آبائهم وأجدادهم في السابق، إلى وطن لنا". كان ديان يلمح إلى "النكبة"، التي هجرت العرب الفلسطينيين بغالبيتهم قسراً بعد انتصار إسرائيل في حرب الاستقلال عام 1948. ونقل عدد كبير منهم بالقوة إلى غزة، بمن في ذلك سكان المجتمعات التي تحولت في نهاية المطاف إلى بلدات وقرى يهودية على طول الحدود.

لم يكن ديان مؤيداً للقضية الفلسطينية. فهو في عام 1950، بعد انتهاء الأعمال العدائية، نظم عملية تهجير المجتمع الفلسطيني المتبقي في بلدة المجدل الحدودية، المعروفة اليوم بمدينة عسقلان الإسرائيلية. لكن على رغم ذلك، تمكن ديان من فهم فكرة رفض كثير من اليهود الإسرائيليين تقبلها، وهي أن الفلسطينيين لن ينسوا النكبة على الإطلاق ولن يتخلوا عن حلم العودة لديارهم. وقال ديان في خطاب التأبين "دعونا لا نتجاهل الكراهية التي تتأجج في صدور مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا. هذه هي الحياة التي اخترناها: أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء وعاقدي العزم، خشية أن يسقط السيف من قبضتنا وتحل نهايتنا".

وفي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تحقق التحذير القديم لديان بأكثر طريقة دموية ممكنة. ففي أعقاب خطة دبرها يحيى السنوار، وهو قائد في حركة "حماس" ولد في أسرة أجبرت على الخروج من المجدل، شن المسلحون الفلسطينيون غزواً على إسرائيل في نحو 30 نقطة على طول حدود غزة. معتمدين على عنصر المفاجأة، اجتاحوا دفاعات إسرائيل الضعيفة وشرعوا في مهاجمة مهرجان موسيقي، وبلدات صغيرة، وأكثر من 20 كيبوتساً. فقتلوا نحو 1200 مدني وجندي واختطفوا أكثر من 200 رهينة، واغتصبوا وسرقوا وأحرقوا ونهبوا. لقد عاد أحفاد سكان مخيم اللاجئين في زمن ديان للانتقام، يغذيهم نفس الشعور بالكراهية والبغض الذي وصفه، لكنهم الآن أفضل تسلحاً وتدريباً وتنظيماً.

كان السابع من أكتوبر أسوأ كارثة حلت في تاريخ إسرائيل، إذ شكل منعطفاً على الصعيد الوطني والشخصي لكل من يعيش في البلد أو يرتبط به. وبعد فشل جيش الدفاع الإسرائيلي في وقف هجوم "حماس"، رد بقوة ساحقة، فقتل الآلاف من الفلسطينيين ودمر أحياء بأكملها في غزة. ولكن حتى في وقت يسقط فيه الطيارون القنابل وتطهر قوات الكوماندوز أنفاق "حماس"، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تأخذ في الاعتبار العداء الذي أدى إلى شن هذا الهجوم، أو السياسات التي قد تحول دون وقوع هجوم آخر. وفي الواقع، يأتي صمتها بناءً على طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي رفض وضع رؤية أو ترتيب لما بعد الحرب. لقد وعد نتنياهو بـ"تدمير حماس"، ولكن باستثناء القوة العسكرية، ليست لديه استراتيجية للقضاء على هذه الحركة ولا خطة واضحة لتشكيل حكومة أمر واقع تحل محل "حماس" في غزة بعد انتهاء الصراع.

في الحقيقة، إن فشله في وضع استراتيجية لم يكن محض صدفة، وهو ليس تصرفاً قام به من منطلق ضرورة سياسية تهدف إلى الحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني. لكي تعيش إسرائيل في سلام، يتعين عليها أن تتوصل في النهاية إلى اتفاق مع الفلسطينيين، مما عارضه نتنياهو طوال حياته المهنية. لقد كرس فترة ولايته رئيساً للوزراء، وهي الأطول في تاريخ إسرائيل، لتقويض الحركة الوطنية الفلسطينية وتهميشها. ووعد شعبه بأنهم قادرون على تحقيق الازدهار من دون السلام. واستطراداً، تمكن من إقناع البلاد بأنها تستطيع مواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية إلى الأبد من دون أي كلفة محلية أو دولية تذكر. وحتى في الوقت الحالي، في أعقاب السابع من أكتوبر، لم يغير هذه السياسة. والشيء الوحيد الذي قال نتنياهو إن إسرائيل ستفعله بعد الحرب هو الحفاظ على "محيط أمني" حول غزة، وهو تعبير ملطف ومبطن لاحتلال طويل الأمد، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة على طول الحدود تتعدى على جزء كبير من الأراضي الفلسطينية المحدودة.

ولكن لم يعد من الممكن لإسرائيل أن تظل مغمضة العينين وضيقة الأفق إلى هذا الحد. لقد أثبتت هجمات السابع من أكتوبر أن وعد نتنياهو كان فارغاً. فعلى رغم توقف عملية السلام وتراجع الاهتمام الدولي، تمكن الفلسطينيون من الحفاظ على شعلة قضيتهم. وفي مشاهد التقطتها "حماس" في السابع من أكتوبر بواسطة كاميرا مثبتة على جسد أحد المهاجمين، يمكن سماع الغزاة يصرخون "هذه أرضنا!" أثناء عبورهم الحدود لمهاجمة الكيبوتس. لقد صور السنوار العملية علناً على أنها عمل من أعمال المقاومة، متأثراً ومدفوعاً شخصياً، إلى حد ما، بالنكبة. علاوة على ذلك، أمضى زعيم "حماس" 22 عاماً في السجون الإسرائيلية، ويقال إنه كان يخبر رفقاءه في الزنزانة باستمرار أنه يجب إلحاق الهزيمة بإسرائيل حتى تتمكن عائلته من العودة لقريتها.

 

لكي تعيش إسرائيل في سلام، عليها أن تتوصل في النهاية إلى تفاهم مع الفلسطينيين

 

مرة أخرى، جعلت صدمة السابع من أكتوبر الإسرائيليين يدركون أن الصراع مع الفلسطينيين يشكل أهمية مركزية لهويتهم الوطنية وتهديداً لسلامتهم، لذا لا يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه، وأن الاستمرار بالاحتلال، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وفرض الحصار على غزة، ورفض تقديم أي تسوية تتعلق بالأراضي (أو حتى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية) لن يجلب للبلاد الأمن الدائم. وفي المقابل، سيكون من الصعب للغاية التعافي من هذه الحرب وتغيير المسار، ولكن هذا لا يعود فحسب إلى عدم رغبة نتنياهو في التوصل إلى حل للصراع الفلسطيني. ففي الحقيقة، اندلعت هذه الحرب ربما في فترة تشهد فيها إسرائيل مستويات غير مسبوقة من الانقسامات الداخلية. ففي السنوات التي سبقت الهجوم، كانت البلاد منقسمة بسبب جهود نتنياهو الرامية إلى تقويض مؤسساتها الديمقراطية وتحويلها إلى دولة استبدادية قومية ثيوقراطية. وأثارت مشاريع القوانين والإصلاحات التي قدمها احتجاجات وانشقاقات واسعة النطاق هددت بتمزيق البلاد قبل الحرب وستعود لتحدق بها بمجرد انتهاء الصراع. وفي الواقع، سيصبح الخلاف حول بقاء نتنياهو السياسي أكثر حدة مما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، مما سيجعل من الصعب على البلاد أن تسعى إلى تحقيق السلام.

ولكن مهما حدث لرئيس الوزراء، فمن غير المرجح أن تجري إسرائيل حواراً جدياً حول التسوية مع الفلسطينيين، إذ إن الرأي العام الإسرائيلي تحول بصورة عامة نحو اليمين [صار أكثر ميلاً نحو اليمين]، والولايات المتحدة منشغلة على نحو متزايد بانتخابات رئاسية حاسمة. ولن يكون ثمة جهود تذكر أو حوافز لإعادة تفعيل عملية سلام مجدية وملموسة في المستقبل القريب. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا شك في أن السابع من أكتوبر يمثل نقطة تحول، إلا أن الأمر متروك للإسرائيليين أنفسهم ليحددوا طبيعة هذا المنعطف وعواقبه. وإذا قرروا الإصغاء أخيراً لتحذير ديان، فمن الممكن أن تتحد البلاد وترسم طريقاً نحو السلام والتعايش الكريم مع الفلسطينيين. لكن المؤشرات حتى الآن تدل على أن الإسرائيليين، عوضاً عن ذلك، سيستمرون في القتال في ما بينهم وسيواصلون الاحتلال إلى أجل غير مسمى. وهذا يمكن أن يجعل من السابع من أكتوبر بداية لعصر مظلم في تاريخ إسرائيل، يتسم بعنف متزايد وأكثر حدة. ولن يكون الهجوم مجرد حدث عابر لن يتكرر، بل نذيراً لما هو قادم.

وعود منتهكة

في تسعينيات القرن الـ20، كان نجم نتنياهو يصعد ويبرز في الساحة اليمينية في إسرائيل. وبعد أن صنع لنفسه اسماً بصفته سفيراً لإسرائيل لدى الأمم المتحدة من عام 1984 إلى عام 1988، اشتهر على نطاق واسع بقيادة الأصوات المعارضة لاتفاقات أوسلو، وهي الصيغة الأولية للتسوية الإسرائيلية الفلسطينية عام 1993 التي وقعتها الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 على يد متعصب إسرائيلي يميني متطرف، وبعد موجة من الهجمات الإرهابية الفلسطينية في المدن الإسرائيلية، تمكن نتنياهو من الفوز على شيمون بيريز، المهندس الرئيس لاتفاق أوسلو للسلام، بفارق ضئيل للغاية في انتخابات رئاسة الوزراء عام 1996. وما إن تولى منصبه، حتى وعد بعرقلة عملية السلام وإصلاح المجتمع الإسرائيلي من خلال "استبدال النخب" الذين اعتبرهم ضعفاء وميالين إلى تقليد الليبراليين الغربيين، بكادر من المحافظين الدينيين والاجتماعيين.

لكن طموحات نتنياهو المتطرفة قوبلت بمعارضة مشتركة من النخب القديمة وإدارة كلينتون. أما المجتمع الإسرائيلي، الذي كان حينذاك لا يزال داعماً بصورة عامة لاتفاق السلام، فسرعان ما استاء من الأجندة المتطرفة التي تبناها رئيس الوزراء. وبعد ثلاث سنوات، أطاحه الليبرالي إيهود باراك، الذي تعهد بمواصلة عملية أوسلو وإيجاد حل للقضية الفلسطينية بكاملها.

لكن باراك أخفق، تماماً مثلما أخفق من أتى بعده. فحين أنجزت إسرائيل انسحابها الأحادي من جنوب لبنان في ربيع عام 2000، تعرضت لهجمات عبر الحدود وواجهت تهديدات بسبب ازدياد قدرات "حزب الله" العسكرية بشكل هائل، ثم انهارت عملية السلام مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في ذلك الخريف. وبعد خمس سنوات، مهد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة الطريق أمام "حماس" لتولي زمام الأمور هناك. وهكذا، فقد الجمهور الإسرائيلي، الذي كان مؤيداً لعملية السلام ذات يوم، رغبته في تحقيقها بسبب الأخطار الأمنية التي تصاحبها. وكانوا يرددون العبارة الشائعة "لقد عرضنا عليهم كل ما كانوا يرغبون فيه وحصلنا في المقابل على انتحاريين وصواريخ" (في المقابل، فإن وجهة النظر المعارضة التي أشارت إلى أن إسرائيل قدمت أقل مما ينبغي وأنها لن توافق مطلقاً على إقامة دولة فلسطينية مستدامة لم تحظَ بدعم كبير). وفي عام 2009، عاد نتنياهو إلى السلطة، وهو يشعر بأن النهج الذي كان يعتمده مسوغ، ففي نهاية المطاف، تحولت تحذيراته ضد تقديم التنازلات الإقليمية لجيران إسرائيل إلى حقيقة.

وبعد عودته إلى منصبه، عرض نتنياهو على الإسرائيليين بديلاً مناسباً لصيغة "الأرض مقابل السلام" التي فقدت صدقيتها. وأشار إلى أن إسرائيل يمكن أن تزدهر كدولة على النمط الغربي، وأن تتواصل حتى مع العالم العربي الأوسع، بينما تهمش الفلسطينيين. وكان المفتاح هو مبدأ فرق تسد. ففي الضفة الغربية، حافظ نتنياهو على التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، التي تولت بحكم الأمر الواقع دور وكيل إسرائيل في ما يتعلق بإدارة الأمن وتوفير الخدمات الاجتماعية، وشجع قطر على تمويل حكومة "حماس" في غزة. وصرح نتنياهو أمام الكتلة البرلمانية لحزبه في عام 2019 "على كل من يعارض تشكيل دولة فلسطينية أن يدعم تقديم الأموال إلى غزة لأن الحفاظ على الانقسام بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة سيحول دون إنشاء دولة فلسطينية". وهو الآن يواجه عواقب هذا التصريح.

 

 

 

اعتقد نتنياهو أنه قادر على إبقاء قدرات "حماس" تحت السيطرة من خلال الحصار البحري والاقتصادي، وأنظمة الدفاع الصاروخية والحدودية المنشورة حديثاً، والغارات العسكرية الدورية على مقاتلي الحركة وبنيتها التحتية. وأصبح هذا التكتيك الأخير، الذي أطلق عليه اسم "جز العشب"، جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إلى جانب "إدارة الصراع" والحفاظ على الوضع القائم. واعتقد نتنياهو أن النظام السائد كان راسخاً ومستتباً، واعتبره الحل الأمثل: فالحفاظ على صراع منخفض الحدة كان أقل خطورة من اتفاق السلام من الناحية السياسية وأقل كلفة من حرب كبرى.

ولأكثر من عقد من الزمن، بدا أن استراتيجية نتنياهو كانت ناجحة. غرقت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الثورات والحروب الأهلية الناجمة عن الربيع العربي، مما جعل القضية الفلسطينية أقل بروزاً بكثير. وتراجعت الهجمات الإرهابية إلى مستويات قياسية جديدة، وكثيراً ما اعترضت الصواريخ التي كانت تطلق من غزة بشكل دوري. وباستثناء حرب قصيرة ضد "حماس" في عام 2014، نادراً ما اضطر الإسرائيليون إلى مواجهة مباشرة مع المسلحين الفلسطينيين. إذاً، كان الصراع بالنسبة إلى معظم الناس، في معظم الأوقات، بعيداً من الأنظار وبعيداً من البال.

وعوضاً عن القلق في شأن الفلسطينيين، بدأ الإسرائيليون في التركيز على اعتماد أسلوب الحياة الغربي المتمثل في الرخاء والهدوء. بين يناير (كانون الثاني) 2010 وديسمبر (كانون الأول) 2022، تضاعفت أسعار العقارات في إسرائيل، وامتلأ أفق تل أبيب بالمباني الشاهقة المخصصة لشقق سكنية ومؤسسات تجارية. وتوسعت المدن الصغيرة لاستيعاب هذه الطفرة ونما الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بأكثر من 60 في المئة مع إطلاق رواد الأعمال في مجال التكنولوجيا أعمالاً ناجحة واكتشاف شركات الطاقة لمخزونات الغاز الطبيعي البحرية في المياه الإسرائيلية. وأسهمت اتفاقات الأجواء المفتوحة مع حكومات أخرى في جعل السفر إلى الخارج، الذي يعتبر ناحية رئيسة من نمط الحياة الإسرائيلي، سلعة ميسورة الكلفة. كان المستقبل مشرقاً. وبدا أن البلاد تجاوزت الفلسطينيين، وقد فعلت ذلك من دون التفريط بأي شيء كان، مثل الأراضي والموارد والأموال، في سبيل التوصل إلى اتفاق سلام. وهكذا، حظي الإسرائيليون بفرصة الاحتفاظ بكعكتهم والتهامها أيضاً.

وعلى المستوى الدولي، شهدت البلاد ازدهاراً أيضاً. في الواقع، صمد نتنياهو أمام الضغوط التي مارسها الرئيس الأميركي باراك أوباما من أجل إحياء حل الدولتين وتجميد عملية توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وذلك جزئياً من خلال تشكيل تحالف مع الجمهوريين. وعلى رغم فشل نتنياهو في منع أوباما من إبرام اتفاق نووي مع إيران، فإن واشنطن انسحبت من الاتفاق بعد فوز دونالد ترمب بالرئاسة. كذلك، نقل ترمب السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، واعترفت إدارته بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان التي كانت جزءاً من سوريا. وفي عهد ترمب، ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل على إبرام اتفاقات أبراهام، وتطبيع علاقاتها مع البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، وهو احتمال بدا مستحيلاً في السابق من دون اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني. وبدأت طائرات محملة بالمسؤولين والقادة العسكريين والسياح الإسرائيليين في التردد إلى الفنادق الفخمة في دول عربية وأسواق مراكش.

 

اعتبر نتنياهو أن إسرائيل يمكن أن تزدهر كدولة على النمط الغربي، بينما تتجاهل الفلسطينيين

 

وإلى جانب تهميشه القضية الفلسطينية، عمل نتنياهو أيضاً على إعادة تشكيل المجتمع الإسرائيلي. وبعد إعادة انتخابه المفاجئة في عام 2015، أنشأ نتنياهو ائتلافاً يمينياً لإحياء حلمه القديم بإشعال فتيل ثورة محافظة. ومرة أخرى، بدأ رئيس الوزراء في انتقاد "النخب" وشن حرباً ثقافية ضد النظام السابق، إذ اعتبره معادياً له وليبرالياً جداً بالنسبة إلى مؤيديه. وفي عام 2018، نال الموافقة على قانون رئيس مثير للجدل يعرف إسرائيل بإقرار "الدولة القومية للشعب اليهودي" وأعلن أن "تقرير المصير" على أراضيها هو حق "استثنائي" للشعب اليهودي. لقد أعطى هذا القانون الأفضلية للغالبية اليهودية في البلاد فيما استتبع غير اليهود واعتبرهم من الدرجة الثانية.

وفي العام نفسه، انهار ائتلاف نتنياهو، ثم غرقت إسرائيل في أزمة سياسية طويلة، واضطرت البلاد إلى إجراء خمسة انتخابات بين عامي 2019 و2022، وكان كل منها عبارة عن استفتاء حول حكم نتنياهو. وتفاقمت حدة المعركة السياسية بسبب قضية فساد ضد رئيس الوزراء، مما أدى إلى توجيه اتهامات جنائية له في عام 2020 ومحاكمته التي لا تزال مستمرة. فانقسمت إسرائيل بين "مؤيدي بيبي" و"معارضي بيبي" (بنيامين نتنياهو)، وفي الانتخابات الرابعة، في عام 2021، تمكن منافسو نتنياهو أخيراً من استبدال "حكومة تغيير" بقيادة اليميني نفتالي بينيت ويائير لبيد الوسطي بنتنياهو. ولأول مرة كان الائتلاف يضم طرفاً عربياً.

ومع ذلك، فإن معارضي نتنياهو لم يتحدوا قط الفكرة الأساسية لحكمه المتمثلة في أن إسرائيل يمكن أن تزدهر من دون حل القضية الفلسطينية. وما عاد الجدل حول السلام والحرب، الذي شكل تاريخياً موضوعاً سياسياً حاسماً بالنسبة إلى إسرائيل، يحظى بالأهمية الكافية في الخطاب السياسي والتقارير الإعلامية. وبطريقة موازية، اعتبر بينيت، الذي بدأ حياته المهنية كمساعد لنتنياهو، أن الصراع الفلسطيني يشبه "شظية في المؤخرة" يمكن للبلاد أن تتعايش معها. وسعى بالتعاون مع لبيد إلى الحفاظ على الوضع القائم في ما يتعلق بالفلسطينيين والتركيز ببساطة على إبقاء نتنياهو خارج السلطة.

وبطبيعة الحال، ثبت أن هذه الصفقة مستحيلة. فانهارت "حكومة التغيير" في عام 2022 بعد أن فشلت في إطالة أمد الأحكام القانونية الغامضة التي سمحت لمستوطني الضفة الغربية بالتمتع بحقوق مدنية حرم منها جيرانهم غير الإسرائيليين. بالنسبة إلى بعض أعضاء التحالف العربي، كان التوقيع على أحكام الفصل العنصري هذه بمثابة تنازل لا يمكن القبول به.

 

إن العجز العسكري والاستخباراتي لا يمكن أن يحمي نتنياهو من تحمل مسؤولية ما حدث في السابع من أكتوبر.

 

بالنسبة إلى نتنياهو، الذي لا يزال يواجه محاكمة، كان انهيار الحكومة هو بالضبط ما أمل به. وبينما نظمت البلاد انتخابات أخرى، عزز قاعدته المؤلفة من اليمينيين، واليهود المتشددين، واليهود المحافظين اجتماعياً. ومن أجل استعادة السلطة، تواصل خصوصاً مع مستوطني الضفة الغربية، وهم يمثلون الشريحة السكانية التي ما زالت ترى الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني علة لوجودها. وظل هؤلاء الصهاينة المتدينون ملتزمين حلمهم بتهويد الأراضي المحتلة وجعلها جزءاً رسمياً من إسرائيل. وكانوا يأملون أنه إذا أتيحت لهم الفرصة، فسيتمكنون من طرد السكان الفلسطينيين من تلك الأراضي. لقد فشلوا في منع إجلاء المستوطنين اليهود من غزة في عام 2005 عندما كان آرييل شارون رئيساً للوزراء، ولكن في السنوات التي تلت، استولوا تدريجاً على مناصب مهمة في الجيش الإسرائيلي والخدمة المدنية ووسائل الإعلام بعد أن حول أعضاء المؤسسة العلمانية تركيزهم على كسب المال في القطاع الخاص.

وكان لدى المتطرفين مطلبان رئيسان من نتنياهو. الأول، والأكثر وضوحاً، هو توسيع المستوطنات اليهودية. والثاني هو التأسيس لوجود يهودي أقوى في جبل الهيكل، الموقع التاريخي لكل من الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى الإسلامي في البلدة القديمة في القدس. منذ أن سيطرت إسرائيل على المنطقة المحيطة في حرب الأيام الستة عام 1967، منحت الفلسطينيين استقلالاً شبه ذاتي في الموقع، خوفاً من أن يؤدي نقل الإشراف عليه إلى كيان غير عربي إلى صراع ديني كارثي. لكن اليمين المتطرف الإسرائيلي سعى منذ فترة طويلة إلى تغيير ذلك. عندما انتخب نتنياهو لأول مرة في عام 1996، فتح جداراً في موقع أثري في نفق تحت الأرض مجاور للأقصى من أجل الكشف عن قطع أثرية تعود إلى زمن الهيكل الثاني، مما أشعل فتيل احتجاجات عربية عنيفة في القدس. وعلى نحو مماثل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000 بعد زيارة قام بها شارون إلى جبل الهيكل، وكان آنذاك زعيم المعارضة وزعيم حزب الليكود الذي يتولى رئاسته نتنياهو حالياً.

وفي مايو (أيار) 2021، تأجج العنف مجدداً. وهذه المرة، كان المحرض الرئيس هو إيتمار بن غفير، السياسي اليميني المتطرف الذي أشاد بالإرهابيين اليهود علناً. افتتح بن غفير "مكتباً برلمانياً" في حي فلسطيني بالقدس الشرقية حيث استعان المستوطنون اليهود بصكوك ملكية قديمة من أجل طرد بعض السكان، فنظم الفلسطينيون احتجاجات حاشدة رداً على ذلك. وبعد تجمع مئات المتظاهرين في الأقصى، داهمت الشرطة الإسرائيلية مجمع المسجد. ونتيجة لذلك، اندلع قتال بين العرب واليهود وسرعان ما انتشر إلى المدن المختلطة عرقياً في جميع أنحاء إسرائيل. واستخدمت "حماس" تلك المداهمة كذريعة لاستهداف القدس بالصواريخ، مما أدى إلى مزيد من العنف في إسرائيل وجولة أخرى من الأعمال الانتقامية الإسرائيلية في غزة.

على رغم ذلك، توقف القتال عندما توصلت إسرائيل و"حماس" إلى وقف جديد لإطلاق النار في ترتيب كانت سرعته صادمة. واستمرت قطر في دعمها المالي، في حين أعطت إسرائيل تصاريح عمل لبعض سكان غزة من أجل تحسين اقتصاد القطاع وتقليص الرغبة في الصراع. وفي ربيع عام 2023، وقفت "حماس" موقف المتفرج عندما ضربت إسرائيل إحدى الميليشيات المتحالفة معها، وهي حركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية. وسمح الهدوء النسبي على طول الحدود للجيش الإسرائيلي بإعادة نشر قواته ونقل معظم الكتائب القتالية إلى الضفة الغربية، حيث يمكنهم حماية المستوطنين من الهجمات الإرهابية. وفي السابع من أكتوبر، أصبح من الواضح أن عمليات إعادة الانتشار هذه كانت بالضبط ما أراده السنوار.

انقلاب بيبي

استعاد نتنياهو السلطة في الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في نوفمبر 2022، إذ حصل ائتلافه على 64 مقعداً من مقاعد البرلمان الإسرائيلي البالغ عددها 120، وهو فوز ساحق وفقاً للمعايير الحديثة. وكانت الشخصيات الرئيسة في الحكومة الجديدة هي بتسلئيل سموتريش، زعيم حزب ديني قومي يمثل مستوطني الضفة الغربية، وبن غفير. ومن خلال العمل مع الأحزاب اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة، أرسى نتنياهو وسموتريش وبن غفير أسس مشروع إسرائيل الاستبدادية والثيوقراطية. على سبيل المثال، أعلنت المبادئ التوجيهية لمجلس الوزراء الجديد أن "للشعب اليهودي حقاً حصرياً غير قابل للجدل على أرض إسرائيل"، مما يحرم بصورة مباشرة أي مطالبة فلسطينية بالأرض، حتى في غزة. وأصبح سموتريش وزيراً للمالية ومسؤولاً عن الضفة الغربية، حيث بدأ برنامجاً ضخماً لتوسيع المستوطنات اليهودية. كذلك، عين بن غفير وزيراً للأمن القومي، ومسؤولاً عن الشرطة والسجون، فاستخدم سلطته لتشجيع مزيد من اليهود على زيارة جبل الهيكل (الأقصى). بين يناير وأكتوبر 2023، قام نحو 50 ألف يهودي بجولات في الموقع المذكور، وهو عدد لم يسبق له مثيل مقارنة مع فترات ماضية ذات ظروف مشابهة (في عام 2022، بلغ عدد الزوار اليهود إلى الموقع 35 ألفاً).

وأثارت حكومة نتنياهو المتطرفة الجديدة الغضب بين الليبراليين والوسطيين الإسرائيليين. ولكن على رغم أن إذلال الفلسطينيين كان محورياً في أجندتهم، فإن هؤلاء المنتقدين استمروا في تجاهل مصير الأراضي المحتلة والأقصى عندما دانوا الحكومة. وعوضاً عن ذلك، ركزوا إلى حد كبير على إصلاحات نتنياهو القضائية، إذ إن هذه القوانين المقترحة، التي أعلن عنها في يناير 2023، كان من شأنها أن تحد من استقلالية المحكمة العليا في إسرائيل، الوصية على الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في بلد يفتقر إلى دستور رسمي، وأن تفكك النظام الاستشاري القانوني الذي يرسي الضوابط والتوازنات على السلطة التنفيذية. في الواقع، لو أقرت مشاريع القوانين تلك، لجعلت من الأسهل بكثير على نتنياهو وشركائه إرساء حكم استبدادي، وربما كانت لتعفيه من المحاكمة بتهمة الفساد.

لا شك في أن مشاريع القوانين المتعلقة بالإصلاح القضائي كانت خطرة للغاية، وأثارت، بشكل محق، موجة هائلة من الاحتجاجات، تظاهر فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين كل أسبوع. ولكن في مواجهة هذا الانقلاب، تصرف معارضو نتنياهو مرة أخرى وكأن قضية الاحتلال غير مطروحة. وعلى رغم أن القوانين صيغت جزئياً بهدف إضعاف أي حماية قانونية قد تمنحها المحكمة العليا الإسرائيلية للفلسطينيين، فإن المتظاهرين تجنبوا التطرق إلى الاحتلال أو عملية السلام البائدة خوفاً من تشويه سمعتهم باعتبارهم غير وطنيين. في الواقع، عمل المنظمون على تهميش المتظاهرين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال من أجل تجنب ظهور صور الأعلام الفلسطينية في التظاهرات. ونجح هذا التكتيك، فضمن أن التحركات الاحتجاجية لم "تلوث" بالقضية الفلسطينية، فامتنع العرب الإسرائيليون، الذين يشكلون نحو 20 في المئة من سكان البلاد، إلى حد كبير عن الانضمام إلى التظاهرات. لكن هذا الأمر جعل نجاح تلك التحركات أكثر صعوبة. فنظراً إلى التركيبة السكانية في إسرائيل، يحتاج يهود يسار الوسط إلى شراكة مع العرب في البلاد إذا كانوا يريدون تشكيل حكومة. ومن خلال نزع الشرعية عن مخاوف العرب الإسرائيليين، خدم المتظاهرون استراتيجية نتنياهو بشكل مباشر.

 

 

ومن دون مشاركة العرب، استمرت المعركة حول الإصلاحات القضائية وكأنها شأن يهودي داخلي. رفع المتظاهرون علم نجمة داوود باللونين الأزرق والأبيض، وكان عدد من القادة والمتحدثين في التظاهرات من كبار ضباط الجيش المتقاعدين. وأظهر المتظاهرون مؤهلاتهم العسكرية [أي خلفياتهم العسكرية ورتبهم مثلاً كوسيلة لتأكيد السلطة أو الشرعية في معارضتهم الإصلاحات المقترحة]، مما حسن هيبة الجيش الإسرائيلي التي شهدت مساراً من التدهور والانحطاط منذ غزو لبنان في عام 1982. واستكمالاً، هدد طيارو الاحتياط، الذين يلعبون دوراً حاسماً في جهوزية القوات الجوية وقوتها القتالية، بالتوقف عن الخدمة العسكرية إذا أقرت تلك القوانين. كذلك، أظهر قادة جيش الدفاع الإسرائيلي معارضة ضمن المؤسسات، من خلال رفض طلب نتنياهو بمعاقبة جنود الاحتياط.

لم يكن مفاجئاً وقوع قطيعة بين الجيش الإسرائيلي ورئيس الوزراء. فطوال حياته المهنية الطويلة، تصادم نتنياهو على نحو متكرر مع الجيش، وكان أقوى منافسيه هم الجنرالات المتقاعدين الذين تحولوا إلى شخصيات سياسية، مثل شارون ورابين وباراك، ناهيك ببيني غانتس، الذي جعله نتنياهو جزءاً من مجلس الطوارئ الحربي على رغم أنه قد يتحداه ويتنافس معه في نهاية المطاف على منصب رئاسة الوزراء. كثيراً ما رفض نتنياهو رؤية الجنرالات وتصوراتهم لإسرائيل القوية عسكرياً والمرنة دبلوماسياً. وسخر أيضاً من شخصياتهم، التي اعتبرها خجولة، ومحدودة الخيال، وتخريبية حتى. لذلك لم يكن من المفاجئ أنه أقال وزير دفاعه، الجنرال المتقاعد يوآف غالانت، بعد ظهور هذا الأخير على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون في مارس (آذار) 2023 للتحذير من أن الانقسامات في إسرائيل جعلت البلاد عرضة للخطر وأن الحرب كانت وشيكة.

وأدت إقالة غالانت إلى مزيد من الاحتجاجات العفوية في الشوارع، فأعاده نتنياهو إلى منصبه (لكنهما يظلان خصمين لدودين، حتى وهما يديران الحرب معاً). لكن نتنياهو تجاهل تحذير غالانت، مثلما تجاهل تحذيراً أكثر تفصيلاً قدمه كبير محللي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في يوليو (تموز) مفاده أن الأعداء قد يهاجمون البلاد. يبدو أن نتنياهو اعتقد أن مثل هذه التحذيرات كانت دوافعها سياسية وتمثل تحالفاً مضمراً بين القادة العسكريين الحاليين في مقر الجيش الإسرائيلي في تل أبيب والقادة السابقين الذين كانوا يحتجون في الشوارع.

ساهم إذلال نتنياهو الفلسطينيين في تفاقم التطرف

من المؤكد أن التحذيرات التي تلقاها نتنياهو ركزت في الغالب على شبكة حلفاء إيران الإقليميين، وليس على "حماس". وعلى رغم أن خطة هجوم "حماس" كانت معروفة للاستخبارات الإسرائيلية، وأن الحركة أجرت مناورات وتدريبات أمام مراكز المراقبة التابعة للجيش الإسرائيلي، فإن كبار المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين لم يتصوروا أن خصمهم في غزة قادر على تنفيذ هجومه فعلاً، فأخفوا أي ادعاء بخلاف ذلك. وهكذا، أسهمت البيروقراطية الإسرائيلية إلى حد ما في إخفاق عملية الحيلولة دون هجوم السابع من أكتوبر.

ومع ذلك، لا يمكن الدفاع عن حقيقة أن نتنياهو لم يجر أي مناقشات جادة حول المعلومات الاستخباراتية التي تلقاها، أو عن رفضه التوصل إلى تسوية جدية مع المعارضة السياسية ورأب الصدع في البلاد. وعوضاً عن ذلك، قرر المضي قدماً في انقلابه القضائي، بغض النظر عن التحذيرات الخطرة وردود الفعل السلبية المحتملة. وأعلن بغطرسة أن "إسرائيل تستطيع أن تتدبر أمرها من دون بضعة أسراب من سلاح الجو، ولكنها لا تستطيع أن تستمر بلا حكومة".

وفي يوليو 2023، أقر البرلمان الإسرائيلي أول قانون قضائي [في مسار تعديل صلاحيات المحكمة العليا]، في نجاح آخر مهم لنتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف (ولكن في نهاية المطاف أبطلته المحكمة العليا، في يناير 2024). واعتقد رئيس الوزراء أنه سيعزز مكانته قريباً من طريق إبرام اتفاق سلام مع السعودية، الدولة العربية الأكثر ثراءً ونفوذاً، كجزء من صفقة ثلاثية تتضمن اتفاق دفاع أميركية سعودية، وأن النتيجة ستكون نصراً مطلقاً للسياسة الخارجية الإسرائيلية يتمثل في تشكيل تحالف أميركي عربي إسرائيلي ضد إيران ووكلائها الإقليميين. بالنسبة إلى نتنياهو، كان ذلك ليمثل إنجازاً كبيراً يجعله يكتسب شعبية واسعة النطاق.

وكان رئيس الوزراء واثقاً من نفسه إلى حد أنه اعتلى في الـ22 من سبتمبر (أيلول) منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لكي يروج لخريطة "الشرق الأوسط الجديد" المتمحورة حول إسرائيل. وكان ذلك بمثابة انتقاد متعمد لمنافسه الراحل بيريز، الذي استخدم عبارة "الشرق الأوسط الجديد" في الأصل بعد توقيع اتفاقات أوسلو. وتفاخر نتنياهو في خطابه قائلاً "أعتقد أننا على أعتاب تحقيق إنجاز أكبر، وهو (سلام تاريخي مع السعودية)". وأوضح أن الفلسطينيين أصبحوا مجرد مسألة ثانوية في حسابات إسرائيل والمنطقة الأوسع. وتابع "يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق النقض على معاهدات السلام الجديدة، إذ إنهم لا يشكلون سوى اثنين في المئة من العالم العربي". وبعد أسبوعين، شنت "حماس" الهجوم، مما أدى إلى إخفاق خطط نتنياهو.

ما بعد الانفجار

لقد حاول نتنياهو وأنصاره التنصل من اللوم عن المسؤولية في أحداث السابع من أكتوبر. ويقولون إن رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخبارات ضللوا رئيس الوزراء إذ فشلوا في تنبيهه وإطلاعه في الوقت الفعلي والمناسب بأن شيئاً مريباً يحدث في غزة (على رغم أن هذه التحذيرات فسرت على أنها مؤشرات إلى هجوم صغير، أو مجرد ضجيج). وغرد مكتب نتنياهو على "تويتر" بعد أسابيع عدة من الهجوم: "لم يتلق رئيس الوزراء نتنياهو تحذيراً تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة في شأن نوايا ’حماس‘ الحربية"، وعلى خلاف ذلك، كان التقييم الصادر عن المؤسسة الأمنية بكاملها، بمن في ذلك رئيس الاستخبارات العسكرية ورئيس الشاباك، هو أن "حماس" تعرضت للردع وتسعى إلى تسوية" (واعتذر لاحقاً عن هذه التغريدة).

لكن العجز العسكري والاستخباراتي، مهما كان خطراً، لا يمكن أن يحمي رئيس الوزراء من اللوم، فهو يتحمل المسؤولية الكبرى عما يحدث في إسرائيل بصفته رئيساً للحكومة. فسياسته المتهورة التي اتبعها قبل الحرب والرامية إلى زيادة الانقسام بين الإسرائيليين جعلت البلاد عرضة للخطر، وأغرت حلفاء إيران لمهاجمة مجتمع ممزق. وأسهم إذلال نتنياهو الفلسطينيين في زيادة التطرف. وليس من قبيل الصدفة أن "حماس" أطلقت على عمليتها اسم "طوفان الأقصى" ووصفت الهجمات على أنها وسيلة لحماية الأقصى من التعدي اليهودي. واعتبرت حماية الموقع الإسلامي المقدس سبباً يبرر مهاجمة إسرائيل ومواجهة العواقب الوخيمة الحتمية لأي هجوم مضاد يشنه الجيش الإسرائيلي.

ولم يعف الشعب الإسرائيلي نتنياهو من المسؤولية عن أحداث السابع من أكتوبر، فقد تراجعت شعبية حزب رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي، وانخفضت نسبة تأييده أيضاً، على رغم احتفاظ الحكومة بغالبية برلمانية. ولا يقتصر التعبير عن رغبة البلاد في التغيير على استطلاعات الرأي العام فحسب، فقد عادت النزعة العسكرية إلى الواجهة [عادت المشاعر العسكرية إلى الظهور بين مختلف الفصائل السياسية]. وهرع المتظاهرون المناهضون لبيبي إلى أداء واجبات الخدمة العسكرية الاحتياطية على رغم مشاركتهم في الاحتجاجات المستمرة، في حين حل المنظمون السابقون للتظاهرات المناهضة لنتنياهو محل الحكومة الإسرائيلية غير الفعالة، فتولوا مسؤولية رعاية الأشخاص الذين جرى إجلاؤهم من جنوب البلاد وشمالها. واستطراداً، تسلح عدد من الإسرائيليين بالمسدسات والبنادق الهجومية، مدعومين بمبادرة بن غفير الرامية إلى تسهيل منح تصاريح حيازة الأسلحة الصغيرة الفردية. وبعد عقود من التراجع التدريجي، من المتوقع أن ترتفع موازنة الدفاع بنحو 50 في المئة.

 

 

ومع ذلك، فإن هذه التغييرات، على رغم كونها مفهومة، هي عبارة عن تسارع [في وتيرة المنحى] لا تحولات. ولا تزال إسرائيل تتبع المسار نفسه الذي قادها إليه نتنياهو طوال سنوات. فأصبحت هويتها الآن أقل ليبرالية ومساواة، وأكثر ميلاً إلى العرقية الوطنية والنزعة العسكرية. ويهدف شعار "متحدون من أجل النصر"، الذي يرى في كل زاوية من زوايا الشوارع وعلى الحافلات العامة وقنوات التلفزيون في إسرائيل، إلى رص صفوف المجتمع اليهودي في البلاد. في المقابل، فرضت الشرطة قيوداً في الأقلية العربية في البلاد، التي أيدت بغالبية ساحقة وقف إطلاق النار السريع وتبادل الأسرى، فمنعتها مراراً وتكراراً من تنظيم احتجاجات عامة، إضافة إلى ذلك، وجهت اتهامات قانونية لعشرات المواطنين العرب بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي عبرت عن تضامنهم مع الفلسطينيين في غزة، حتى لو لم تكن تدعم أو تؤيد هجمات السابع من أكتوبر. وفي الوقت نفسه يشعر عدد كبير من اليهود الإسرائيليين الليبراليين بأنهم تعرضوا للخيانة من نظرائهم الغربيين الذين، من وجهة نظر أولئك الإسرائيليين، وقفوا إلى جانب "حماس". وهم يعيدون النظر في التهديدات التي أطلقوها قبل الحرب بالهجرة بعيداً من استبداد نتنياهو، وتتوقع شركات العقارات الإسرائيلية موجة جديدة من المهاجرين اليهود الساعين إلى الهرب من تزايد معاداة السامية في الخارج.

وكما كان الحال في زمن ما قبل الحرب، لا يفكر أي يهودي إسرائيلي تقريباً في طريقة لحل الصراع الفلسطيني سلمياً. أما اليسار الإسرائيلي، الذي كان مهتماً تاريخياً بالسعي إلى تحقيق السلام، فقد تضاءل الآن إلى حد كبير. ويبدو أن حزبي غانتس ولابيد الوسطيين، اللذين يراودهما إحساس بالحنين إلى إسرائيل ما قبل نتنياهو، ينظران بعين الرضا إلى المجتمع العسكري الجديد ولا يريدان المخاطرة بشعبيتهما الكبيرة بين الناس من خلال تأييد مفاوضات الأرض مقابل السلام. أما اليمين، فأصبح أكثر عدائية للفلسطينيين من أي وقت مضى.

واعتبر نتنياهو أن السلطة الفلسطينية هي صنو "حماس"، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، رفض المقترحات الأميركية الداعية إلى تسليم الحكم في غزة إلى السلطة الفلسطينية بعد الحرب، خوفاً من أن يؤدي مثل هذا القرار إلى إعادة إحياء حل الدولتين. ويريد رفاق رئيس الوزراء اليمينيون المتطرفون إخلاء غزة من سكانها وتهجير الفلسطينيين إلى بلدان أخرى، مما يخلق نكبة ثانية من شأنها أن تترك الأرض مفتوحة أمام مستوطنات يهودية جديدة. ومن أجل تحقيق هذا الحلم، طلب بن غفير وسموتريش من نتنياهو معارضة أي نقاش حول أي ترتيب يترك المسؤولية للفلسطينيين في غزة ما بعد الحرب وطالبا الحكومة بالامتناع عن التفاوض من أجل إطلاق سراح مزيد من الرهائن الإسرائيليين. علاوة على ذلك، حرصا على ألا تتخذ إسرائيل أي إجراء لوقف الهجمات الجديدة التي يشنها المستوطنون اليهود على السكان العرب في الضفة الغربية.

إن وحدة إسرائيل في زمن الحرب بدأت تتصدع بالفعل

وإذا أخذنا العبر من الماضي، فإن البلاد ليست في وضع ميؤوس منه تماماً. في الواقع، يشير التاريخ إلى أن هناك فرصة لعودة التقدمية وفقدان المحافظين نفوذهم. بعد الهجمات الكبرى السابقة، تحول الرأي العام الإسرائيلي في البداية نحو اليمين، ولكنه غير مساره بعد ذلك وقبل بالتنازلات الإقليمية مقابل السلام. فأدت حرب يوم الغفران عام 1973 في النهاية إلى السلام مع مصر، فيما أدت الانتفاضة الأولى، التي بدأت عام 1987، إلى اتفاقات أوسلو والسلام مع الأردن، وانتهت الانتفاضة الثانية، التي اندلعت عام 2000، بالانسحاب الأحادي الجانب من غزة.

لكن فرص تكرار هذه الديناميكية ضئيلة. وخلافاً لما حدث مع مصر ورئيسها عام 1973، لا توجد أي جماعة أو زعيم فلسطيني يمكن أن تقبل به إسرائيل. فـ"حماس" ملتزمة تدمير إسرائيل، والسلطة الفلسطينية ضعيفة. وإسرائيل نفسها ضعيفة أيضاً، فقد بدأت وحدتها في زمن الحرب تتصدع بالفعل، وهناك احتمالات كبيرة بأن تشهد البلاد مزيداً من الانقسام بعد أن يهدأ الصراع. ويأمل المناهضون لبيبي في التواصل مع مؤيديه المحبطين والضغط من أجل إجراء انتخابات مبكرة هذا العام. وفي المقابل، سيعمل نتنياهو على إثارة مخاوف الناس [والتركيز على التهديدات الخارجية] من أجل تعزيز مكانته السياسية والحفاظ على نفوذه. ففي يناير، اقتحم أقارب الرهائن اجتماعاً برلمانياً لمطالبة الحكومة بمحاولة إطلاق سراح أفراد أسرهم، وهو مما يشكل جزءاً من المعركة بين الإسرائيليين حول ما إذا كان ينبغي على البلاد إعطاء الأولوية لهزيمة "حماس" أو عقد صفقة لتحرير الأسرى المتبقين. ولعل الفكرة الوحيدة التي تلقى إجماعاً هي معارضة اتفاق الأرض مقابل السلام. فبعد السابع من أكتوبر، أصبح اليهود الإسرائيليون متفقين بمعظمهم على أن أي تنازل آخر عن الأراضي سيمهد لشن المسلحين هجمات أخرى.

في نهاية المطاف، قد يبدو مستقبل إسرائيل مشابهاً إلى حد كبير لتاريخها الحديث. مع نتنياهو أو من دونه، ستظل الدولة تعتمد نهج "إدارة الصراع" و"جز العشب"، وهذا يعني تعزيز الاحتلال والمستوطنات والتهجير. وقد تبدو هذه الاستراتيجية الخيار الأقل خطورة، في الأقل بالنسبة إلى الشعب الإسرائيلي الذي تأثر بأهوال السابع من أكتوبر وأدار أذناً صماء لاقتراحات السلام الجديدة. لكن ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيد من الكوارث. ولا يمكن للإسرائيليين أن يتوقعوا الاستقرار إذا استمروا في تجاهل الفلسطينيين ورفض تطلعاتهم وقصتهم بل وحتى وجودهم.

هذا هو الدرس الذي كان ينبغي للبلاد أن تستخلصه من تحذير ديان الخالد. على الإسرائيليين أن يمدوا أياديهم للفلسطينيين ولبعضهم بعضاً إذا كانوا يريدون تعايشاً مستداماً قائماً على الاحترام.

* ألوف بن هو رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"

مترجم عن فورين أفيرز، مارس (آذار) /أبريل (نيسان) 2024

المزيد من آراء