Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تمرد بلا تغيير... خلاصة عقد من الاحتجاج العالمي

ما من زعامات تتحدث باسم الشوارع ولا حركة تسارع لشغل السلطة التي سقطت غالباً بأيدي الدجالين والطغاة

كيف يتأتى لكل هذه الاحتجاجات الشعبية بالغة الكثرة أن تفضي إلى نقيض ما كانت تطالب به؟ (أ ف ب)

ملخص

هذا العقد تجاوز أي عقد آخر في تاريخ الحضارة الإنسانية في عدد تظاهراته الشعبية الحاشدة... فلماذا لم ينجح معظمها في تحقيق أهدافه؟

لماذا يخرج الناس إلى الشوارع؟ أعني خروجهم في الربيع العربي قبل عقد من الزمن، وأعني خروجك وخروجي كل صباح؟ في ظني أن السبب واحد: أن نفعل شيئاً، مهما هان أو عظم، تصبح حياتنا بعده غير حياتنا قبله، أعني أفضل مما كانت.

في كتابه (If We Burn)، وتعني "لو نحرق" مثلما قد تعني "لو نحترق"، فاختر لنفسك، يؤرخ فينسنت بيفنز للتظاهرات التي شهدها العالم في الفترة من 2010 إلى 2020، قائلاً إن هذا العقد "تجاوز أي عقد في تاريخ الحضارة الإنسانية في عدد تظاهراته الشعبية الحاشدة".

يتوقع الكاتب والمؤرخ الألماني جان فيرنر ميولر في مقالة حديثة له بـ"لندن رفيو أوف بوكس" أن يكون العقد الحالي بما شهده من "ردود فعل على حركة (حياة السود المهمة) والقيود المفروضة بسبب (كوفيد-19) ثم حرب إسرائيل و’حماس‘ حديثاً" في مثل اضطراب العقد الماضي. ويستدرك قائلاً إن "كثيراً من الحكومات تقيد حق التجمع، وهذه النزعة غير مفاجئة من المستبدين الذين تخلوا حتى عن التظاهر بالتسامح، لكن دولاً لها حق الزعم بأنها دول ديمقراطية تسنى هي الأخرى محاذير جديدة تستهدف الناس والممتلكات والدعايات"، ويضرب أمثلة بحبس المتظاهرين من أجل المناخ في بفاريا لإتاحة المجال لمعرض ميونيخ للسيارات، وبالمملكة المتحدة التي يمكن أن يتعرض فيها للاعتقال من يحملون أغراضاً صالحة لـ"تقييد الذات" على سبيل الاعتراض، وبألمانيا التي بات قانونها الآن يحظر رفع لافتات بعبارات معينة تمت لإسرائيل أو فلسطين بصلة.

ويضيف ميولر أن من المحاذير الجديدة ما يتعلق بالمكان، فـ"ليس مسموحاً بالتظاهرات الآن قرب المواقع ذات الأهمية السياسية، وإنما يتم نقلها إلى مناطق معزولة أو فقاقيع أو مناطق مخصصة لحرية التعبير" بما يجعل بقية الأماكن "مناطق حجر على التعبير". وإذاً فقد تقلص حيز الاعتراض قانونياً ومادياً، بحسب ما ينتهي ميولر في العقد الحالي. وإذاً ثمة من يستفيد من دروس الماضي القريب، وهم حتى الآن ممارسو القمع، لكن من يدري، فقد يستفيد أمثالنا من ضحايا القمع أيضاً من دروس العقد الماضي؟

سردية سريعة الإيقاع

صدر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في 352 صفحة عن دار "بابليك أفيرز"، كتاب "لو نحرق / نحترق: عقد الاحتجاج الجماهيري والثورة المفقودة"، للصحافي والكاتب الأميركي فينسنت بيفنز. ويبدو هذا العقد حقاً حافل بالاحتجاجات الشعبية، ولعل أشهرها وأولها الربيع العربي، لكن هناك أيضاً احتجاج متنزه غيزي في تركيا، وتظاهرات الميدان الأوروبي في أوكرانيا، وتمرد الطلبة في تشيلي وهونغ كونغ، واحتلال وول ستريت، وغيرها. ومع ذلك "لم يحصل إلا قليل جداً من الناس على ما يريدون، وفي حالات كثيرة جداً أفضت التظاهرات إلى نقيض ما قامت للمطالبة به" بحسب ما يكتب بيفنز.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والكتاب تاريخ عالمي، لا للماضي القريب، وإنما لـ"الآن"، فما من مبرر في تقديري لفصل تظاهرات العقد الحالي، بل العام الحالي، عن تظاهرات الأمس القريب. أجرى الصحافي الأميركي فينسنت بيفنز لقاءات مع مئات الأشخاص من شتى أرجاء العالم، ونسج من أفكارهم وذكرياتهم سردية يصفها ناشر الكتاب بـ"السريعة الإيقاع، المثيرة للاهتمام".

يكتب سكوت أندرسن ["نيويورك تايمز"، الثالث من أكتوبر 2023] أن بيفنز بوصفه مراسلاً لصحيفة "لوس أنغلس تايمز" قضى أغلب بدايات العقد الثاني من القرن الـ21 يغطي أميركا اللاتينية، ثم أعقب ذلك بجولة مطولة في جنوب شرقي آسيا مراسلاً لـ"واشنطن بوست". وكتابه الأخير "طموح بقدر ما هو واسع النطاق".

ابتداء بثورات الربيع العربي في الشرق الأوسط إلى ما عرف بثورة ضوء الشموع في كوريا الجنوبية، شهدت العشرية الثانية من هذا القرن تظاهرات حاشدة في أرجاء العالم تتجاوز أي عقد آخر على مدار التاريخ الإنساني. بل إن قصة ذلك العقد قد تروى بحسب بيفنز "بوصفها قصة الاحتجاجات الشعبية ونتائجها غير المتوقعة".

ولو أن الأمر كذلك فهي قصة حزينة، فمن جميع الاحتجاجات التي يؤرخ لها، لا يشير بيفنز إلا إلى واحدة باعتبارها ناجحة، وسبعة منها يعدها إخفاقات ذريعة أدت إلى نتائج سياسية أسوأ من التي سبقتها، ويتساءل "كيف يتأتى لكل هذه الاحتجاجات الشعبية بالغة الكثرة أن تفضي إلى نقيض ما كانت تطالب به؟".

يرى بيفنز أن طفرة وسائل الإعلام الاجتماعي ساعدت في تأجيج وتعميق الاحتقار للأحزاب السياسية التقليدية في البلاد الديمقراطية، فانعكس ذلك الازدراء في التظاهرات الشعبية، مثلما انعكس في كل شيء بدءاً بحركة "البريكزت" في بريطانيا إلى المشهد الفوضوي في البرازيل. ويؤكد افتقار التظاهرات العفوية إلى قيادة واضحة في أغلب الحالات، فكان أي فراغ في السلطة يمتلئ سريعاً من الدولة بينما تسقط عناصر الحركة الاحتجاجية أو ينافس بعضها بعضاً.

ويضيف أندرسن أن ذلك قد يصدق في حال البلاد الديمقراطية، وأن بيفنز "يقارن البرتقال بالتفاح حينما يطبق هذه الأفكار على بلاد أوتوقراطية، وبخاصة بلاد الربيع العربي. فعلى رغم عيوب الديمقراطية في البرازيل وكوريا الجنوبية فإن الحكومتين مسؤولتان في نهاية المطاف أمام الشعب، وأدوات القمع لديهما كانت محدودة. وهذا ما لا يمكن أن يقال في حق مصر أو اليمن أو سوريا، إذ حظيت أنظمة الحكم الاستبدادية بمخازن هائلة من إجراءات السيطرة على الساخطين وصولاً إلى إطلاق النار عليهم في الشوارع".

ففي محاولة القضاء على حركة "المظلة" في هونغ كونغ مثلاً تغلبت السلطات على المعارضة جوهرياً بالصبر، أما في سوريا فرموا عليهم المتفجرات محيلين أحياء بأكلمها إلى رماد، ولو أن بالإمكان الحديث عن قواسم مشتركة في هذا المقام فلعلها تتقلص إلى القول إن "من يملك السلاح يحقق النصر"، فيا لها من ثمرة هزيلة لتلك الرحلة الطويلة.

في استعراضه للكتاب، يكتب راين كلوس ["سبكتروم" يناير (كانون الثاني) 2024] أن "عشرات الملايين من البشر في شتى أرجاء العالم خرجوا إلى الشوارع، في كل قارة، إظهاراً لسخطهم ومطالبة بالتغيير. ومن موقعنا الممتاز في المستقبل، أي هنا في 2024، يتضح لنا أن التغيير لم يحدث، وأن السخط لم يزدد إلا عمقاً".

وهذا هو لغز كتاب فينسنت بيفنز، كيف لعقد اتسم بكم غير مسبوق من التظاهرات الشعبية الحاشدة أن يفضي إلى مزيد من الترسيخ لاقتصاد سياسي رديء، ومزيد من التعميق للتفاوت في الدخول والثروات، ومزيد من الإثراء للحمقى والبلهاء ومزيد من التمكين للفاشيين السافرين أو أشباههم في السلطة.

 

 

ويتجلى هذا أكثر ما يتجلى في البلدين اللذين يركز عليهما بيفنز في كتابه وهما البرازيل ومصر، ففي الأولى انتقلت السياسة من دولة اشتراكية يحكمها حزب العمال بقيادة ديلما روسيف إلى العنف الهزلي الذي يشرف عليه النازي العلني جايير بولسونارو. وفي الأخيرة انتهت تظاهرات ميدان التحرير الدراماتيكية التي أسقطت الطاغية العسكري حسني مبارك لينتهي الحال بعد سنوات قلائل إلى ما لعله النقيض لكل ما سعت إليه تلك التظاهرات.

"فما الذي حدث؟"، هذا السؤال بادي البساطة الذي يطرحه راين كلوس في مقالته عن الكتاب هو تحديداً الحسرة التي يعيشها ملايين منذ سنين، لا هم عرفوا له جواباً شافياً، ولا هم يئسوا منه. "كيف أمكن أن تكون هذه هي النتائج لما بدا، في أول الأمر في الأقل، تظاهرات حاشدة يسارية في العالم كله؟ فعند تقييم كل واحدة من انتفاضات العالم الكبيرة في هذا العقد وفق ظروفها الخاصة، فكلها إلا واحدة (في كوريا الجنوبية كانت محدودة النطاق للغاية) منيت بفشل ذريع".

لكي يفهم بيفنز ما جرى، فإنه يتحول إلى عالم اجتماع جيد، أجرى حوارات مع مشاركين من أنحاء العالم، مع تركيز على من أسهموا في إطلاق التظاهرات في البرازيل ومصر وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وأوكرانيا وتونس وتركيا وتشيلي وإندونسيا، وتركز تحليله على الـ"سوشيال ميديا" ووسائل تواصل رقمية أخرى، مبيناً كيف انتقلت الرغبة في النزول إلى الشوارع بين الناس انتقال العدوى عبر أسلاك الاتصال العالمي بالإنترنت، ثم أجرى بحثاً تاريخياً يبين فيه أن فكرة احتجاجات الشارع الضخمة غير العنيفة في الغالب نشأت من رحم الحركة الطلابية في ستينيات القرن الـ20 بوصفها إبداعاً إعلامياً أكثر من كونها رد فعل على مشكلات واقعية. والإعلام تجذبه المشاهد الكبرى. وعندما قرر نشطاء العقد الماضي من مستعملي "تويتر" و"واتساب" الحشد لقضية فإن تظاهرات الشوارع عديمة الزعامة الواضحة، والمدعومة رقمياً من الإنترنت، والضامنة للتغطية الإعلامية، كانت التكتيك الذي وقع عليه اختيارهم. وبدا منطقياً اللجوء إلى هذا التكتيك، وبخاصة بعد أن "أفلح" في تونس ومصر في أولى أشهر العقد.

غير أن هذا التكتيك لا يؤدي إلى نجاح، بل إن بيفنز يذهب إلى حد افتراض أنه لا ينجح إلا بالحظ الأعمى. وإثباتاً لهذا الزعم يلجأ الكاتب، شأن أي عالم اجتماع يعتد به، إلى الغوص في أعماق نظرية الثورات. فما تنجح في تحقيقه التظاهرات عديمة القيادة المنتشرة رقمياً ذات التغطية الإعلامية هو زعزعة استقرار بنية السلطة القائمة، أو تلك في الأقل هي الحال في جنوب العالم، فحينما يخرج ملايين إلى الشوارع يجدر بالسلطة أن ترتعش، وذلك ما تفعله عادة".

مرحباً بالحمقى والطغاة

غير أن بيفنز يوضح، وواقع الحال يوضح أكثر منه، أن هذه النوعية من التظاهرات لا تستطيع التعامل مع ما يأتي بعد ذلك. فما الذي يفعله المتظاهرون حينما تهتز الحكومات وتترنح وتقترح التفاوض أو تنهار تماماً؟ ما من زعامات تتحدث باسم الشوارع، وما من حركة تسارع لتملأ فراغ السلطة. ويوضح بيفنز أن عقوداً من الرأسمالية النيوليبرالية أفضت إلى رفض التنظيم الصارم وتأسيس الحركة المنضبطة واللينينية بين النشطاء اليساريين. فأشد طرق التظاهر ديمقراطية هي الخروج بلا زعامات. وأضمن طريقة لحماية النفس من اقتراف خطأ أخلاقي (من قبيل المقصلة لدى اليعاقبة، والحرب الأهلية لدى البلاشفة، ومحاكمات الإعدام التي ترأسها تشي غيفارا في كوبا) هي اجتناب الهياكل والهيراركيات. ومفهوم أن نشطاء العقد الماضي اليساريين المتعولمين لم يرغبوا في أن ينجم عن الثورة عنف ثوري فآثروا مرونة الحشود عديمة القيادة على الهيكل المنظم القوي. فبهذه الطريقة لا يضطر أحد إلى عمل ما لا يريد، ولا يتكلم أحد باسم أحد.

 

 

نتيجة ذلك أن التظاهرات الشعبية التي بدأها أولئك الشباب المتعولمون اليساريون سرعان ما اجتذبت فوضى من القضايا المتناقضة، وسرعان ما امتلأت فراغات السلطة التي تسببت فيها عن طريق الدجالين والحمقى والفاشيين، إذ بقي اليمين السياسي منظماً حتى بعد أن راجت بدعة رفض الزعامة. وكان الجيش في مصر صارم الانضباط والهيراركية، وكذلك طبقة الإعلام في البرازيل، فتمكنت من تشويه حزب العمال مع إبراز حماقة بولسونارو. وفي حين عزف النشطاء عن اتخاذ القرارات نيابة عن الناس، معتبرين أن تمثيل الآخرين هو في جوهره قمع لهم، كان خصومهم في المقابل يتخذون القرارات عن طيب خاطر نيابة عن الجميع، وغالباً ما كانوا يفعلون ذلك وهم يلوحون بالسلاح".

هذه إذاً هي الخلاصة بحسب بيفنز: حشد اليساريون الجماهير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وضمنوا لهم التغطية الإعلامية التقليدية بالتبعية، وبدت المشاركة في التظاهرات زهيدة الكلف نسبياً فاجتذبت كثيرين من أنصار رؤى مختلفة، وكانت تلك التظاهرات لا تكاد تصل إلى نقطة معينة حتى يهتز نظام الحكم القائم ويتزعزع، وينكشف في هذه اللحظة تفكك اليسار، وتشرذم المتظاهرين بعامة، فينفتح المجال مرحباً بالطغاة.

لكن لعل هناك خلاصة أخرى: في عقد التظاهرات الشعبية الحاشدة، أبدى ملايين البشر، في مختلف أرجاء الأرض، ومن مختلف الثقافات، وفي شتى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أو ببساطة، أبدت الإنسانية بكل ألوانها رغبة عميقة في التغيير، وأبدى كل أولئك الأفراد بسالة لابد أن ننظر الآن في وجوه بعضنا بعضاً ونتساءل أين ذهبت.

بدأت الإنسانية شيئاً ما ولكنه لم يكتمل. تلاحقت حلقات في سلسلة سرعان ما بدا أنها توقفت أو انكسرت، سلسلة كان ينبغي أن تقيم من ركام هذا العالم المرفوض عالماً أفضل، ثم لم يحدث شيء، لكن العقد الحالي لم يزل يشهد تجليات ملموسة مشهودة لهذا الرفض العميق في النفس الإنسانية للوضع القائم، فلم تزل حرب إبادة الفلسطينيين في غزة تثير الغضب في بقاع كثيرة من العالم على سبيل المثال.

ولعل التقويم يقطع بأن العشرية الثانية من هذا القرن انتهت، وأن الثالثة توشك على الانتصاف. لكننا لا نعيش في التقويم، والزمن حقاً متصل، وقد يظهر عما قريب كتاب يدرس العشريتين معاً باعتبارهما حقبة واحدة سادها الغضب وانتهت بالتغيير. وطبعاً قد يكون للكتاب عنوان آخر يشير مثلاً إلى صعود الشعبوية والاستبدادية في شتى أرجاء العالم، وازياد القمع والتعصب، وانتقال زعامة العالم من بلد يباهي، عن حق أو غير حق، برعايته للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، إلى بلد لا يتورع عن التباهي بالعكس في وضوح.

العنوان: IF WE BURN: The Mass Protest Decade and the Missing Revolution

تأليف: Vincent Bevins

الناشر: Hachette Book Group

المزيد من كتب