Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيرارا وغيتاي يغرقان في مستنقع الصراع في برلين 

انحياز أميركي حماسي لأوكرانيا وتجاهل يساري لمأساة غزة في المهرجان

فيرارا وزيلنسكي خلال تصوير "نكء الجراح" (ملف الفيلم) "

مخرجان قديران يسقطان في فخ الرداءة والادعاء والغموض، في شكل فاضح، وهذا منذ أول أيام الـ"برليناله" في دورته الرابعة والسبعين: الأول هو الأميركي من أصل إيطالي، الصادم والمستفز أبيل فيرارا الذي يقدّم "نكء الجرح"، والثاني زميله الإسرائيلي اليساري التقدّمي أموس غيتاي، وشاهدنا له مساء أمس "شيكرون" في عرضه الصحافي البرليني. كلاهما، وهما في بداية السبعينات اليوم، صاحبا تاريخ طويل من النجاحات والاخفافات، وها هما يغرقان في مستنقع الصراعات السياسية الحالية، من أوكرانيا إلى فلسطين. لحسن الحظ أن العملين عُرضا في قسم "خاص برليناله" غير التنافسي. 

في "نكء الجراح"، يستكشف فيرارا (على الأقل يحاول ذلك)، الصراع البشري والبحث عن السلام والتوازن من خلال موسيقى وكلمات لباتي سميث من جهة، وتجارب الناس في الحرب على أوكرانيا من جهة ثانية. بمعنى  آخر، الفيلم عن العدوان الروسي على أوكرانيا. واستخدام كلمة عدوان في هذا السياق ليس صدفة، لأن هكذا يراه المخرج، وهو ربما على حق. لكن ما لا يمكن فهمه واستعيابه وتقبّله هو انحيازه الكامل وغير المشروط للجانب الأوكراني، ممّا ينتج فيلماً دعائياً، رغم تجاوزه السبعين وامتلاكه باعاً طويلة في فهم خفايا الجغرافيا السياسية. حمل فيرارا كاميراه، وذهب إلى أحياء أوكرانية مدمّرة جراء القصف الروسي، ليلتقط روايات ناسها وضحاياها والمتضررين من جنون بوتين وجيشه. شهادات لا تقدّم ولا تؤخّر ضمن الصراع الدائر، ولا تحمل ذرّة من السينما، فيها تكرار فظيع وممل (رغم قصر مدة الفيلم)، وتفاصيل ليس لها أي محل من الإعراب. هذا كله لا يأتي بما هو جديد أو مختلف عمّا نراه أو رأيناه عن النزاع الروسي الأوكراني، وحتى توظيفه فاقد لأي حس ّجمالي ونقدي، مفكّك، بل مصوغ على شكل أفكار الرجل الأخيرة المشتتة على قاعدة "من كل واد عصا".

يصوّر فيرارا نفسه وهو يستمع إلى الناس، أحياناً يقول كلمة أو أكثر. ثمة مترجمة تنقل له تجربتهم. يمزج الفيلم هذه الشهادات بأغاني نجمة الروك والشاعرة الأميركية المعروفة باتي سميث، وبإطلالاتها على المسرح، مع بعض من تعليقاتها أمام كاميرا فيرارا. تقرأ لأنتونان أرتو وأرتور رامبو، لكن أي من كلماتها لا تحدث أي مفعول عندما يقترن بشهادات منكوبي أوكرانيا، بل على العكس، تشعر معها بالهوة بين العالم الحقيقي المهدد فعلاً، وعالم الفن الذي يبقى مجرد صرخة في البرية. حضور باتي سيبقى لغزاً، وإن شرحه المخرج بكلمات. لمَ هي هنا وما علاقتها بأوكرانيا؟ هذه من الأشياء التي سيكون من الصعب إيجاد مسوغات لها، وإذا وجدت فستكون مفتعلة. 

باتي سميث الحائرة

أما فولودومير زيلينسكي، الذي كان نجم افتتاح عدة مهرجانات سينمائية كبيرة في السنتين الماضيتين، وآخرها في برلين العام الماضي، قبل أن تثير هذه المبادرات استياء العديد من الحاضرين وسخريتهم لما يحمله من تدليس سياسي، فهو من شخصيات الفيلم، إذ يجري معه فيرارا مقابلة طويلة بلا معنى. في تعليق، لا يخفي إعجابه بالرئيس الأوكراني. يقول: "عندما سُئل الدالاي لاما كيف يمكنه مساعدة العالم، أجاب بالقول: "أن أكون أفضل نسخة من نفسي". عندما أرى باتي سميث في عملها وحياتها كشاعرة وكمغنية وكأم، أو الرئيس زيلينسكي يحكم بما لديه من تواضع، فهذا مصدر إلهام عندي. أريد ما لديهم، أريد أن أكون قريباً منهم، أن أتعلم منهم. الحرب بعيدة عن واقعي اليومي المباشر، لكنها حقيقة يومية للكثير من الناس الذين هم بشر مثلي تماماً. لا يمكن محاربة الموت والدمار إلا من خلال القيام بما هو عكسهما: الحب، الرحمة، التعاطف، الشعر، الأفلام".

مشكلة فيلم غيتاي، "شيكون"، أعمق، ولكن في الحين نفسه يصعب تأكيد ما مشكلته الحقيقية، لعلها بالأساس في طبيعة المشروع نفسه. فهو عبارة عن أحجية متتالية، ناس يتجولون داخل رواق في مبنى ويتحدثّون بلغة الألغاز، بشعر وبلاغة. الممثّلة إيرين جاكوب البطلة هنا، معها ينطلق الفيلم وبها ينتهي، وبين البداية والنهاية مجموعة ناس يمرون أمام الكاميرا، ويتحدّثون عن أشياء بعضها منزوع من سياقها. هؤلاء من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية، معظمهم يهود جاؤوا من أوروبا وغيرها، ليجعلوا من إسرائيل وطنهم. تقع "الأحداث" (إذا صحت تسميتها "أحداثاً")، داخل مبنى إسرائيلي متعدد الاستخدام، معروف ب"شيكون" (كلمة تعني "مساكن شعبية" باللغة العبرية، والأجواء مستوحاة من مسرحية "الكركدن" لأوجين يونيسكو، وهي عبارة عن مجموعة من الحلقات المسرحية التي تصورّ صعود الفكر الاستبدادي، فتتحوّل بعض الشخصيات إلى كركدن، فيما يقاوم البعض الآخر هذا التحوّل. الفيلم يحاول أن يمنح سقفاً لهؤلاء، كي يشعروا في منأى عن تهديد الكركدن لهم. ماذا يعني هذا كله؟ وكيف يُترجَم إلى واقع ملموس لإسقاطه على ما هي عليه إسرائيل اليوم؟ في هذا المجال، سيحتاج المُشاهد إلى الكثير من الصبر والتحليل والتمعن في الرموز ليأتي باجتهاداته الشخصية.

مع الحرب الدائرة في غزة، كنّا نتوقّع من مخرج جريء، طالما وثّق الصراع العربي الإسرائيلي على طريقته (هو احد المشاركين في حرب 73 وخرج منها جريحاً يحمل ندوبها)، أن يقول كلمته في ما يحدث حالياً، لكن هذا لم يحدث. فالوقت مبكر وبعض المسافة مطلوب. لكن، كانت لغيتاي دائماً مواقف قريبة من الفلسطينيين، كي لا نقول مؤيدة، ولا بد أن نتذكّر فيلمه "أنا عربية" أو  "رابين، اليوم الأخير"، وفيه صوّر التحقيقات التي تلت اغتيال إسحاق رابين في العام 1995، كلحظة عالقة في مسار التاريخ. في فيلمه هذا، كان غيتاي القاضي والمحقّق والمخرج والمناصر للقضية الفلسطينية والعلماني الغاضب، الذي طالما بادر إلى استجواب المجتمع الإسرائيلي، أمراضه وعقده وعدم تسامحه والاجتهادات الدينية لبعض من حاخاماته المتشددين الذين يحضرون في جديده في أكثر من مشهد. لم يخفِ غيتاي يوماً قلقه من تنامي ظاهرة التدين اليهودي التي يعتبر أنها تطيح أي محاولة لبناء تفاهم مع الآخر، والتهديد الذي تمثّله هذه الظاهرة يشمل الفلسطينيين كذلك. وقد ذكر في هذا السياق حادثة الرضيع الفلسطيني الذي تم حرقه على يد وحوش بشرية. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أن "شيكون" لا علاقة له بما يجري في غزة، لكن أي فيلم فلسطيني أو إسرائيلي ظهر وسيظهر بعد ذلك التاريخ، لا بد أن يحمل صداه ولو بشكل غير مباشر. 

لكنّ السينما لا تُصنَع بالنيات. فـ"شيكون" عمل ثقافوي جداً، يلّف ويدور حول المسألة من دون أن يناقشها فعلاً، وهو على قدر غير معقول من الفذلكة. وربما علينا أن نستمع إلى كلام غيتاي، كي نفهم ما يقصد: "الفيلم عن الفوضى في العالم، الفوضى التي جاءت نتيجة الحروب وعدم المساواة الاقتصادية والظلم. يميل معظم الأفلام إلى تلطيف هذه الفوضى، جامعةً التفسيرات المنطقية والنفسية والاجتماعية وغيرها من التفسيرات للسلوك الإنساني، وهذا ما يطمئن الجمهور. ولكن في رأيي هذا وهم وخيانة للأمانة. الواقع هو نتيجة القوى غير المتجانسة والانتهازية والتدخّل غير المنطقي. وداخل هذا كله هناك قوة فاعلة: الخوف. الخوف ليس أمراً مُعطى، بل هو مؤسَس، وهو من صنيع قادة مثل ترامب ونتنياهو وأوربان وبوتين وغيرهم. هؤلاء هم مهندسو صناعة الخوف، ومن البديهي أن حماس كذلك أيضاً. إنهم يزدهرون على الشعور بالخوف الذي ينتجونه ويحافظون عليه. هذا ما يمثّله الكركدن، وهذا ما علينا ان نقاومه".

 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما