Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل علينا أن ننقذ الأدب من ناشريه؟

يلتفت سينكين إلى ظواهر جديدة خاصة بالإنترنت وتيسيره النشر الشخصي على غرار "شعراء إكس"

سلسلة بشرية بطول كيلومتر لنقل الكتب من مكتبة قديمة إلى أخرى جديدة في رييكا الكرواتية (أ ف ب)

ملخص

ازداد الخلط بين فئتي القص الأدبي والتجاري بإطلاق أوبرا وينفري ناديها القرائي سنة 1996 إذ كانت تمزج عرضاً بين الثقافة الوسطى والثقافة الرفيعة فتقلل التمييز بينهما.

يحكي الكتاب الذي تتناوله السطور التالية قصة محببة، لكن على نحو قد لا نحبه. هي قصة الأدب، لا منذ أن جلست امرأة بعدما أشبعت أبناءها لتجد فيهم جوعاً آخر لا يشبعه إلا الكلام، فتكلمت، وإذا بكلامها يطمئن ويسكن، ويخوف ويحفز، ثم التقطت نساء ورجال غيرها العدوى واحترفوا الكلام، وبات الآلهة وأنصافهم، والفرسان وأمثالهم، ينفردون بخشبة المسرح ويستولون على ضمير الغائب الساحر، ثم تصدر الرعاع والصعاليك والنكرات المشهد وساقونا سوقاً إلى معرفتهم ومصاحبتهم.

قصة الأدب إذ انتقل من المعمار المتماسك إلى التفكك الدال أو قصته من التعبير عن الجماعة إلى الفرد. قصة قرأناها مراراً، وفتنتنا مراراً، وما أوحش أن نقرأها فتصادفنا عبارات من قبيل النمو ربع السنوي، وركود الاقتصاد والتضخم والتسويق، ولكن هكذا هي كما يرويها كتاب أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة إيموري دان سينكين (القص الكبير: كيف غيرت التكتلات الكبرى صناعة النشر والأدب الأميركي) الصادر ، أخيراً، عن مطبعة جامعة كولومبيا.

في استعراضها للكتاب "واشنطن بوست" في 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تكتب بيكا روثفيلد أن سينكين "يوثق لتكتل دور النشر الكبرى، ويفند في طريقه أسطورة "الكاتب الرومنتيكي" العبقري المنفرد المتحرر من أغلال الظروف الاجتماعية أو القيود المادية" فالكاتب عنده ليس ساكن البرج العاجي وإنما ساكن "عالم موظفي حقوق النشر والمخرجين الفنيين ومديري التسويق وفرق المبيعات وتجار الجملة ومشتري سلاسل الكتب... فأولئك الأشخاص الغامضون، المركزيون للغاية والمغمورون للغاية في الآن نفسه، يتسللون من الكواليس إلى صدارة المسرح في سرد فاتن وكاشف لتقلبات صناعة النشر الأميركية خلال نصف قرن، وتأمل مزلزل لأساليب التكتلات الكبرى في تغيير طبيعة القص الأميركي".

وتشير هيلاري بلوم ـ الشاعرة والناقدة والأستاذة بجامعة ولاية كليفلاند ـ في مقالها عن الكتاب (لوس أنجليس رفيو أوف بوكس ـ 24 أكتوبر 2023) إلى مقالة نشرها سينكين عند وفاة الروائي كورماك مكارثي، خلال يونيو  (حزيران) الماضي. كتب سينكين أن مسيرة مكارثي الجليلة ما كانت لتحدث لولا "تحول تكتوني في صناعة النشر إذ انتقلت من نموذج (البوتيك) المعهود في مطلع القرن إلى حقبة التكتلات" التي تلاقت فيها شركات الإعلام ودور النشر "فاندمجت وتكتلت وجاءتنا بـ"الخمسة الكبار" المسيطرين حالياً على نشر الكتاب في الولايات المتحدة.

يحكي سينكين أن روايات مكارثي الخمس الأولى نشرت وفق "النموذج القديم" وبها حظي بزمالات مرموقة وباحترام النخبة الأدبية، وأيضاً بأرقام مبيعات متدنية ودخل شبه معدوم. أما روايته السادسة (كل الخيول الجميلة) فصدرت عبر وكلاء ومحررين يعملون في "حقبة التكتلات" المسيطرة حديثاً، فولد مكارثي من جديد كاتباً كبيراً ناجحاً على المستوى التجاري. والتفتت إليه السينما، وظهرت أعمال له في قائمة نادي أوبرا وينفري للكتاب، وحصل على الجائزة الوطنية للكتاب، وجائزة بوليتزر، أما كتبه الأولى فلم تعد متاحة أصلاً.

يشير أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة إيموري دان سينكين إلى أن "كل الخيول الجميلة" كانت أيسر أعماله قراءة، فلاءمت النشر الضخم. "فهل حقق مكارثي نجاحه ذلك لأنه تعاقد مع تكتل تجاري وساعد رؤساءه الجدد بأن كتب رواية أكثر قابلية للتسويق من سابقاتها أم ابتعد عن أسلوبه القديم لمزيج من الأسباب الثقافية والجمالية والشخصية فتوافرت له مخطوطة أيسر قراءة في لحظة مناسبة بعد تقاعد محرره القديم وعمله مع فريق جديد؟ الإجابة الأولى هي بوضوح حجة كتاب سينكين الذي يسعى إلى إعلاء دور تكتلات النشر على دور الكاتب الفرد في تغيير القص الأميركي".

تكتب بلوم أن "لدينا ندرة شديدة في أمثال قراءة سينكين للأعمال الأدبية في سياق نشرها ـ الاقتصادي السياسي الاجتماعي ـ وهي قراءة لازمة. ويقدم الكتاب خلفية ثرية وتفصيلية تفسر إحساس القارئ بالتشابه الكبير بين كتب شركات النشر الكبرى".

 

 

يركز كتاب سينكين، على ما يسمى "القص الأدبي"، "كثيراً ما يطرح عليّ سؤال بوصفي أستاذاً للغة الإنجليزية عما أحب أن أقرأه، فأجيب أحياناً بأنه (القص الأدبي)، قاصداً القص الذي يعلي الفن على التسلية. ولم أكن أعرف حتى وقت قريب أنني واصطلاح (القص الأدبي) ـ وليس الأعمال التي يشير إليها بالطبع ـ متماثلان في السن تقريباً، لكن في حين أرجو لنفسي أن أكون في منتصف عمري، فلعل القص الأدبي قد مات. ولمزيد من الدقة، لعل الذي مات هو القص الأدبي بوصفه فئة ذات معنى في عالم النشر وبيع الكتب".

لا يتكلم سينكين هنا عن موت "أدب" بالضبط، وإنما عن موت فئة في النشر. وبدأ صعود مصطلح "القص الأدبي" قبل قرابة 40 سنة، ففي صيف عام 1980 ثار جون ديسور ـ محلل صناعة الكتب ـ على من يرثون لحال النشر. كانت موجة من الاندماجات والاستحواذات قد رسخت الصناعة في السنوات الأخيرة، إذ استولت التكتلات الكبرى على ناشرين كانوا في يوم من الأيام ناشرين مستقلين. وأخيراً، باتت خمسة تكتلات كبيرة متعددة الجنسيات ـ تعرف بالخمسة الكبار ـ تسيطر على معظم مهنة النشر".

"في مؤتمر صحافي أقيم سنة 1977 وصف هيرمن ووك ـ المتحدث باسم (اتحاد الكتاب) ـ التكتل بـ"الفعل الآثم" مشيراً إلى أنه "مع التكتل تضيق الهوامش والمساحات المقبولة للآمن والقابل للنشر". وفي مارس (آذار) 1980، شهد كتاب منهم أي أل دوكترو وأرتشيبولد مكليش أمام مجلس الشيوخ الأميركي مطالبين بتفكيك التكتلات الكبرى حفاظاً على الأدب، لكن ديسور خالفهما الرأي قائلاً "إنها لعجرفة ثقافية ونظرة متعالية إلى النجاح التجاري".

يكتب سينكين أن مصطلح "القص الأدبي" كان نادراً آنذاك، فلم يظهر غير مرات عبر تاريخ مجلة "بابليشرز ويكلي" ولم يظهر قبل 1980 في "نيويورك تايمز" إلا سبع مرات. كان القص ببساطة هو "القص"، ما لم يحتج إلى تعريف إضافي بوقوعه في فئة من فئات القص النوعي من قبيل روايات الإثارة أو الرومانسية أو الخيال العلمي أو الفنتازيا أو الرعب.

وبحلول الثمانينيات انتشر المصطلح فجأة في كل مكان، "ففي ظل ضغط اقتصادي كبير، استعمل الناشرون المصطلح لوصف الأعمال الأقل اتجاهاً إلى السوق. ووصف بائعو الكتب متاجرهم بأنها تعرض أو لا تعرض القص الأدبي، وجعل منه عارضو الكتب معياراً. وفي عام 1982، قال الكاتب إدموند وايت أنه يكتب (القص الأدبي) لأن السوق التي أقصدها، والقارئ الذي أتطلع إليه، هو الذي لا يبحث عن محض التسلية، إنما يبحث عما نبحث عنه في الفن، وهكذا برزت فئة (القص الأدبي) معلنة تمثليها لما ليس تجارياً أو جماهيرياً أو قصاً نوعياً".

لعل الأجدر بإثارة فضول القارئ في كتاب سينكين هو رصده عوامل غير أدبية، وإنما هي تجارية ربحية دائماً لعبت دوراً في توجيه الأدب وجهات كنا نظنها مغامرات جمالية خالصة، ولا ينبغي في تقديري أن يخلصنا هذا الكتاب من ظننا، بل حسبه أن يضيف عوامل جديدة، أرضية مادية، كان لها أثر محتمل، ولا بأس في ذلك، إنما البأس الأكيد هو أن تكون قد انفردت بالتأثير، وهذا ما أستبعده.

شهدت عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، بحسب سينكين، طفرة في صناعة الكتاب التي ازدهرت "برجوع المجندين وإقبالهم على القراءة. فراجت كتب من شتى الأنواع. وتوسعت الجامعات بفتح أبوابها لغير الرجال البيض منتجة مزيداً من القراء. وتبنى بعض الناشرين أخلاقيات عمل ديمقراطية بتقديم أوسع نطاق من الكتب لأوسع نطاق من القراء. وازدهرت سوق كثيفة لنشر الطبعات الشعبية من الكتب. فابتذل ناشرون فوكنر بأغلفة سوقية محققين الرواج لبعض أفضل أعماله، وباعت رواية توماس بينشن الأولى 200 ألف نسخة.

وبات ترومان كابوتي ونورمان ميلر من المشاهير، ولم يحتج أحد إلى فئة "القص الأدبي"... فالروايات التي كانت الصناعة تعدها روايات جادة كانت أيضاً تجارة مربحة. وإذن لم يحتج الأدب الجاد إلى فئة تبرر وجوده، سواء بسبب طفرة القراءة أو بسبب حيل ترويجه.

"وفي السبعينيات، تغيرت ظروف النشر فركد الاقتصاد، ورفع التضخم أسعار الكتب، وتقلصت القدرة على شرائها. ولما وقف دون ديسور سنة 1980 ليدافع عن الكتب التجارية، كان يدافع عن ثورة هائلة في الصناعة إذ شهد النشر توسعاً سريعاً وقوة متزايدة في التسويق والمبيعات وسيطرة لاسم الكاتب بوصفه علامة تجارية (ستيفن كينغ ودانيال ستيل). وفي أول سنوات الثمانينيات، بات يصعب النشر للكتاب ذوي المطامح الجمالية، أو تسويقهم. وبات الناشرون المستقلون في حال يرثى لها... واستثمرت التكتلات الكبرى (مدعومة بسلاسل متاجر الكتب، وحصص المساهمين، وارتفاع أسعار الفائدة، وفترتي الركود الاقتصادي في 1980 و1981-1982) في الكتب الرائجة والسلاسل المقولبة مع استبعاد لما بات يلزمه آنذاك اسم القص الأدبي. وبتصنيف كتاب في هذه الفئة كان يوسم عملياً بعلامة تهدي إليه الناشرين وبائعي الكتب والزبائن ذوي العقلية الجمالية".

حتى هنا لم يزل الأدب الجاد بخير، فقد لا يقبل عليه "الزبائن" لكن كتابته نفسها بخير. وفي أواسط الثمانينيات لاحظ محرر شاب يدعى غاري فيسكتجن أنه "يصعب نشر القص الأدبي جيداً" وأنه إذا ما نشر "يباع بصورة سيئة للغاية في طبعته الأولى الفاخرة" فـ"لا تصدر منه أبداً طبعات شعبية". فأنشأ فيسكتجن سلسلة لنشر الكتب ابتداء في طبعات شعبية تجارية (وتلك كانت بدعة في ذلك الوقت)، واستعان بمخرج فني ليمنح السلسلة "أغلفة ملائمة لحقبة (أم تي في) فتصدرتها صور سوريالية هزلية، لسيارة طائرة فوق صحراء، وساكسفون فوق المحيط، وأرنب على الشاطئ ناظر إلى نخلة مكسوة بالثلج، بتركيبة لونية مميزة من درجات الأصفر والأزرق والأرجواني.

بعد ذلك، أنشأ ناشرون آخرون خطوطهم الخاصة المماثلة فصدرت فيها أعمال لنيكولاس بيكر وري موند كارفر وديفيد فوستر والاس وجوي وليمز. ولبعض الوقت، أوجدت هذه الطبعات مأوى للقص "الجاد" و"التجريبي" أي للقص الأدبي داخل شركات النشر. ونظراً إلى زهد الكلفة، بات بوسع المحررين نشر كتب تناقش الجدلية الجديدة بين الفن والتسلية.

 

 

ويجدر بنا ألا نمر سريعاً بالعبارة الأخيرة: "كتب تناقش الجدلية الجديدة بين الفن والتسلية". فمن هنا قد يمكننا أن نبدأ فعلاً تلمس أثر الشرط التجاري على الغاية الجمالية للأدب. يكتب سينكين، "لو أن ابتداع فئة جديدة في النشر هي القص الأدبي رمى إلى المساعدة في بيع أعمال ترفض التجارية ـ وإن تم ذلك بدسها في أغلفة تجارية ـ فكيف يمكن لهذه الأعمال أن تنجو في صناعة تمضي إلى الخضوع التام للسوق؟ لقد نجا القص الأدبي بأن تطور وفقاً لمتطلبات بيئته الجديدة. ومن أنجح تكتيكاته في التكيف مع التجارية أنه تبنى تقنيات القص النوعي. ففي تسعينيات القرن الـ20 رأينا بعض الكتاب المخضرمين المرموقين يجربون أيديهم في ما بات الدارسون يطلقون عليه القص النوعي الأدبي. فظهرت لجوان ديديون رواية إثارة، ولكورماك مكارثي ثلاثية من روايات مغامرات الغرب. وبحلول أواخر التسعينيات وبدايات العقد التالي، كتب روائيون أصغر سناً من أمثال مايكل تشابون وجينيفر إيجان وجوناثان ليثيم وكارين راسل وأبرزهم كولسن وايتهيد روايات تداعب القص النوعي".

"وازداد الخلط بين فئتي القص الأدبي والتجاري بإطلاق أوبرا وينفري ناديها القرائي سنة 1996، فقد كانت تمزج عرضاً بين الثقافة الوسطى والثقافة الرفيعة فتقلل التمييز بينهما، جاعلة نتاج الفريقين كله قصاً أدبياً ومحيلة القص الأدبي إلى ثقافة جماهيرية. ودور أوبرا في توسيع القص الأدبي وإضفاء الطابع التجاري عليه يساعد في تفسير فتور جوناثان فرانزن حيال قرارها بإضافة روايته "التصحيحات" إلى قائمة ناديها القرائية، فقد قال إن روايته تنتمي إلى "تقاليد الأدب الفني الرفيع" وإن أوبرا تختار كتباً "عاطفية، أحادية البعد" يتخوف من الانضمام إلى رفقتهم. وسحبت أوبرا دعوتها إليه للظهور في برنامجها".

يلتفت دان سينكين إلى ظواهر جديدة خاصة بالإنترنت وتيسيره النشر الشخصي. أضافته مزيداً من الخلط بين الأدب الرفيع وأي شيء آخر، مشيراً على سبيل المثال إلى ظاهرة "شعراء منصة تويتر (إكس حالياً)" الذين يسوقون "شعرهم" برسوم وصور فبات "التمييز بين الأدب وغيره من القوالب" يتقلص بازدياد "وبتنا متجهين إلى ما يطلق عليه "اللاتمايز الأدبي" بحسب تسمية آرثي فادي". وهكذا لم يعد لمصطلح أو فئة "القص الأدبي" معنى على الإطلاق بحسب ما يقول سينكين.

تشير هيلاري بلوم في مقالها إلى خبرتها الكبيرة في عالم النشر، "عملت لقرابة عقدين محررة في دور صغيرة ومستقلة وأكاديمية، وأنشر رواياتي وكتب مقالاتي وشعري في دور صغيرة... وأفهم لماذا لن تنشر الخمسة الكبار أياً من كتبي... أعني أنني أنفق كثيراً من ساعات صحوي في عالم يناقض تسليع الأدب الذي يشغل سينيكين".

وهذا العالم هو الذي أحمد وأمثالي الله على وجوده، فهو الضامن الحقيقي لأن يبقى النبل أو الزهد قريناً بدوافع كتابة الأدب والتجريب فيه، لكن لا يجب أن نغفل عن العالم الآخر، الصاخب، الذي تلقى فيه أوراق اللعب وأوراق المخطوطات على الموائد الخضراء المستديرة المحاطة بالكلاب المقامرين، فهذا العالم يترك أثراً، ويكسب أرضاً، ويعمل طوال الوقت على أن يزيف مفهوماً للأدب يصدق على سلعه الجديرة بأن تبور.

العنوان: Big Fiction: How Conglomeration Changed the Publishing Industry and American Literature

تأليف: Dan Sinykin

الناشر: Columbia University Press

اقرأ المزيد

المزيد من كتب