Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فن الغرافيتي ينقل الشارع إلى الفضاء الافتراضي

معرض فرنسي يستكشف تاريخه العالمي ودور التقنيات الرقمية في تثوير ممارسته

غرافيتي ياباني عن جبل فويجي (خدمة المعرض)

منذ مطلع القرن العشرين، تحوّل الفضاء العام إلى ركيزة متميّزة للتعبير، إلى مكان إبداعٍ وعرض لفن يحدد نفسه على هامش المؤسسات الفنية الرسمية، ويُعرف بـ "فن الشارع". ومع وصول الإنترنت، ثم شبكات التواصل الاجتماعي، شهد هذا الفن ثورة أدّت إلى علاقة جديدة بين ممارسيه والمدينة. علاقة تشكّل موضوع المعرض الضخم الذي يستضيفه حالياً "القصر الكبير الغامِر" في باريس تحت عنوان "فن الشارع في العصر الرقمي"، ويهدف إلى تتبّع تاريخ هذا الفن وإظهار تأثير تقنيات الإنتاج والنشر الرقمية على عمل فنانيه.

وفعلاً، يشكّل هذا المعرض فرصة فريدة لاكتشاف كيف فرضت هذه الممارسات الفنية نفسها تدريجاً داخل الخيال الجماعي، وكيف ساهمت الثورة الرقمية خلال العقود الأربعة الأخيرة في تثويرها ونشر ثمارها. فبفضل التكنولوجيا الرقمية، صار ممكناً اليوم الجمع، في مكان واحد المقاربات المتنوعة لهذا الفن، وعرض ما لم يكن متوافراً منه إلا في موقع ابتكاره. وبالتالي، من الرسوم التي تعلو أنفاق مترو نيويورك، إلى اللوحات المنجَزة أو المصوَّرة بواسطة طائرات بلا طيار، مروراً بالجداريات الكبرى التي بدأت في الظهور مع مطلع الألفية الثالثة، وبأحدث التطورات في رسوم الغرافيتي التخريبية أو تلك التي تقوم على فن الاختطاف، يتيح المعرض لزواره فرصة اكتشاف فن الشارع بمختلف جوانبه، من خلال تجارب رقمية تم إخراجها بشكلٍ مدهش، ضمن خلفية موسيقية تعزز وقعها.

تكمن قيمة هذا المعرض أيضاً في كونه الأول حول فن الشارع الذي يستفيد من الابتكارات التكنولوجية لتقديم عمليات إعادة تشييد رقمية لبعض ثماره التي توارت اليوم، والسفر بزائره في مختلف أنحاء المعمورة للتأمل في أجمل الإنجازات التي شهدها هذا الفن على مر تاريخه. يتميّز المعرض أيضاً بتخصيصه فسحة مهمة للفنانات اللاتي نشطن داخل هذا الفن، وأخرى للمشاهد الفنية الجديدة التي، من الهند إلى المغرب العربي، جددت قوانينه. وكل ذلك خلال نزهة غامرة تسمح للزائر بإلقاء نظرة جديدة عليه، وعلى سيرورة انتقاله من جدران الفضاء العام إلى الشاشات الرقمية.

في الصالة الأولى من المعرض، يلفت منظموه انتباهنا إلى حقيقة مثيرة كنا نجهلها، ومفادها أن اهتمام المفكرين والعلماء والفنانين بالرسوم الجدارية لإنسان الكهوف لم ينطلق إلا عام 1933، إثر عرض المصوّر الفرنسي الكبير براساي صوره التي رصدها لرسوم الغرافيتي على جدران باريس، وبالتالي إلى ارتباط هذا الاهتمام ارتباطاً وثيقاً بالشغف الذي أثاره فن الشارع، وبالتأملات التي اقتيدت في سياقه. نعرف أيضاً في هذه الصالة أن النمساوي جوزيف كيزيلاك (1798 ــ 1831) يُعتبر أول رسام غرافيتي لتركه، أثناء ترحاله عام 1825 داخل وطنه، ثم في سلوفينيا وإيطاليا وبافاريا، رسوماً موقّعة باسمه على مئات المباني، قبل أن يبدأ جنود، في مطلع القرن العشرين، بخطّ جملٍ على الجدران أثناء نقلهم من مكان إلى آخر، أشهرها: "كيلروي مرّ من هنا" التي تعود إلى جندي أميركي خلال الحرب العالمية الثانية.

رسوم وفيديوات

في الصالة الثانية، نشاهد رسوماً وفيديوات تبيّن كيف أن الغرافيتي هو فن سرّي، غالباً غير قانوني، ولغة تشكيلية بقدر ما هو شكل من أشكال استكشاف الفضاء المديني. فممارسوه يتسللون إلى داخل نسيج المدينة لاستكشاف مختلف زواياها وزنقاتها، ويغامرون بالدخول إلى مستودعاتها وأحيائها المهمّشة بحثاً عن الإثارة، فضلاً عن المكان المثالي لترك توقيعهم أو رسمٍ لهم. وفي هذا السياق، يمكن أن تكون جميع الركائز مناسبة لهم، كالجدران والستائر الحديدية والأنفاق والقطارات والشاحنات، وحتى الطائرات.

أما كيف تسلل فن الشارع إلى العالم الرقمي، فعن طريق ألعاب الفيديو التي ملأ مصمموها ديكورها المديني الافتراضي برسوم الغرافيتي، الأمر الذي شكّل أول حملة رقمنة لهذا الفن السريع الزوال، الذي يتوارى من الشوارع بسرعة ظهوره فيها، لكن يحفظ آثاره أحياناً، لحسن الحظ، مصوّرون يثبّتون في صورهم ثماره الممنوعة، موثّقين بذلك لتطوّر فن كتابي باهر، في الوقت الذي تتخلى مجتمعاتنا عن الكتابة اليدوية لصالح النقر على مفاتيح الحاسوب.

الإيطالي أليكس فاكسو هو أحد رواد تصوير رسوم الغرافيتي. فمنذ مطلع التسعينيات، التقط كليشيهات ثبّت فيها الانفعالات والوضعيات النموذجية لهذه الممارسة: الركوع تحت قطار في الظلام، أو الوقوف أمام إحدى عرباته، بوجه ملثّم ومرذاذ في اليد. من جهته، يوثّق الألماني إدوارد نايتينغايل مشهد الغرافيتي منذ عقدين، من برلين إلى يريفان، مهتماً بالتصوير كوسيلة لتجميد لحظات حياتية قبل تواريها. وفي صوره، لا يتوجّه إلى عامة الناس بقدر ما يتوجه إلى فناني الشارع أنفسهم الذين يتشارك معهم "ذلك المزيج من الإثارة والخوف والمرح" أثناء غزو المدينة. أما المخرج كريستوبال دياز، فانطلق في أرشفة ثمار فن الغرافيتي في فرنسا عام 2015 عبر تصويره سيرورة إبداع فناني الشارع أثناء حدوثها، مركّزاً على حركية أجسادهم ومهارتهم في الرسم.

ولأن ممارسة هذا الفن بقيت لفترة طويلة حكراً على الشبان، خُصِّصت الصالة الثالثة من المعرض لنشاط فتيات، مثل الهولندية ميك لا روك، والفرنسية ليدي ك، والإسبانية لييا، تمكنّ من فرض أنفسهن داخل هذا المحيط الذكوري بالصورة التي شكّلنها لأنفسهن كـ "فتيات شقيّات"، بمراجعهن النسوية، وخصوصاً بإتقانهن المدهش لفن الغرافيتي وابتكارهن أساليب كتابية ورسومية جديدة ضمنه، يتجلى غناها وتعقيدها في فيديوهات صوِّرت بتقنية "الحركة البطيئة" أثناء عمل كل منهن.

الرسام والبخاخ

في الصالة الرابعة، نعرف أن تعبير " gettin’ up" (النهوض) داخل محيط فناني الشارع ينطبق على رسام أو بخاخ ينطلق في توقيع اسمه أو نشر رسومه في مختلف أنحاء فضاء عام معيّن بغية وسمه وتملّكه. ومع أن هذا المسعى يستحضر في طبيعته عالم العصابات والإجرام، إلا أن وسم المدينة على هذا النحو لا يحمل سوى طابع رمزي، وهو أشبه بلعبة يتواجه فيها عدة خصوم. وهذا السلوك تحديداً هو الذي حثّ منظمي المعرض إلى تخيُّل داخل هذه الصالة عالم افتراضي يتنافس داخله بخاخون للسيطرة عليه.

في الصالة الخامسة، نرى كيف تحوّل فن الشارع إلى ظاهرة دولية بفعل قدرة ممارسيه على استخدام الإنترنت. وفعلاً، أدرك هؤلاء في مطلع الألفية الثالثة أن نشر صور لأعمالهم على هذه الشبكة يدفع فنانين يعيشون على الجانب الآخر من الكوكب إلى النزول إلى الشارع بدورهم. أدركوا أيضاً أهمية شبكات التواصل الاجتماعي، مثل "فوتولوغ" و"ماي سبيس"، وإن لم يكن لديهم رؤية واضحة لمدى انتشار طائفتهم الفنية. ولكشف هذا الانتشار وحيويته، أطلقت شركة "غوغل" عام 2014 "مشروع غوغل لفن الشارع" الذي سعى المشرفون عليه إلى رسم خريطة هذه الظاهرة، والإجابة على الأسئلة الهوياتية والتقنية التي يطرحها مثل هذا المشروع، وأبرزها: ما الذي يفصل فن الشارع عن سائر الفنون؟ وكيف يمكن بناء منصة رقمية مرنة بما يكفي لاحتضان مختلف ممارساته؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي معرض الإجابة على السؤال الأول، تتوزع في الصالة السادسة أعمال وصور وفيديوات يمكن للمتأمل فيها أن يستخلص بنفسه أن الغرافيتي هو شكل جديد من أشكال فن التخطيط، وفن في حد ذاته. فمن الرسوم الأولى في تاريخه، التي اقتصرت على تواقيع مخطّطة، إلى تلك المعقّدة والمنفّذة بالمرذاذ، يحتضن هذا الفن أساليب بعدد ممارسيه. ويعدّ اختيار الاسم والحروف التي يتألف منها المرحلة الأولى لتحديد فنان الشارع نفسه ومكانه داخل محيط هذا الفن. بعد ذلك، يتوجب عليه بلورة أسلوب خاص به يشهد على موهبة فريدة في التخطيط والرسم. أما ممارسته في الشارع، فلا تفترض بالضرورة التزاماً بالدفاع عن قضية معينة، علماً أن سلوك معظم ممارسيه يتّسم بطابع ثوري غايته فضح الفوارق الاجتماعية الصارخة، واقع الارتهان للشعارات الدعائية، والتمرّد على السلطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المسؤولة عن ذلك، وأحياناً عن أكثر من ذلك، حين يتعلق الأمر بأنظمة دكتاتورية. وفي هذا السياق، يتخذ العديد من فناني الشارع وضعية مشابهة بوضعية قراصنة المعلوماتية (hackers)، لإدراكهم أن فنهم وقدرتهم على التلاعب بآليات عمل الشبكة العنكبوتية يسمحان لهم بإيصال رسائلهم إلى أكبر عدد من الناس.

لكن من حلمٍ بمزيد من الحرية والشفافية والتواصل، انزلق الإنترنت مع الأسف، خلال العقدين الأخيرين، إلى درك الشبكة الراضخة لقوانين نظام رأسمالي "مراقِب" غايته إخضاع أي شخص لسيطرة خوارزميات قادرة على التلاعب برغباته، وخلق رغبات غير ضرورية له، انطلاقاً مما تجمعه من معطيات عنه، وبالتالي على رهن إرادته وحثّه على الاستهلاك. انزلاق يشكّل موضوع عمل الفنان الإيطالي إيلفو، الذي تتجاور صور عنه، في الصالة الأخيرة من المعرض، مع صور عن عمل الفنان الإسباني إيمون بوي الذي يقوم على فضح قوانين الإنترنت المشبوهة، عبر نقلها إلى عالم الواقع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة