Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التجسس من الفضاء

فورة في صناعة الأقمار الاصطناعية ستحدث ثورة في الاستخبارات

لقطة من قاعدة "كيب كانافرال" بولاية فلوريدا تظهر إطلاق صاروخ "أطلس 5" الذي صنعه تحالف دولي، بتاريخ نوفمبر 2020 (رويترز)

ملخص

ثمة تطورات تقنية حاسمة في صناعة الأقمار الاصطناعية تجعلها أصغر حجماً وأسهل في الانطلاق إلى الفضاء، مع تزويدها بقدرات تقنية متقدمة في التجسس بما يجعلها تديم التحديق في أرجاء الأرض

في عام 2023، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية خطة طموحة لإطلاق ألف قمر اصطناعي خلال العقد المقبل. وكذلك يخطط "المكتب الوطني للاستطلاع" الذي يدير أقمار التجسس الاصطناعية الأميركية، كي يرفع حجم أسطوله الفضائي المكون حاضراً مما يزيد قليلاً على عشرين قمراً اصطناعياً، بمقدار أربعة أضعاف ذلك العدد خلال تلك المدة الزمنية نفسها. [يتولى المكتب نفسه مهمة رصد وتقصي عمليات التجسس الجوي والفضائي، بما في ذلك اعتراض مختلف أنواع الموجات اللاسلكية المستخدمة لتلك الغاية].

تستطيع حكومة الولايات المتحدة توسيع أسطولها الفضائي بتلك السرعة والفضل في ذلك يعود إلى سببين؛ الأول هو انخفاض كلفة إنتاج هذه الأقمار الاصطناعية والثاني أن إطلاقها إلى الفضاء أضحى أكثر سهولة. صُمم كثير من تلك الأقمار الاصطناعية الجديدة لغايات المراقبة. ومع نشر كل تلك العيون الجديدة في السماء، ستغدو الولايات المتحدة قادرة على الاحتفاظ بالقدرة على ما يسمّى "التحديق المستمر". وفي اللغة المتداولة في أوساط مجتمع الاستخبارات، تعني تلك الأمور [بشأن مضاعفة الأقمار الاصطناعية الأمنية] أن أميركا تستطيع مراقبة ما تعتبره أهدافاً لها، على مدار الساعة تقريباً ومن دون حتى رمشة عين. إن مستقبل المراقبة من دون رمشة عين سيعطي الولايات المتحدة القدرة على تحصيل كميات هائلة من البيانات، ثم ضخها من الفضاء إلى الأرض. في الوقت نفسه، ستسهم التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة وتقنية حوسبة السحاب؛ في القدرة على التعامل مع كل تلك المعلومات، وإبراز ما يتوجب على العناصر البشرية متابعته وملاحقته.

مع إفساح المجال أمام الولايات المتحدة بتتبع التحركات العسكرية وتنقلات الأسلحة بالوقت الحي المباشر، قد يتوصل الجيل المقبل من المراقبة الفضائية إلى بلورة فرص غير مسبوقة في ردع وإفشال محاولات البدء بحرب مفاجئة. حاضراً، يترك انخفاض وتيرة تحديثات الأنظمة مجالاً لتفويت تطورات حاسمة. مع ذلك، قد يؤدي تبني أنظمة مراقبة متقدمة في المستقبل إلى أخطار من نوع جديد. مع تدفق كميات هائلة من البيانات الآتية من تلك الأعداد المتكاثرة للأقمار الاصطناعية، قد يعاني النظام من البطء بسبب الحمولة الضخمة من المعلومات، ما يلقي بأعباء متزايدة على المسؤولين الذين سيتوجب عليهم اتخاذ عدد لا نهائي من القرارات؛ ما يفتح الباب أمام التعامل التفصيلي مع المعلومات، إضافة إلى تشتيت التركيز. وإذا استطاع المنافسون الحصول على تلك التقنيات نفسها، فقد يهددون القوة العسكرية الأميركية التي تمتعت طويلاً بحرية العمل، إذ سيغدو من الصعب على القوات الأميركية إخفاء تحركاتها.  

للتكيف مع هذا المشهد المتطور، يتوجب على إدارة بايدن تغيير طريقة عمل "مجلس الأمن القومي" لجهة معالجة المعلومات واستعمالها في عملية اتخاذ القرارات. إن التوسع المكثف في المراقبة الفضائية سيعيد تشكيل آلية عمل القوة العسكرية الأميركية عبر العالم؛ وبالتالي، كلما سارعت الولايات المتحدة في اتخاذ تدابير استباقية لمواجهة هذه التغييرات، زادت الفعالية في توجيهها والاستفادة منها لمصلحتها.

قصبة امتصاص مكلفة

تعود الرغبة في الحصول على استخبارات متجددة على مدار الساعة، إلى أزمنة بمثل قِدَم الصراعات الإنسانية، ولطالما حدث تضارب بين عمليتي جمع أقصى كمية من المعلومات، وإيصال تلك البيانات إلى من يحتاجونها في أقصر وقت ممكن. في الحرب الأهلية الأميركية، استطاع كشافة الفرسان جمع معلومات استخباراتية تكتيكية عن العدو، لكنهم لم يتمكنوا من الإبلاغ إلا على ما حفظوه عقب رحلة طويلة للوصول إلى مناطق آمنة. وحاضراً، ثمة مشكلة مغايرة. إذ تستطيع مسيّرات المراقبة الحديثة إرسال صور بصورة فورية تقريباً إلى مستخدميها، لكنها قد تُفوّت تطورات في مناطق العدو إذا لم تكن موجودة فوق أهدافها بشكل مباشر.

واستطراداً، واجهت وسائل الاستخبارات التي تتخذ من الفضاء مقراً لها تحديات تتعلق بالوقت والنطاق. وقد استطاع "مشروع كورونا"، أقدم نظام استخبارات فضائي استخدمته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي"، تصوير مناطق في الاتحاد السوفياتي وإعادة علب أشرطة الأفلام إلى الأرض، لكن الوقت الذي ينصرم بين جمع المعلومات والاستفادة منها، يُقاس بالأيام أو حتى الأسابيع. وفي سبعينيات القرن العشرين، حدث تطور تقني أدى إلى ظهور أقمار اصطناعية بحجم حافلة نقل طلبة المدارس، وتستطيع بث صور رقمية إلى الأرض، فقدّمت حلاً لمشكلة الوقت لكنها لم تُصنّع إلا بأعداد قليلة. استطاعت الولايات المتحدة إطلاق حفنة من تلك الأقمار الاصطناعية، ما ترك فراغات كبيرة في التغطية المطلوبة. [اعتمدت المركبات الجوية في برنامج "مشروع كورونا" على كاميرات تقليدية مزودة بأشرطة فينيل تضمها علب معدنية. وعند امتلائها، تُرمى تلك العلب من الجو إلى الأرض، مع باراشوتات تضمن وصولها بشكل آمن].

وحاضراً، بحسب مصادر متاحة للعموم على غرار مواقع التتبع الفضائي، يستخدم البنتاغون ومجتمع الاستخبارات حالياً ما يقرب من ستة أقمار اصطناعية كي تتتبّع موجات ضوء مرئية أو تحت الحمراء، مع عدد مماثل من أقمار اصطناعية أخرى للرادار قادرة على العمل أثناء الليل أو عبر الغيوم. تعتبر تلك النظم الموجودة بالفعل "فاخرة"، ما يعني أن كلاً منها يكلف مئات ملايين الدولارات في الأقل. وعلى رغم قدرتها على جمع معلومات عالية النوعية، وكذلك بثها إلى مشغليها، إلا أن هؤلاء يعتبرونها غير كافية لهم في حل مشكلة المدى الذي تشمله المراقبة المستمرة. وفي ظل غياب القدرة على مراقبة الأهداف المطلوبة كلها في الوقت نفسه، تكون الولايات المتحدة فعلياً قد راقبت الأرض عبر مجموعة من قصبات امتصاص عالية الدقة. [يعني ذلك أنه في كل لحظة، ينظر كل قمر اصطناعي ينظر إلى هدف معين على الأرض، ويمررها إلى المشغلين، فكأن المراقبة تمر عبر أنابيب صغيرة متعددة، مع غياب القدرة على مراقبة كل الأهداف الأرضية في كل لحظة].

عيون في الفضاء بتكلفة متدنية

أدى التقارب بين مجموعة من التقنيات المتطورة، مثل الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، والتضاؤل المستمر في حجم أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي عالي القدرة، إلى ظهور إمكانية أن تكتسب الولايات المتحدة القدرة على التحديق المستمر بالأهداف المطلوب مراقبتها كلها. وقد تدنّت كلفة إطلاق صاروخ بشكل دراماتيكي بالمقارنة مع زمن برنامج وكالة "ناسا" لمكوكات الفضاء، فتهاوى من حوالى 27 ألف دولار لكل رطل (أقل من نصف كيلوغرام) إلى 1200 دولار للرطل. وبفضل تقنية التصغير في أشباه الموصلات، بات حجم الشيء المطلوب نقله إلى الفضاء أصغر بكثير. إذ باتت الأقمار الاصطناعية المزودة بقدرات متقدمة في جمع المعلومات الاستخباراتية، تصنع بحجم حقيبة ظهر أو صندوق خبز. في الوقت نفسه، مكّن الذكاء الاصطناعي من التنسيق بين البشر والآلات في تكوين فرق متكاملة، مع نهوض خوارزميات الكمبيوتر بمهمات التصنيف السريع للبيانات والتعرّف إلى الأجزاء المهمة منها كي يعمل عليها البشر المتخصصون في تحليل المعلومات.

وقد استفادت الشركات الخاصة المتخصصة بإطلاق الأقمار الاصطناعية على غرار "سبايس إكس" و"روكيت لاب"، من تلك التقنيات لإنشاء ما يعرف باسم "المنظومات الكبرى" المكونة من مئات الأقمار الاصطناعية التي تنسق أعمالها كي تقدم معلومات استخباراتية إلى عامة الناس وقطاع الأعمال والمنظمات غير الحكومية. وبصورة متكررة ويومية، تُجدد تلك الشركات قواعد بياناتها المفتوحة المصدر والمتاحة على مستوى الكوكب بأسره. وتستطيع تلك الشركات تقديم معلومات استخباراتية جديدة عن أي نقطة على كوكب الأرض خلال نصف ساعة من طلب تلك المعلومات. على سبيل المثال، تملك شركة "بلانيت" قرابة مئتي قمر اصطناعي كل منها بحجم صندوق خبز، تصوّر الأرض كاملة مرة كل يوم. ويلتقط كل واحد من تلك الأقمار الاصطناعية عشرة آلاف صورة يومياً، وهو ما يغطي مساحة تعادل المكسيك. وحينما حلق منطاد التجسس الصيني فوق الولايات المتحدة في 2023، عمدت شركة "سينثتايك" Synthetaic المتخصصة بالذكاء الاصطناعي إلى التفتيش في قاعدة بيانات شركة "بلانيت" للبحث عن صور رحلة ذلك المنطاد بداية من الصين. وكذلك استطاعت خوارزميات شركة "سينثتايك" المتعلقة بتعلم الآلات، التعرّف إلى مسار رحلة المنطاد وصولاً إلى نقطة انطلاقه المحتملة في جزيرة هينان بجنوب الصين. ليس باستطاعة البشر إنجاز ذلك العمل ضمن تلك المدة الزمنية القصيرة.

ومع استمرار التطور في أعمال شركات القطاع الخاص، تحاول الولايات المتحدة مواكبة ذلك عبر خطط طموحة تتضمن توسعاً سريعاً في عدد الأقمار الاصطناعية التي ستطلق إلى الفضاء خلال العقد المقبل. وتملك وزارة الدفاع رؤية عن عالم خالٍ من الفجوات في التغطية [بالمراقبة عبر الأقمار الاصطناعية] على مدار الساعة، مهما كانت حالة الطقس. ومع مضاعفة أسطول الأقمار الاصطناعية التابع لـ"المكتب الوطني للاستطلاع" إلى أربعة أمثال عدده حاضراً، ستُلتقط صور تفوق أعدادها ما يحصل عليه حاضراً بمقدار عشرة أضعاف. أبعد من ذلك، يخطط كل من البنتاغون و"المكتب الوطني للاستطلاع" لاستخدام ما تجمعه الشركات التجارية من الصور الملتقطة من الفضاء، كي يعززا قدراتهما في ذلك المجال. وبنتيجة التجميع، سيتيح ذلك المخطط للحكومة مراقبة أشياء أكثر في أمكنة أكثر، مع عدم إبعاد عيونها عمّا تراقبه أبداً.

  تملك وزارة الدفاع رؤية عن عالم خالٍ من الفجوات في التغطية

 

في ظل حفنة الأقمار الاصطناعية المتطورة التي تملكها الحكومة الأميركية، يستلزم الأمر يوماً بأكمله لكل قمر كي يمر مجدداً فوق نقطة معينة من الأرض. في المقابل، مع نشر منظومة كبرى مكونة من مئات أو آلاف الأقمار الاصطناعية، سيغدو بوسع الحكومة الحصول بصورة مستمرة على معلومات عن هدف معين من دون إشاحة بصرها عنه. ومع تلك القدرة، قد تحتاج الولايات المتحدة إلى عمليات أقل في اختياراتها للأهداف المطلوب مراقبتها، إذ لم تعد بحاجة إلى تنظيم أولوياتها في عمليات جمع المعلومات.

وبالتالي، سيضحي ضمن استطاعتها مراقبة أشياء وأهداف من دون أن يتشتت انتباهها، بل ستتيح للخوارزميات ومحللي المعلومات الاستخباراتية والمسؤولين المولجين بمهمات اختيار الأهداف؛ التعرّف إلى أنماط الحياة اليومية وبالتالي معرفة الفارق بين ما يشكل نشاطاً عادياً وبين ما ليس كذلك. إذ تستطيع العين التي لا ترمش أبداً أن تراقب الأشياء كلها، من الحظائر التي تختزن الغواصات الصينية المزودة بصواريخ نووية، إلى منشآت الحرس الثوري الإيراني التي تهدد القوات الأميركية في العراق وسوريا. في الوقت الحاضر، لا يمكن رصد هذه الأنماط بشكل مستمر، وقد يتم التغاضي عن تطورات مهمة إذا لم يمر القمر الاصطناعي في سماء المنطقة.

عند اقترانها بالجيل المقبل من الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والتي يتم اختبارها ونشرها حالياً من قبل الولايات المتحدة، فإن هذه الأقمار الاصطناعية الجديدة ستمكن الجيش الأميركي من الاشتباك مع أهداف بعيدة المدى بسرعة وبأخطار أقل على أفراده. يمكن للقادة، على سبيل المثال، الإشراف على منطقة غرب المحيط الهادئ بأكملها من نقطة مراقبة جوية، مع تتبع كل السفن التي تقع ضمن دائرة المعارك. وفي المحصلة، ستوفر تلك الأقمار الاصطناعية قدرة غير مسبوقة على التنسيق بين الخدمات العسكرية المختلفة، إضافة إلى تنسيق العمل مع الحلفاء في عمليات حربية معقدة عبر معلومات تأتي من أنظمة متقدمة في القيادة والسيطرة تعمل بالاستناد إلى البيانات.

في سياق موازٍ، تتعامل كل من الصين وروسيا مع البيئة المعلوماتية السائدة والمتسمة بعدم الثبات والقابلة للتلاعب بها؛ كي تهدد نطاقات القوى الإقليمية المناهضة لهما والأقل قوة منهما. قد توفر أنظمة التحديق المستمر تغطية كافية لتوقع أعمالهم العدوانية. في الواقع، فإن نشر هذه القدرات التكنولوجية علناً يمكن أن يكون بمثابة رادع من خلال جعل شن هجمات مفاجئة أكثر صعوبة.

لا مكان للاختباء

لكن الفرص الجديدة تأتي مصحوبة بأخطار جديدة: فالاعتماد المفرط على تقنيات التحديق المستمر إلى تكوين عادات سيئة. لقد أظهر الهجوم الذي شنته "حماس" في الـ7 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، أخطار الاعتماد على التقنيات المتطورة. على مدار سنوات عدة، استعملت إسرائيل نظام مراقبة متقدماً تقنياً كي تراقب حدودها مع قطاع غزة. في المقابل، قدمت التكنولوجيا للقادة الإسرائيليين إحساساً زائفاً بالثقة، وأسهمت في قرار إعادة نشر الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون غزة، في الضفة الغربية.

على نحوٍ مماثل، قد يفضي الاعتماد المفرج على معلومات الاستخبارات التي تجمع من الفضاء، إلى ارتكاب حكومة الولايات المتحدة أخطاءً مشابهة. يضاف إلى ذلك أن الأنظمة المعززة بالذكاء الاصطناعي التي ستستطلع كل البيانات الجديدة قد ترتكب أخطاء أيضاً. ماذا لو تبين أن ما جرت ملاحظته بوصفه منصة إطلاق صواريخ متحركة ليس فعلياً سوى نموذج تضليلي أو، أسوأ من ذلك، باص مدني؟ وعلى العكس من ذلك، ماذا لو فشل نظام الذكاء الاصطناعي على نحوٍ ما في تنبيه المحللين البشر إلى نشر منصة متحركة للصواريخ النووية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستمراراً، من شأن الوصول إلى هذا النوع من المعلومات أن يتولى تشكيل الطريقة التي تعمل بها حكومة الولايات المتحدة، وكذلك الحال بالنسبة إلى صنع القرارات المهمة للأمن القومي. إذ قد يؤدي الوصول إلى ما لا نهاية له من إمدادات المعلومات الاستخباراتية إلى التعامل المُصغّر المتعجل مع الشؤون اليومية في الأمن القومي، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأزمات المفاجئة والحادة. وقد يغدو "مجلس الأمن القومي" ملوثاً بذهنية "فلنفعل شيئاً ما"، بمعنى انتشار الإحساس الملح بضرورة اتخاذ عمل ما بالاستجابة إلى مسائل أو أخطار جرت ملاحظتها، وذلك تحت تأثير الخوف من الظهور بهيئة المرتبك المتباطئ وعديم الفاعلية.

كذلك ستحتاج وزارة الدفاع إلى التعامل مع خطر حصول روسيا والصين على تلك التقنيات. إذ قد يؤدي ذلك إلى انكشاف عمليات عسكرية واستخباراتية حساسة أمام أعين الجمهور الواسع، وزعزعتها وفشلها. وكذلك فإن مفاهيم حربية تشدد على أهمية توزّع القوات المقاتلة وانتشارها، باتت تلقى رواجاً في المؤسسة العسكرية الأميركية؛ قد تضحي أقل فاعلية إذا أصبح من الصعوبة إخفاء تحركات القوات الأميركية. ومثلاً، يدعو مفهوم "العمليات الاستطلاعية الأساسية المتقدمة" لمشاة البحرية الأميركية المعروفة باسم مارينز، إلى نشر وحدات منها في جزر نائية بغية مهاجمة السفن الصينية المزودة بصواريخ بعيد المدى، في حال اندلاع حرب مع الصين. إذا استطاعت الصين توظيف تقنيات التحديق المستمر حيال منطقة غرب المحيط الهادئ وجُزره، فقد تستطيع تتبع تحركات القوات الأميركية ومصادر تزويدها بالإمدادات.

أنظمة المراقبة المستمرة قد تفرض خطر التصعيد النووي 

   

تقف الصين بالفعل على أهبة الاستعداد لإطلاق مثل تلك القدرات. إذ تدير شركة "شانغ غوانغ ستالايت تكنولوجي" بالفعل منظومة كبرى من الأقمار الاصطناعية تابعة لها. ومع حلول عام 2030، يفترض أن تصبح تلك الشركة الصينية قادرة على تصوير أي نقطة على الأرض كل عشر دقائق. ومع الأخذ في الاعتبار تواهن الحدود الفاصلة بين القطاعين العام والخاص في الصين، يغدو من المنطقي توقع أن تتمكن المؤسسة العسكرية الصينية من الحصول على وصول موثوق للمجموعات التي تديرها "شانغ غوانغ".

ربما يتمثل الأمر الأخطر في أن أنظمة التحديق المستمر قد تفرض خطر التصعيد النووي. وبالفعل، أعربت كل من الصين وروسيا عن استيائهما من التفوق الأميركي الملحوظ في عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية، وكثيراً ما انخرطتا في أعمال استفزازية مثل مضايقة رحلات المراقبة الأميركية واستهداف الأقمار الاصطناعية الاستخباراتية الأميركية بالليزر. وقد يؤدي تنفيذ أنظمة التحديق المستمر إلى تفاقم هذه التوترات، حيث قد يُنظر إليها على أنها مزيد من التعدي على مجالات أمنهما الجغرافية والزمنية.

واستكمالاً، ستغدو تلك الانطباعات فائقة الحساسية بشأن ما يتعلق بالمنصات المتحركة لإطلاق الصواريخ النووية. إذ تحوز الصواريخ المتحركة فاعلية خاصة في مسألة القدرة على الضربة الثانية [أي الرد على الضربة الأولى]، ما يعني أنها تعطي الدولة فرصة للرد على ضربة نووية عبر شن هجوم نووي مضاد، لأنه من الصعب العثور عليها وتدميرها قبل أن تشرع في عملها. وإذا استطاعت الأقمار الاصطناعية تحقيق تغطية مستمرة على مدار الساعة، فقد تضحى قادرة على تتبع الصواريخ النووية المتحركة بداية من لحظة مغادرة مخابئها إلى لحظة وصولها لموقع إطلاقها. في حال حدوث أزمة نووية، قد يتولد عدم استقرار استراتيجي بأثر من تلك القدرة على الرقابة المستمرة. ويرجع ذلك إلى أن الصين وروسيا قد تطلقان صواريخ بالاستجابة إلى ما قد تريا فيه تهديداً لضربتهما الثانية في الردع. وفي الأقل، يجدر بالولايات المتحدة توقُّع أن الصين وروسيا ستطوران تكتيكات وإجراءات مضادة متقدمة كي تحميا ما تحوزانه من تلك المصادر المتحركة.

الخداع والإجراءات المضادة

في سياق الاستعداد لمستقبل الرقابة المستمرة، يتوجب على إدارة بايدن وضع خطوط إرشادية عن أصناف مجموعات البيانات التي ستستعمل في تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي في مجال التعرّف إلى صور الأقمار الاصطناعية. ويتوجب أن يجري ذلك التدريب على مجموعات حقيقية وأخرى مولَّدَة بواسطة الحاسوب ومصنوعة استناداً إلى معلومات موثوقة وصحيحة عن الصور. كذلك يجب التثبت من مصداقية الخوارزميات ومأمونيتها، مع ملاحظة أن تكون مفهومة أيضاً. في الإطار نفسه، يجب على الإدارة أن تفكر بمسألة تقييد وصول المستخدمين إلى المعلومات الاستخباراتية التي تصل بشكل آني تقريباً. وقد يأتي ذلك مثلاً على هيئة حصر الدخول إلى تلك المعلومات بالخبراء ممن يعملون في الخطوط الأمامية ويحتاجون إلى ذلك النوع من المعلومات. وبالتالي، يجب أن يقتصر السماح بالتوزيع الواسع للمعلومات الاستخباراتية على عمليات معينة ووضعيات محددة بدقة.

بشكلٍ مماثل، يجب أن ينهض "مجلس الأمن القومي" بمهمة مراجعة آليات عمله وتعديلها، قبل أن يُثقَل بكل تلك المعلومات الجديدة. يفترض أن يتولى مستشار الأمن القومي مهمة توجيه مراجعة داخلية لآليات العمل والتوظيف، بغية تقييم قدرات المجلس ومدى الحاجة إلى التعامل مع المعلومات المتدفقة بالوقت المباشر. قد يحدد مثل هذا التقييم، على سبيل المثال، أن الوصول المنتظم إلى هذا النوع من المعلومات غير ضروري لموظفي "مجلس الأمن القومي"، وأنها يجب أن تبقى في أيدي خبراء تحليل المعلومات الاستخباراتية الذين يتولون لاحقاً إعداد ملخصات عنها كي يستخدمها المجلس. واستطراداً، يجب إبلاغ مؤسسة "استخبارات الاستراتيجية الوطنية" الحكومية عما تتوصل إليه عملية المراجعة، باعتبارها الجهة التي تدير عمليات إسناد المهمات وجمع المعلومات وتحليلها والاستفادة منها، إضافة إلى نشر المعلومات في صفوف مجتمع الاستخبارات. [يشير مصطلح مجتمع الاستخبارات إلى مجموعة مؤسسات الاستخبارات الداخلية والخارجية في الدولة الأميركية].

في الإطار نفسه، يتوجب على المؤسسة العسكرية الأميركية، أن تنخرط في إيجاد آلية لاستمرار عملها في ظل ظروف المراقبة المستمرة. أدى الاعتماد على التفوق العسكري الساحق في صراعات ما بعد الحرب الباردة إلى تآكل تدريجي لقدرات الولايات المتحدة في التمويه والإخفاء والإنكار والخداع على المدى الطويل. يجب على وزارة الدفاع التفكير في خيارات غير تقليدية في الإجراءات المضادة المتصلة بالسياسة والعمليات والتقنية، كي تتلاءم وتستفيد من التقدم في حقول كالذكاء الاصطناعي، وعلوم السلوك الإنساني وعلوم المواد (بما في ذلك مواد النانومتر والمواد النظيرة المشابهة للمواد الطبيعية)؛ وينبغي أن تكون هذه التدابير مصممة خصيصاً لمعالجة المستقبل حيث يستخدم الخصوم تقنيات المراقبة المستمرة. ومن شأن مثل هذه التقنيات أن تمكن الجيش الأميركي من دمج قواته وأسلحته وغيرها من الأصول بسلاسة في البيئة الطبيعية، وبالتالي إرباك خوارزميات التعرف إلى الصور ومحللي الاستخبارات الخاصة بالخصوم.

استكمالاً، يجدر بالاستراتيجية الجديدة أن توجه الاستثمارات على الفور، مما يدفع الجيش الأميركي إلى تخصيص المزيد من الموارد لتطوير أنظمة وتكتيكات التمويه، مع خفض تمويل أشياء ستصبح متقادمة ويتعداها الزمن، في البيئة المقبلة التي تتضمن أنظمة المراقبة المستمرة. ومع مسار متسارع بصورة غير مسبوقة للتطورات في علميات الاستخبارات في الفضاء، لم يبق من وقت كي نهدره.

ديفيد زيكوسوكا، مدير رفيع المستوى في "المشروع المتخصص في دراسات التنافس" ضمن وزارة الدفاع، وزميل مرموق غير مقيم في مؤسسة "أميركا الجديدة". وقد خدم سابقاً في مراكز عدة ضمن البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية.

مترجم عن "فورين أفيرز" 2 فبراير 2024

المزيد من آراء