Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زاو ووكي فنان التجليات البصرية الروحية

معرضه الفرنسي الحالي يقدم سيرورة إبداعه بين التخطيط الصيني والهايكو و تقاليد الرسم الأوروبي والأميركي

التجلي البصري والروحي في لوحة زاو ووكي (خدمة المتحف)

لا بد للعابر في مدينة دوفيل الفرنسية، أو للمقيم فيها، من التوقف في متحف مركزها الثقافي، "لي فرانسيسكان"، لمشاهدة المعرض الضخم الذي يقيمه للفنان الصيني الفرنسي الكبير زاو ووكي (1920 ــ 2013). فسواء في مضمونه أو في طريقة ترتيبه، يشكّل هذا المعرض تجربة بصرية وروحية فريدة من نوعها، تمنحنا فرصة استكشاف الحرية التشكيلية المدهشة التي تمتّع هذا العملاق بها طوال مسيرته الفنية المجيدة، من خلال نخبة واسعة من أعماله، تتراوح بين لوحات زيتية وأخرى مائية أو حجرية، ورسوم طباعية أو حبرية، وخزفيات. أعمال تشكّل أكثر من "ممرات إلى عالمٍ آخر" (عنوان المعرض).

لمن يجهل زاو ووكي، نشير بدايةً إلى أن أهميته تكمن أولاً في تمكّنه من المصالحة والصهر داخل فنه، عدة تقاليد ثقافية. فبعدما تشبّع من ثقافة وطنه، فأتقن فن التخطيط الصيني وفن الهايكو، تغذّى من تقاليد فن الرسم الأوروبي، إثر استقراره في باريس عام 1948، ومن الجرأة التي اتّسم بها فن الرسم الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ضمن هاجس واحد: تجسيد ذلك النفَس الذي يحيي المرئي والخفي، وفقاً لعلم الكونيات الصيني. نفسٌ نستشفّه في كل عمل من أعماله، وخصوصاً في لوحاته الزيتية والمائية، الحيّة بعبق ألوانها وحركية خطوطها، وبالتالي بجماليتها الشعرية الفريدة التي تفلت من أي تحديد.

سينوغرافيا معرض زاو ووكي الحالي لا تسمح فقط لزواره بالتجول بحرّية داخله، بل تساعدهم أيضاً، بطريقة تصميم صالاته كفضاءات تنفّسٍ، على استشعار بصري للنفَس الفاعل في أعماله، بدءاً بمدخله الذي يشكّل دعوة لمعانقة إرادة الفنان الشعرية وإدراك الدفق الحيوي والدائم الحركة، من خلال لوحة أولى غامضة توحي بانبثاق الحياة، ويؤطّرها اقتباسان للفيلسوف الصيني لاو تسو، ثم عبر مجموعة رسوم ليثوغرافية تستحضر بحرّية العناصر الأربعة، وتشكّل خير شهادات على توق صاحبها الثابت، إلى فتح ممرات إلى عالم آخر. ولا عجب في ذلك، فالرسم بالنسبة إليه، أبعد من مجرّد بحثٍ جمالي، هو ممارسة تُلزِم الإنسان بكليته، أي بكينونته المادية وبُعده الروحي والميتافيزيقي.

في الصالة الأولى، تحضر اللوحة الثلاثية المصاريع "احتفاء بكلود مونيه" (1991) التي تحاكي لوحة "زنابق الماء" الشهيرة. عملٌ سعى زاو ووكي فيه إلى التعبير عن سديم كوني تتصادى فيه الألوان مع الفراغ، وارتعاش الماء مع حيوية الخطوط، ويندرج ضمن اللوحات الكثيرة التي رسمها الفنان إثر لقاءات حاسمة مع فنانين كبار وقّعت مسيرته وتركت أثراً دامغاً على عمله، مثل هنري ماتيس وبول سيزان وكو يوان وهنري ميشو والموسيقي إدغار فاريز.

الفن القديم

في الصالة الثانية، تُعرَض نماذج من رسومه المنفّذة بالحبر والتي تنتمي إلى تقليد الفن الصيني القديم الذي تخلى زاو ووكي عنه حين وصل إلى فرنسا عام 1948، ثم عاد إليه بطريقة متحرّرة بعد عقدين. فنّ تتطلّب ممارسته تركيزاً جسدياً وذهنياً كبيراً نظراً إلى استحالة أي تعديل أو تصحيح فيه، وسعى الفنان في الرسوم التي أنجزها ضمنه، خلف تناغم شعري بين مفهومي الـ "ين"، المتمثّل بالورق الأبيض، والـ "يانغ" المتمثّل بالحبر الأسوَد. رسوم أدائية إذاً نستشعر فيها حركة الريشة، وطبيعة الألياف التي تتكوّن منها، وحيوية الخط المُسقَط بواسطتها، بشفافية وسلاسة وسرعة فائقة. رسوم تترجم دلالات وانفعالات مختلفة، وتشهد على الحضور النشِط والدائم للنفَس.

في الصالة الثالثة، نرى كم أن الرسم بالألوان المائية شكّل فضاء حرية كاملة لزاو ووكي، فلم يتردد في ممارسته بقياسات كبيرة جداً. وإذ سعى إلى الإمساك بالفراغ والصمت في هذه اللوحات، إلا أن الحياة تحضر عن طريق الألوان وفروقها الدقيقة على الورق الذي لطالما لازمه وسمح له بالرسم في أي مكان، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من حياته التي فاض فيها عدد مائياته. أعمال يومض سطحها بالإشراقات، وينفجر الواقع في فضائها تارةً على شكل باقة زهور ملونة قُذِفت في الهواء، كما في لوحة "بلا عنوان، غوديني" (2006)، وطوراً على شكل بحر يتمدد إلى ما لا نهاية، ضمن حركة سائلة منيرة وملائمة للتأمل، كما في لوحة "بلا عنوان، موريس" (2008).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الصالة الرابعة تضع تحت أنظارنا مختارات من المجموعات الشعرية التي حاور زاو ووكي نصوصها رسماً، وأخرى كتب أصحابها قصائدها انطلاقاً من تأملهم في رسومه. مغامرة انطلقت مع هنري ميشو عام 1949، وامتدت حتى عام 2007، فأثمرت 38 كتاباً فنياً مع كبار الشعراء، مثل رنيه شار وأوبير جوان وعزرا باوند وإيف بونفوا. نشاهد أيضاً في هذه الصالة سلسلة من الخزفيات التي أنجزها الفنان، وتعكس افتتانه بألق بياض السيراميك الذي استخدمه مثل لوحة عذراء من قماش، أو مثل صفحة كتاب، فأسقط عليه رسوما مائية رائعة عن طريق تقنية الطباعة الحجرية.

وفي الصالة الخامسة والأخيرة من المعرض، تحضر اللوحات الحجرية (stèles) التي أنجزها زاو ووكي ضمن تأثّر واضح بتقليدها الصيني القديم وثماره الشهيرة التي تتحدى الأبدية بديموتها الطويلة، وتتّسم بطابع احتفائي تخليدي. تقليد رافق الفنان منذ صباه، وفتنه بقيمته التخطيطية. وعلى رغم القطيعة التي سجّلها عام 1948 مع كل تقاليد وطنه الفنية، إثر مغادرته الصين للاحتكاك بإبداع رسامي الغرب الكبار، لكنه لم يتمكن من عدم إنجاز "لوحة حجرية لصديق"، عام 1956، إثر وفاة واحد من أصدقائه القدامى. كأن هذا التقليد فرض نفسه عليه في تلك اللحظة المؤامة، فاستجاب له، لكن ضمن حرية تشكيلية كبيرة، قبل أن يهمله من جديد على مدى خمسة عقود، ليعود إليه عام 2006 وينجز عشر لوحات حجرية رقّمها من الرقم واحد إلى عشرة. أعمال مدهشة تُقلّم ريشة الفنان سطوحها بخطوط تتمدد بحرية كبيرة، وتُشعل في فضاءاتها فروقاً لونية تستمد حيويتها من تراوحها بين خفة وصلابة، رقة وسماكة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة