Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا تكلم صدام حسين

لو أصدر ستيف كول كتابه "فخ أخيل" في 2002 فربما كانت انتهت مسيرته المهنية لأنه يقدم الرئيس العراقي الراحل إنساناً لا رسماً كاريكاتيريا

التعتيم المعلوماتي الذي فرضته الولايات المتحدة على أراشيفها العسكرية كانت له نتائج كارثية على العالم كله وليس عليها وحدها (غيتي)

ملخص

وصف كتاب "فخ أخيل" بأنه في منزلة فنجان قهوة قوية موضوع أمام مخمور غائب الوعي ذلك المخمور هو مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية

كتب ستيف كول الصحافي الأكاديمي الحاصل على جائزة "بولتزر" والعميد الفخري لمدرسة كولومبيا للصحافة مقالة حديثة في صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 28 فبراير (شباط) الماضي وصف أميركا بأنها "اقترفت أسوأ أخطائها في السياسة الخارجية في ما بعد حقبة الحرب الباردة حينما غزت العراق في 2003 لتجريد الرئيس الراحل صدام حسين من أسلحته النووية المفترضة، فكبدت الحرب الناجمة عن ذلك ثمناً باهظاً من أرواح العراقيين والأميركيين ومواردهم، وزادت إيران قوة، وأججت صراعات الوكلاء الإقليمية، وأوقعت واشنطن في شرك الشرق الأوسط، وذلك ما تبين أخيراً لإدارة جو بايدن على نحو موجع".

هذه المقالة تمثل إلى حد ما خلاصة لأحدث كتب كول التي صدرت حديثاً عن مطبعة بنغوين في قرابة 560 صفحة بعنوان "فخ أخيل: صدام حسين والاستخبارات المركزية الأميركية وأصول غزو أميركا للعراق".

فخ أخيل

ستيف كول كاتب جاف بارد صارم المعلوماتية، بحسب روبرت كابلان في "نيوستيتسمان" بتاريخ 21 فبراير 2024 الذي يمضي قائلاً "إنك تقرأ كتبه عن حروب أميركا في الشرق الأوسط، فتشعر بأنك حصلت في الموضوع على فصل الخطاب، مع أن تفسيراته لما جرى لا تكون واضحة ولكنها، كما في حال ثوقيديس المؤرخ الإغريقي للحرب البيلوبونيسية تستخلص من تفاصيل الحقائق التي يقدمها"، ولعل كتابه الأحدث أكثر كتبه اعتماداً على الحقائق والمعلومات نظراً إلى طبيعة مصادره.

يكتب ستيف كول أن صدام حسين "كان يسجل حواراته الرئاسية الخاصة بدأب ريتشارد نيكسن في ذلك، فترك وراءه قرابة 2000 ساعة من التسجيلات، وكذلك أرشيفاً هائلاً من محاضر الاجتماعات والسجلات الرئاسية"، وذلك طرف من مواد صحافي "الإيكونوميست" في تأليفه "فخ أخيل" التي لم يكن حصوله عليها بالأمر اليسير.

"بينما أبحث في صراع صدام حسين مع أميركا، قاضيت البنتاغون، وبمساعدة من لجنة الصحافيين من أجل حرية الصحافة، حصلت على مجموعة من أشرطته وملفاته، ومنها بعض مما لم يفرج عنه من قبل، وقد تبين أنها عظيمة القيمة لمشروع كتابي، لكن من المؤسف أنني اضطررت إلى تكبد ذلك العناء، ومن مصلحة الولايات المتحدة الواضحة أن يتاح كامل الأرشيف للباحثين، بحيث يتسنى للآراء العميقة المتعلقة بديكتاتورية صدام حسين أن تطلع الرأي العام الأميركي والحكومة على ما فيه نفع أكيد"، وفق الكاتب.

ولعل من فضائل كتاب كول أنه يؤكد أن التعتيم المعلوماتي الذي فرضته الولايات المتحدة على أراشيفها العسكرية كانت له نتائج كارثية على العالم كله وليس عليها وحدها، فالدروس التي كان يمكن استخلاصها، وبالتبعية الانتفاع بها، بقيت حبيسة غرف موصدة.

من الدروس التي يكشف عنها ستيف كول في كتابه أن امتناع مستويات الإدارة المختلفة في الولايات المتحدة عن التواصل مع صدام حسين ومع طغاة آخرين جعل الإدارة نفسها تغفل حقائق كانت معرفتها ستغير من قراراتها ومن التبعات التي ترتبت على تلك القرارات العمياء فنالت من جميع الأطراف، بحسب ما يكتب.

"لقد تعلق عملي في كتاب (فخ أخيل) بخلفية غزو 2003، من وجهة نظر الرئيس العراقي إلى حد كبير، ولكنني لم أملك إلا أن أتأمل في الكيفية التي ربما كان يمكن أن يتخذ بها صانعو القرار الأميركي قرارهم على نحو أفضل وفي الدروس التي قد تستفاد اليوم من إخفاقاتهم، من المحال أن نفهم الآخرين أو نؤثر فيهم من دون إرجاء للحكم عليهم والسعي إلى رؤية العالم بأعينهم، وبوصفي كاتباً، أتيحت لي سبل النظر إلى حسين إنساناً دونما تطهير له"، بحسب ما يرى كول.

وتابع القول "إن حوافز السياسات الديمقراطية التنافسية تكافئ شيطنة الأعداء ولا تكاد ترى فضلاً للتأمل العميق لطاغية أو في الانصراف عن الرأي السائد في دوافعه، على المستوى النظري ينبغي لمحلل معلومات غير حزبي يعمل في الاستخبارات المركزية الأميركية ومثلها من الوكالات أن يكون قادراً على التفكير وتقديم المشورة بحرية في ما يتعلق بشخصيات ودوافع أخطر خصوم أميركا، وعلى مستوى الواقع، غالباً ما يقع المحللون المهنيون في فخ إعادة تدوير السائد من الرأي العام أو الرأي السياسي، ومن المؤكد أن هذا يفسر لنا سوء أحكام الاستخبارات في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل المملوكة لحسين".

تفاصيل مهمة

وواصل كتاباته قائلاً "كما أن حوافز سياسية محلية تثبط أيضاً الرؤساء عن الحديث إلى الطغاة الأعداء، وليس أو هي أسباب ذلك أن الحديث إليهم قد يقوض عقوبات اقتصادية تحاول الولايات المتحدة فرضها، لقد قال الرئيس الأميركي بيل كلينتون لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير في جلسة خاصة سنة 1998 ناقشا فيه أمر صدام حسين إنه ’لولا قيود الصحافة، لرفعت سماعة الهاتف واتصلت بالوغد، لكن هذا قرار ثقيل في أميركا، ولا يمكنني أن أفعله’، وواقع الأمر أنه بعد مطلع عام 1991، وفي حدود ما هو معروف، لم يحدث أن تكلم مسؤول أميركي ذو شأن مباشرة مع حسين أو كبار مبعوثيه، ولم يحدث إلا بعد اعتقاله في ديسمبر (كانون الأول) 2003، إذ تبادل تدخين السيجار مع عديد من محققي الاستخبارات والمباحث الفيدرالية في سجن خارج بغداد، وبدأ يعرض آراء ساعدت في تفسير أحكام أميركا الخطأ عليه".

ويكتب روبرت كابلان أن كول في "فخ أخيل" يركز على العراق ومشكلات تحليل ما كان يجري فيه بالفعل، وأن "البطل الرئيس في الكتاب هو صدام حسين، فصورته فيه تفصيلية إلى حد التطرف، تصل إلى علاقاته العائلية، وعدد ما كان يدخن في اليوم من سجائر الكوبية، والروايات التي كتبها، والزعماء الذين كان مفتوناً بهم"، ويبين أن "صدام كان مستمعاً عظيماً ومثيراً لأعصاب من يحدثونه في الآن نفسه، وذلك لثبات تعبير وجهه بما يجعل قراءة أفكاره مستحيلة، وكان أيضاً متقلب المزاج، فقد يوضع كبار علمائه النوويين في السجن لشهور قبل مكافأتهم بمناصب ومسؤوليات بيروقراطية جديدة، ويخلص كول لأسلوبه، القائم على إجراء أطنان من الحوارات والتنقيب في ما لا يحصى من الوثائق، فيوثق لأشخاص وأسر خبراء صدام النووين بتفصيل كبير".

يتتبع كول تغيرات العلاقة الأميركية العراقية عبر الإدارات والعقود المختلفة، بدءاً بإدارة رونالد ريغان التي قدمت هي والاستخبارات المركزية الأميركية بصفة خاصة من الدعم لصدام حسين قدر ما استطاعوا لصد إيران في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، على رغم إحباطهم من سوء القيادة العسكرية العراقية الناجمة عن ميل صدام إلى ملء مناصب الجيش العليا بالبعثيين الثقات، وعلى رغم معرفة المسؤولين الأميركيين لوحشية صدام و"برروا دعمهم له بكونه محدثاً علمانياً"، فكان لزاماً عليهم أن يتقبلوا إعدام كوادر البعثيين فور تولي صدام للسلطة سنة 1979 وقتله بغاز الخردل الجنود الإيرانيين المراهقين، وقتله بالغاز عشرات الآلاف من المدنيين الأكراد سنة 1988 إلى آخر ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يواصل الرئيس الأميركي جورج بوش الأب فقط سياسة ريغان مع صدام "بل سعى إلى تحسين العلاقات الثنائية، وذلك مرة أخرى لدور العراق في تحجيم إيران لصالح بقية العالم العربي، ويقلب كول هنا السيناريو المعهود لقصة الولايات المتحدة والعراق، بأن يبسط المعلومات لا أكثر، ففي عشية غزو صدام للكويت في صيف عام 1990، استدعى الرئيس العراقي السفير الأميركي في بغداد أبريل غلاسباي لاجتماع وفي ثنايا اللقاء أشارت غلاسباي إلى أن الولايات المتحدة لا تتخذ موقفاً في النزاعات العربية الداخلية، وانصب اللوم على غلاسباي فوراً باعتبار أن أداءها الضعيف أعطى عملياً لصدام الضوء الأخضر لغزو الكويت، وانتهت مسيرة غلاسباي المهنية (ولا أخفيكم أني وجهت اللوم لها في كتاب لي)، لكن كول يقدم الخلاص لغلاسباي حين يقول إنها ما فعلت إلا أن كررت سياسة إدارة بوش الأب، ويوضح كول أنها لم تكن مبعوثة رئاسية خاصة، ولكن محض سفيرة فما كان لها سلطة أن ترتجل في حديثها مع صدام".

"ثم إن تلك الإدارة هي التي فشلت فشلاً ذريعاً في ردع صدام ولم تعن بتحذيره في الأيام والأسابيع السابقة على غزو الكويت بأنه سيواجه مقاومة قوية من الولايات المتحدة في حال عبور جيوشه الحدود إلى بلد عربي آخر، فأدى ذلك الفشل إلى حرب الخليج الأولى التي لولاها ربما ما كنا شهدنا الحرب الثانية عام 2003".

انتقلت الإدارة الأميركية من الدعم الكبير لصدام، إلى تشبيهه بهتلر الذي لا بديل عن الانتصار عليه عسكرياً، بل لقد حاول جيش الولايات المتحدة واستخباراتها خلال حرب الخليج الأولى اغتياله "لكن بوش الأب تراجع بعد الحرب مدركاً أنه بحاحة إلى بقاء صدام في السلطة لمنع الفوضى في العراق وليكون وقاء من إيران"، فنشأ نظام العقوبات إلى أن "بات صدام في غاية الوضوح في شأن برنامجه الخاص بأسلحة الدمار الشامل".

أدلة مزيفة

يتساءل كول "لماذا ضحى صدام حسين بفترته الطويلة في الحكم، ثم بحياته نفسها في نهاية المطاف، حينما خلق انطباعاً بأن لديه أسلحة خطرة لم يكن لديه منها شيء؟"، فذلك في رأيه سؤال لم يلق القدر الواجب من الاهتمام في ظل انصباب التركيز، انصباباً مستحقاً في تقديري، على تزييف أدلة وجود أسلحة دمار شامل في العراق.

ويكتب كول أن "أسباب عجز صدام حسين عن إيضاح عدم امتلاكه أسلحة دمار شامل في ما قبل 2003 تكمن في صراعه المأسوي الممتد لعقود مع واشنطن: من تعاونه الخفي المريب مع الاستخبارات المركزية الأميركية خلال الثمانينيات، مروراً بحرب الخليج 1990 و1991 والنضال المدعوم من الأمم المتحدة لنزع أسلحة العراق بعد ذلك، ثم ذروة الصراع في مواجهة ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، فقد أمر صدام سراً في ما بعد حرب الخليج بفترة وجيزة بتدمير أسلحته الكيماوية والبيولوجية نزولاً على مطالب واشنطن والأمم المتحدة".

وأوضح الكاتب "وكان صدام يرجو من ذلك أن يتيح للعراق اجتياز أعمال التفتيش الخاصة بنزع السلاح، لكنه أخفى ما فعله وكذب مراراً على المفتشين، ولم يصدق مع قادته العسكريين، خشية أن يثير هجمات داخلية أو خارجية، وكان قراره هو الجمع بين الامتثال للمطالب الدولية والكذب على مفتشي الأمم المتحدة، فكان ذلك القرار تحدياً للمنطق الغربي، وما كان حسين ليقبل المذلة العلنية لأسباب ليس أقلها أنه رأى أنها لن تفلح، فقد قال لأحد زملائه من الرؤساء إن ’من الأخطاء التي يرتكبها بعض الناس عندما يقرر عدو إلحاق أذى به، هو أنه يعتقد بوجود فرصة لتقليل الأذى في حال تصرفه على نحو معين’ والحقيقة بحسب ما قال هي أن ’الضرر لن يكون أقل’".

وفي صحيفة "ديلي تلغراف" كتب صمويل راتر بتاريخ 27 فبراير 2024 أن الكشف الغريب الكامن في قلب كتاب "فخ أخيل" هو أنه "لم يؤمن أحد في ما يبدو بقوة الاستخبارات المركزية الأميركية بقدر ما آمن بها صدام حسين نفسه"، إذ يكتب كول "اعتقد صدام حسين أن الاستخبارات المركزية الأميركية على علم بكل شيء، وبخاصة بعد 11 سبتمبر، ومن ثم حينما اتهمه الرئيس بوش بإخفاء أسلحة دمار شامل، افترض أن الاستخبارات تعلم بالفعل أنه لا يملك أسلحة خطرة وأن الاتهامات محض ذريعة للغزو، ولم يكن ضمن تصوره أن الاستخبارات المركزية الأميركية يمكن أن ترتكب خطأ تحليلياً بحجم إخفاقها في شأن أسلحة الدمار الشامل العراقية".

أسحلة الدمار الشامل

هل كان للإيهام بالقوة ذلك الدور حقاً في تدمير العراق كله؟ لو أن الأمر كذلك، ولا أجد سبباً يحول دون أن يكون، فخير لنا نحن قراء هذه السطور أن ننتبه جيداً، لأن هذا الداء لا يزال متفشياً فينا، ويمكن أن يجد كل منا في بلده نماذج وأمثلة له، أما كتاب كول ففيه مثال آخر عدا أسلحة الدمار الشامل المزعومة، إذ يكتب كابلان أن "شخصية صدام كان فيها أيضاً جانب دقيق بعض الشيء أساءت الاستخبارات المركزية تفسيره، وهو أنه كان يحب أن يكون مثيراً للخوف، ولو كان الثمن أن يدان في أمور لم يقترفها أصلاً، لظنه أن ذلك يعطيه مزيداً من الأمن، فكول يكتب في هذا الصدد أنه لم يثبت قط أن صدام حاول اغتيال جورج بوش الأب عند زيارته للكويت في 1993، ولكن صدام وجد سروراً في أن يفترض العالم ذلك".

يكتب سبنسر آكرمان في مقاله عن "فخ أخيل" بصحيفة "واشنطن بوست" في 27 فبراير 2023 أن ستيف كول لو أصدر كتابه هذا في عام 2002 فربما كانت انتهت مسيرته المهنية، كان على الأرجح ليوصم بأنه "مدافع عن صدام حسين، إن لم تشخص حالته بأنه يعاني مما عرف في تلك الحقبة بـ’متلازمة تشوش بوش’، ذلك أن كتاب فخ أخيل يقدم صدام حسين إنساناً لا رسماً كاريكاتيرياً".

يكتب آكرمان أن كتاب ستيف كول ينجح بسبب عزم كول على أن يعيد النظر في أوهام صدام التي كانت ترسخ بعضها بعضاً لدى أربع إدارات أميركية، فـ"بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على تراجع المشاعر المتعلقة بالعراق، فإن كتابه هذا بمنزلة فنجان قهوة قوية موضوع أمام مخمور غائب الوعي، ذلك المخمور هو مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية التي أقنعت نفسها أول الأمر بأن حسين تهديد من الدرجة الأولى للمصالح الأميركية ثم أقنعت نفسها بعد ذلك بأن غزو العراق زيغ يسهل نسيانه، ولا أحسب هذا الكتاب يحفز المخمور على استرداد عقله، لكنه قد يمده بوهلة من وضوح الرؤية".

العنوان: The Achilles Trap Saddam Hussein, the C.I.A., and the Origins of America’s Invasion of Iraq

تأليف: Steve Coll

الناشر: Penguin Press

اقرأ المزيد

المزيد من كتب