Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غزة وأوكرانيا وانتخابات تعزز الاضطراب الأميركي

هل يفتقر الحزب الجمهوري إلى كوادر تستطيع إدارة الدفة الصعبة وتفرز من يستطيع مواجهة ترمب؟

ما يجمع أوكرانيا وغزة أن السياسة الأميركية لم تتورط في صراع منذ غزو العراق بصورة مشابهة للنموذجين سابقي الذكر (أ ف ب)

ملخص

مع كل هذا التداخل الذي نراه أمامنا في مشهد السياسة الأميركية تبدو شواهد على سياق تاريخي لصورة باهتة للقوى الأكبر في العالم وعلى رأسها قيادة شائخة إلى جانب كثير من الورطات الداخلية والخارجية

تشير متابعة قضايا السياسة الخارجية والداخلية الأميركية إلى أن الأمر يبدو كسياق متكامل يكشف عن اضطراب لا يمكن التقليل منه ويغري باستدعاء مفهوم السياق التاريخي، وكيف تتحول هذه القضايا إلى مصدر للتساؤلات وتبيان الارتباك في صورة القوة العظمى الأولى في العالم.

المشهد الداخلي المعقد

لم يكن من المتصور خلال الاضطراب الهائل الذي أصاب الولايات المتحدة عند تنصيب الرئيس بايدن بسبب الاحتجاجات والأعمال التي أقدم عليها أنصار الرئيس السابق ترمب وبدعم وتشجيع مباشر من الأخير أنه يمكن رؤيته مرة أخرى كمرشح رئيس للحزب الجمهوري ولرئاسة البلاد.

لقد كان الحدث يبرز أمرين متناقضين، أولهما أن الديمقراطية انتصرت في النهاية وبصورة سريعة وتباعد عدد كبير من قيادات الحزب الجمهوري عن ترمب، بمن في ذلك نائبه، وثانيهما أن ما حدث مع ذلك ليس بسيطاً ويمثل خرقاً هائلاً لتقاليد الديمقراطية الأميركية ولأي تقاليد ديمقراطية، فما بالنا بالديمقراطية الأقدم في العالم الحديث، والتي تروج لقوتها الخارجية كزعيمة لهذا العالم الديمقراطي.

ثم بعد ذلك بعد أن بدأت عجلة الحساب القانوني لمن قاموا بهذه المخالفات، ومن بينهم ترمب، كان اعتقادي شخصياً ولكثيرين أنه من الصعب رؤية ترمب مرشحاً مرة أخرى للرئاسة وفقاً لما أعلنه منذ اليوم الأول لسقوطه، وعموماً تحقق العكس وفيما يبدو على رغم صدور بعض الأحكام ضده أن الرجل يكسب الجولات الانتخابية والقضائية ويواصل الترشح أمام رئيس يزداد ضعفاً وتقدماً في العمر.

قبل أن نتحدث حول أصداء قضايا السياسة الخارجية على المشهد الداخلي، فإن السؤال الحائر كيف نضبت السياسة الأميركية ذات التقاليد الراسخة في الحياة السياسية الداخلية وفي بناء الكوادر السياسية بحيث كنا نتذكر انتخابات رئاسية عديدة ساخنة بين عديد من المرشحين الأقوياء في كل حزب، وكان كل من الديمقراطيين والجمهوريين يملك آليات تجنيد حزبي واسعة لفرز الكوادر والقيادات، وكيف انتهى المطاف بهذين المرشحين الرئيسين بايدن وترمب اللذين كان لا يمكن تصور دورهما منذ عقود قليلة مضت، وكيف يحدث هذا الآن بما مر به ترمب من ملابسات وأداء شخصي يحيط به كثير من التساؤلات حتى لو كان هناك إنجازات اقتصادية وكيف يعجز الحزب الديمقراطي عن تقديم مرشح قوي أصغر سناً وأكثر حضوراً.

المعضلة الأميركية متعددة الأبعاد، فما قد نسيه البعض أن الحزب الديمقراطي متأثر بصراع داخلي معقد بين تيار ليبرالي أصبح غالباً وقوى وسط كانت تمثل لب الحزب تاريخياً أصبحت هامشية، وفي ظل هذا الاضطراب كان توجه القواعد السابق هو قيادة تقليدية تتمتع بتفاهم وانتماء مع مؤسسات الدولة الأميركية، وهو بالمناسبة خيار موضوعي وحكيم آنذاك، ولكن كان هذا منذ قرابة 4 سنوات، ليطفو السؤال هل ما زال الحزب مفتقراً إلى كوادر تستطيع إدارة هذه الدفة الصعبة وتفرز من بينها من يستطيع مواجهة ترمب؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل صعد التيار الشعبوي الذي يمثله ترمب منذ سنوات ضد إرادة كثير من القيادات المحافظة والوسطية التاريخية، ثم استسلمت في النهاية بعد أن حاول بعضها التبرؤ من ترمب وما حدث عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ثم مع إفلاس الحزب عن فرز قيادة بديلة عادوا للاصطفاف، وكثير منهم، خلف ورقة ترمب التي تبدو رابحة، ولكنها تحمل كثيراً من الأخطار للثوابت الأميركية الداخلية والخارجية.

تحديات غزة وأوكرانيا

ما يجمع أوكرانيا وغزة أن السياسة الأميركية لم تتورط في صراع منذ غزو العراق بصورة مشابهة للنموذجين سابقي الذكر، ففي أوكرانيا يبدو الأمر أشبه بما حدث من جهد أميركي لاستنزاف موسكو في الحرب الأفغانية، وفي ظل مناخ دولي مغاير تماماً والأخطر بكلفة عالية غير مسبوقة ولا تقارن بكلفة أفغانستان التي تسترت فيها موسكو خلف حلفاء عديدين، وبخاصة عرب وخلف قوى داخلية أفغانية وبكلفة تبدو زهيدة مقارنة بالمغامرة الروسية في أوكرانيا التي قدمت وما زالت فيها واشنطن كثيراً من المساعدات والدعم المالي والاستخباراتي وأرادت استنزاف موسكو، لكن بعد مرور سنتين على هذه الحرب تبدو المفارقة أن الغرب هو الذي يجري استنزفه وتتزايد شواهد تراجع أوكرانيا التي تواصل آلة الداعية الغربية التقليل من مظاهرها، ولكن الأكثر احتمالاً أن مصير المراهنة الغربية لا يبدو مضموناً.

وبطبيعة الحال كان لا بد أن تمتد هذه المسألة إلى الحملة الانتخابية الأميركية التي عقدها ترمب بالإفصاح عن رغبته في إنهاء الحرب، بل وتعميق علاقاته ببوتين، والأخطر كان تهديده بتشجيع موسكو على دول أوروبية أخرى لإغراء حلف الأطلسي بمزيد من الإنفاق وتقليل الأعباء الأميركية.

والمعنى فيما سبق واضح، فهو يضعف موقف بلاده في وسط حرب غير مباشرة منخرطة فيها بالفعل، ويعطي رسائل إيجابية للخصم الروسي، ويفجر الخلاف مع أوروبا التي كان بايدن قد نجح في رأب الصدع معها، بل وحقق أكبر موقف غربي متماسك منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، ودعمه بقوة موقف مؤسسات الدولة الأميركية التي كانت دوماً تلهث وراء معالجة سياسات أو أخطاء ترمب من وجهة نظرها.

أما غزة فقد أضفت بدورها هوامش من الصعب تجاهلها، وهنا تركز بعض الكتابات العربية وغيرها على أثر ذلك في أصوات العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الذين تحولوا بالفعل إلى الاستياء والعداء الشديد ضد أداء إدارة بايدن، وربما معهم أعداد أخرى ضخمة من الليبراليين والأصوات التي يزداد تنبهها لحجم المظالم والتجاوزات التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي، وفي تقديري مع ذلك أنه لا يمكن المراهنة كثيراً على هذا البعد، فما زال الصوت العربي والإسلامي غير منظم بصورة كافية.

ومن ناحية أخرى فإن البديل بالنسبة لهم، أي ترمب، مجرب ومرفوض، وقد سبق لهم التكتل ضده في الانتخابات السابقة ولا يبدو دليل على أن موقفه سيكون أفضل من بايدن الذي يصرح منذ بداية الحرب بأنه لو كان موجوداً لما حدث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) ذاته، بل ويبدي تأييداً غير محدود لمواصلة إسرائيل حربها في غزة. ومن ثم فالأرجح أن الاستياء في أجنحة الرأي العام الأميركي من مسلمين وعرب ومؤيدين للحقوق الفلسطينية ربما يؤدي إلى اهتزاز جبهة بايدن وبروز حالة اغتراب سياسي يؤدي إلى اضطراب في التصويت ويصب في النهاية لصالح ترمب إذا لم تظهر مفاجأة انتخابية لا يبدو أنها محتملة الآن.

ومن ناحية أخرى تمثل حرب غزة أعلى مراحل الانحياز الأميركي في حروب إسرائيل العربية وبصورة فاقت ما حدث في أكتوبر 73، وأخيراً انتقل الموقف الأميركي من الشراكة الكاملة مع إسرائيل إلى نوع من الضغط الرقيق بغرض الخروج من الورطة التي أوقعتها فيها حكومة نتنياهو المتطرفة، ومن دون نجاح الجهود المصرية - القطرية التي ما زالت متعثرة حتى الآن فإن الموقف الأميركي يشكل بالقطع مظهراً آخر لاضطراب السياسة الأميركية ويصبغ صورتها سلباً بصورة ملحوظة عربياً، وكذلك دولياً.

ومع كل هذا التداخل، الذي نراه أمامنا في مشهد السياسة الأميركية، تبدو شواهد على سياق تاريخي لصورة باهتة للقوى الأكبر في العالم، وعلى رأسها قيادة شائخة إلى جانب ما قد يحدثه استمرار الورطات الداخلية والخارجية في مزيد من التآكل والتراجع لمكانة هذه الدولة وهيبتها.

المزيد من تحلیل