Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الجريمة والعقاب" رواية دوستويفسكي بعين مصرية

البطل ينتحر في العرض ويرفض الاقتياد إلى السجن في سيبيريا

من مسرحية "الجريمة والعقاب" المصرية (خدمة الفرقة)

ملخص

رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب" تحولت إلى عرض مسرحي في القاهرة، لكن الإقتباس والإخراج لم يلتزما وقائع الرواية بل أدخلا بعض التغييرات.

تظل رواية" الجريمة والعقاب" للروائي الروسي الرائد دوستويفسكي (1821-1881) واحدة من الروايات الملهمة لكتاب الدراما، سواء في السينما، أو المسرح، أو التلفزيون، إذ تعددت معالجاتها حول العالم، فضلاً عن كونها مجالاً خصباً لعلماء النفس ودارسيه، ولعل أشهرهم سيغموند فرويد، الذي شكلت أعمال ديستويفسكي عموماً، و"الجريمة والعقاب" خصوصاً، مرجعاً أساسياً في تحليلاته السيكولوجية حول الجريمة وأبعادها النفسية والاجتماعية.

وفي عرضه الذي قدمه على مسرح الشباب والرياضة بالقاهرة (إعداد محمود الحسيني) استبعد المخرج المصري زياد محمد، الكثير من الشخصيات والأحداث، مركزاً على شخصية البطل راسكولينكوف، ومغيراً في مصيره، فبدلاً من إرساله إلى سيبريا لتنفيذ حكم السجن الذي صدر بحقه، كما في الرواية، جعله ينتحر، بإطلاق الرصاص على نفسه، بعد أن ترك رسالة لصديقته سيمونا طالباً منها قراءتها في حضور أمه وشقيقته وكذلك المحقق، يسرد فيها طرفاً من سيرته قبل ارتكاب الجريمة، ودوافعه لارتكابها.

العرض، هنا، بدا أكثر تعاطفاً مع البطل، إذ اختار له هذه النهاية التراجيدية، والتي تشي بتطهره من آثامه، وإدراكه أن تحقيق العدل لا يتم عبر إزهاق أرواح الآخرين، مهما كانت مفاسدهم.

وجهة نظر

أياً كان المصير الذي آلت إليه حياة راسكولينكوف، والمغزى الذي أراده المخرج، فقد حافظ المعد على جوهر النص وأسئلته، وصاغ المخرج فضاءه المسرحي بطريقة تحمل وجهة نظر وتثير الأسئلة هي الأخرى، وهو ما يبدو بشكل واضح في الديكور (صممه روماني جرجس) مجموعة من التوابيت التي تشغل أغلب الفضاء، مرة يتم استخدامها كتوابيت للدفن، وأخرى كأبواب للبيوت، وثالثة كأسرة يستخدمها البطل للنوم، وهكذا، نخرج من تابوت لندخل إلى آخر، وكأننا في عالم يغلفه الموت ويحيط به من كل جانب، أو كأن هؤلاء الذين أمامنا أحياء موتى.

لعل سيطرة دال الموت هنا تشير إلى نوع من الاحتجاج على هذا العصر، فهذا التوحش المالي الذي يسحق الفرد ويفقده كرامته، واحتج عليه دوستويفسكي في روايته، هو نفسه الذي يسود زمننا هذا، فإذا كان راسكولينكوف ضحية عصره والتغيرات التي طاولته، والتي لم يستطع الصمود أمامها، فإننا أيضاً مثله، حيث لم يتغير شيء، ما زال العالم على توحشه ولا إنسانيته. هكذا يطرح العرض رسالته.

لم تسر الدراما في العرض على نحو تقليدي، اتبع المخرج فكرة المونتاج السينمائي، من تقطيع، وتقديم وتأخير، متخذاً من سرد الرسالة وسيلة لسرد الأحداث على نحو أكثر إثارة وتشويقاً.

إن راسكولينكوف (الاسم بالروسية يعني المنفصم) ما هو إلا تجسيد لمعاناة الشباب، في أي زمان ومكان، هؤلاء الشباب الذين يطمحون في العثور على موطئ قدم لهم في هذا العالم المصاب بالجنون، جنون الصراعات والرغبات المحمومة في الاستحواذ على كل شيء وأي شيء، وعندما تتكسر أحلامهم على صخور واقعهم، فإنهم إما يهيمون على وجوههم في عدمية قاتلة، وإما ينتحرون، وإما يرتكبون الجرائم، وكلها موت في النهاية.

وجهان للبطل

تراوح شخصية راسكولينكوف، في العرض، ما بين وجهين، الأول سوي وخير، يحب أمه وأخته، ويصادق فتاة شبه معتوهة، ويهتم لأمر ابنة أحد معارفه بعد وفاته، ويقف إلى جانبها. أما الآخر فهو قاتل يطمع في أموال المرابية العجوز، ويتساءل بينه وبين نفسه: لماذا تمتلك كل هذه الأموال في حين أنني معدم؟ ويقوم بقتلها، بعد أن ضاقت به السبل ولم يستطع استكمال دراسته أو الحصول على عمل يعينه على مواصلة الحياة في المدينة. لكن الوجه السوي ينتصر في النهاية، بل ويعاقب صاحبه بالانتحار، وذلك بعد أن فكك مبررات فعلته، ودخل في هذيانه أمام فعلته الشنعاء، مكتشفاً أن "الألم هو الشرط النفسي للتطهر من الجريمة".

هي شخصية مثيرة للتعاطف والشفقة، كونها ضحية لمتغيرات دراماتيكية، وعدالة غائبة، وكرامة مهدورة، فذهب صاحبها، من دون وعي، يبحث عن العدالة بواسطة القتل، وما إنكاره ارتكاب الجريمة إلا أن وعيه يرفضها بالأساس، لكنها أولاً وأخيراً جريمة قتل، لم ينتظر صاحبها عقاب الدولة، بل راح يعاقب نفسه بهذيانه وشروده، ثم أخيراً بالانتحار، بحسب نص العرض. المرء صاحب الضمير الحيّ يعاني حينما يعترف بخطيئته، وذلك هو عقابه. هو لم يكتف بالمعاناة فقط بل وضع حداً لها بالانتحار.

لم يكن راسكولينوف مؤمناً بالأديان، لكنه في لحظة استفاقته الأخيرة استعاد هويته الدينية والقومية، كما لو أنه ذهب إلى العالم الآخر بريئاً ونقياً، وكأن نص العرض هنا، وكما في الرواية كذلك، يميل إلى اعتبار الدين، أو فكرة الإيمان بوجود خالق عموماً، من شأنه إحداث قدر من التوازن في حياة البشر يجعل الحياة محتملة، ومن دون الإيمان يختل هذا التوازن.

صياغة ناعمة

صاغ المخرج عرضه، على رغم قسوة أحداثه، بنعومة، بخاصة في طريقة تغيير وضعية الديكور، والانتقال من مشهد إلى آخر، وكذلك في رسم حركة الممثلين، وأغلبهم من الهواة، فبدت خبرته واضحة في كيفية توظيف كل منهم بحسب إمكاناته وقدراته، ووفق في اختيار من لعب شخصية راسكولينوف (محمود الحسيني) وهو أساساً مصمم إضاءة ومعد، لكنها ربما تكون المرة الأولى له التي يقف فيها على الخشبة ممثلاً. لعب دوره بشكل واع، مدركاً أبعاد الشخصية وأزمتها، وتقلباتها، فكان مقنعاً في أدائه، سواء على مستوى استخدام جهازه الصوتي، أو مفردات جسده عموماً، وضبط انفعالاته وترشيدها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الملابس (صممتها شروق العيسوي) عبرت بشكل جيد عن طبيعة الشخصيات ووضعياتها الاجتماعية، فضلاً عن العصر الذي دارت خلاله الأحداث، منها على سبيل المثال شخصية ذلك التاجر الذي أراد الزواج من شقيقة راسكولينوف، شخصية متأنقة وغنية ومتعجرفة، يبدو مختالاً بنفسه، ومعتبراً زواجه من هذه الشقيقة تنازلاً منه، وسبيلاً إلى انتشالها، هي وأمها، من الفقر، وهو ما رفضه راسكولينوف، وقاومه بشدة، باعتباره يمثل إهداراً لكرامته، ويضغط عليه أكثر في طريق بحثه عن العدالة. وكذلك شخصية المحقق. كانت الملابس جزءاً مهماً في بناء الشخصيات وإبراز مكانتها في المجتمع.

صحيح أن العرض انتابته عدة مشكلات، بخاصة أخطاء اللغة، وبعض الارتباك في الإضاءة، وهي أمور يمكن غفرانها في مثل هذه العروض الشبابية، لكن التجربة عموماً، سواء على مستوى الرؤية الإخراجية، أو على مستوى التمثيل، تلفت النظر إلى مجموعة من العناصر الطيبة، وتلفته كذلك إلى أمر مهم، وهو الزاوية التي ينظر منها هؤلاء الشباب إلى العالم. هي نظرة بعيدة من التفاؤل، نظرة رافضة لواقعها وراغبة في تغييره إلى الأفضل، وباحثة عن العدالة الغائبة، أي إنها ترى الحياة غير عادلة. كيف تراها على نحو جيد وهي تعيش تمزقاتها، وتمضي في تيه يبدو بلا نهاية. وهي أولاً وأخيراً لا ترى في ارتكاب جريمة القتل حلاً، ولا تبررها، لكنها تقترح العقاب المناسب، من وجهة نظرها. حسبها صياغة ذلك كله في شكل فني ممتع، ومؤلم في آن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة