Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخرجات نلن أرفع الجوائز يحققن قوة فرنسا الناعمة 

بين هاجس الإجهاض والصراعات الزوجية ومواجهة الذكورية والسلطة الاجتماعية

من فيلم "تيتان" للفرنسية جوليا دوكونور (ملف الفيلم)

ملخص

تمكنت هذه السنة مخرجات فرنسيات أن يحققن نجاحاً باهراً في حركة المهرجانات السينمائية العالمية، وحصدن جوائز كثيرة جعلتهن في صدارة المشهد السينمائي الراهن. وقد عالجن في أفلامهن قضايا الإجهاض والحمل المبكر والسلطة الذكورية وموقع المرأة في المجتمع المعاصر.

منذ ثلاث سنوات تسيطر المخرجات الفرنسيات اللاتي في نحو الـ40 من عمرهن على أهم الجوائز في أهم ثلاثة مهرجانات سينمائية، "كان" و"برلين" و"البندقية". لا تتعلق المسألة بإعطاء فرصة أكبر للمرأة ورفع التمييز عنها، ومن الصعب حصرها في هذا الإطار الأيديولوجي الضيق. فما أنجزته هذه المواهب ترفع له القبعة، بل كان محل إعجاب في جميع أنحاء العالم، وإن بدرجات متفاوتة. من أصل 10 جوائز أساسية أسندت في هذه التظاهرات الثلاث، أربع ذهبت إلى سينمائيات فرنسيات، اثنتان منها في "كان"، الموعد السينمائي الأضخم عالمياً. تزخر فرنسا بالمشكلات الاجتماعية والصراعات السياسية، لكن عندما نتحدث عن المخرجات من مختلف الأجيال والأعمال التي حملت توقيعاتهن بقدرة على التجديد وتجاوز السائد، فيبقى هذا البلد مضرب مثل.  

كانت بداية الظاهرة مع نيل جوليا دوكورنو "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" 2021 عن فيلمها "تيتان"، لتصبح ثاني امرأة تنال الجائزة المهيبة (الأولى هي النيوزيلندية جاين كامبيون عن "البيانو"). صحيح أن المخرجة الفرنسية كثيراً ما كانت حاضرة لا بل رائدة منذ أليس غي (1873 - 1968)، وبلغ عدد المخرجات اللاتي أنجزن أفلاماً الـ33 في المئة من مجموع الذين ينجزون الأفلام في فرنسا في عام 2022، إلا أن هذا الفوز أخذ معنى جديداً وكرت السبحة من بعده، خصوصاً أن الفيلم قاس وصادم ومستفز وغريب ولا يساوم في تصوير العنف، ويحدث قطيعة نوعاً ما، مع الأفلام ذات القوالب النسائية، ولذلك وقعت النتيجة على البعض كمياه مثلجة. عندما سئل رئيس لجنة التحكيم المخرج الأميركي سبايك لي عن سبب اختياره هذا الفيلم، قال إن هذه أول مرة يرى فيها امرأة "تحمل" من سيارة كاديلاك، في إشارة إلى مشهد الجنس بين بطلة الفيلم والسيارة الذي ذكر بعض هواة السينما بـ"كراش" لديفيد كروننبرغ. 

منذ ثاني أفلامها الروائية الطويلة، فازت دوكورنو بأرفع جائزة سينمائية في العالم. حضرت إلى "كان" بثقة عالية في الذات، إلى درجة أنها صرحت وفي يدها "السعفة" بأن فيلمها ليس نموذجاً في الكمال، بل فيه عيوب. وفي رأيها لا يوجد فيلم كامل، لكن هذا لا يمنعها من أن تحب عملها. فيلمها السابق "غراف" صدم كثراً عند عرضه في الصالات قبل ثماني سنوات لتناوله موضوعاً محرماً، أكل لحوم البشر، الذي نقلته بمشاهد صريحة و"مقززة"، و"تيتان" ليس أقل راديكالية، من خلال التركيز على الوحشية وتحولات الجسد، يغوص في أعماق الطبيعة البشرية ليستخرج منها الأسوأ والأعظم في آن واحد، وإيجاد أرض مشتركة بينهما. أما الحبكة فهي تتمحور على فتاة (أغات روسيل) تقتل كما تتنفس، قبل أن تنضم إلى صفوف رجال الإطفاء بعد أن تتنكر بهيئة رجل هرباً من الشرطة.

أربعة أشهر بعد فوز "تيتان" في "كان"، عرضت المخرجة أودريه ديوان فيلمها الممتاز "الحدث" في مسابقة مهرجان البندقية 2021 فظفرت به، خلافاً لكل التوقعات، بجائزة "الأسد الذهبي" المرموقة، علماً أن هذا هو الروائي الثاني لها، على غرار دوكورنو. كان رئيس لجنة التحكيم هو المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو. 

ديوان مخرجة فرنسية من أصل لبناني في مطلع الـ40 من عمرها. قبل الانطلاق في السينما، عملت في الصحافة والنشر والتأليف وكتابة السيناريوهات. فيلمها الأول "ولكنك مجنون" هو عن رب عائلة مدمن مخدرات تنتزع منه السلطات حضانة ابنته. "الحدث" مقتبس من رواية أوتوبيوغرافية بالعنوان نفسه للكاتبة الفرنسية آني إيرنو الفائزة بـ"نوبل الآداب" في 2022، تروي فيها معاناتها لإجهاض جنينها وهي طالبة، بعد حملها من طريق الخطأ. 

معاناة الإجهاض

يتناول "الحدث" عملية الإجهاض وما يسبقها بكثير من التفاصيل، بلا أي طابع رومنطيقي للأحداث التي تجري في فرنسا ما قبل ثورة 68، حين كان الإجهاض لا يزال جرماً يعاقب القانون كل من يتورط فيه. في هذا الجو الخانق أخلاقياً واجتماعياً، نكتشف معاناة طالبة أدب تدعى آن (أناماريا فورتولوميه)، مع الجنين الذي في أحشائها والذي تريد التخلص منه بأي ثمن. بالنسبة إليها، لا يزال الوقت مبكراً للحمل. فهي تود تحقيق طموحاتها المهنية قبل تأسيس عائلة. هذا كله، قبل أن تصبح فرنسا أول دولة في العام تدرج الإجهاض في دستورها. 

بعد عام، ومرة جديدة في البندقية، نال "سانت أومير"، أول روائي طويل للمخرجة الوثائقية أليس ديوب (من أصول سنغالية)، جائزتي لجنة التحكيم الكبرى و"أسد المستقبل" معاً. لكن الفيلم الذي يعد من "أفلام المحاكمات"، وعلى رغم أهميته، لم يحدث نقاشاً كبيراً، بل ظل محدود التأثير، لصعوبة تفكيك كل رموزه والقراءة بين السطور. الفيلم عن سيدة أربعينية من أصول أفريقية قتلت مولودها بلا سبب وجيه، أو في الأقل لسبب لا ينطوي على شيء من الموضوعية والمنطق. استندت ديوب إلى مقال قرأته في "لو موند" عن سيدة سنغالية ألقت بطفلتها في البحر، فاعتقد المحققون والصحافيون بعد فشلهم في تحديد هوية الضحية، أن الأمر يتعلق بمهاجرين غير شرعيين. وتقول ديوب إنها نظرت في وجه الأم التي نشرت الصحيفة صورتها، وصاحت: "إنها سنغالية!". ومذ ذاك، باتت هذه السيدة هاجساً عندها.

فوز "تشريح سقوط" للمخرجة جوستين ترييه بعد عامين على فوز زميلتها دوكورنو بالجائزة نفسها في مهرجان "كان"، بدا امتداداً "طبيعياً" لسلسلة الانتصارات التي حققتها المخرجات الفرنسيات، و"تصعيداً" جديداً. فالمخرج السويدي روبن أوستلوند ولجنته أعجبوا كثيراً بهذا الفيلم الذي كتبته ترييه مع شريك حياتها الممثل والمخرج أرتور أراري خلال فترة الحجر الصحي، فحقق نجاحاً جماهيرياً ونقدياً هائلاً أوصله إلى ترشيحات الـ"أوسكار" ففاز الإثنين الماضي، بجائزة "أفضل سيناريو"، لتصبح أبواب هوليوود سالكة أمام المخرجة. 

من خلال نوع سينمائي يأخذ من قاعة المحكمة مسرحاً للأحداث، ودت ترييه تجديد هذا النوع في نص مبتكر ورصين يعتبر نقلة نوعية في هذا المجال. محاكمة كاتبة (ساندرا هولر) متهمة بقتل زوجها عبر دفعه من نافذة الشاليه، تغدو مناسبة لتشريح العلاقة الزوجية المعقدة بين شخصين يعملان في المجال نفسه (الكتابة)، وتوجد بينهما من ثم خلافات مهنية وأخلاقية وعاطفية عديدة، تبدأ مع شعور الزوج بالدونية تجاه زوجته الأنجح منه مهنياً، ولا تنتهي مع تحميل الزوجة زوجها مسؤولية فقدان البصر الذي أصاب ابنهما إثر حادثة. وعندما يختلط هذا كله بالمكبوتات التي تميل إليها السينما بالفطرة، فنجد أنفسنا أمام جردة لما يدور خلف الأبواب وداخل الجدران الأربعة حيث العلاقة بين شخصين. الفيلم هو ما يمكن نعته بالمعجزة، من النوع الذي لا يحدث إلا نادراً. والمقصود بالمعجزة هو شبه الإجماع بين أطراف حول عمل تجاوز صداه ما كان يطمح إليه في الأصل. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع فوز ماتي ديوب الشهر الماضي بجائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي عن فيلمها الوثائقي "داهوميه"، بدت قصة نجاح المخرجات الفرنسيات كعربة مسرعة لا يمكن إيقافها. بهذه الجائزة، تكون فرنسية أخرى قد خطفت "ذهبية" واحدة من أهم التظاهرات السينمائية في العالم. الفيلم يتحدث عن إعادة آثار كان الاستعمار الفرنسي قد استولى عليها في القرن الـ18، والنقاش الذي أثارته عودة التراث الأفريقي إلى أصحابه. من خلال هذا العمل، تحاول المخرجة فتح نقاش حول العلاقة التاريخية بين أفريقيا التي تتحدر منها وفرنسا التي ولدت فيها. بعيداً من هذا الفوز، من المهم متابعة القضية وما ستثيره في الإعلام عند خروج الفيلم في الصالات التجارية في سبتمبر (أيلول) المقبل. 

المخرجات الفرنسيات الواعدات اللاتي في منتصف أعمارهن البيولوجية وفي مقتبل تجربتهن الإبداعية، لسن الوحيدات اللاتي نلن التكريس من على أرفع المنابر في الأعوام الثلاثة الأخيرة. فالحماسة إزاءهن يجب ألا تنسينا المخرجة القديرة كلير دوني (77 سنة)، وهي واحدة من الطليعيات. فهي الأخرى حازت "الدب الفضي" عن فيلم "مع حب وضراوة" في فبراير (شباط) 2022 في برلين، ثم بعد أشهر قليلة نالت جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان "كان" مع "نجوم الظهر". جائزتان (في غضون أشهر قليلة) نالتهما صاحبة "عمل جميل" الذي دخل لائحة أفضل 100 فيلم في استفتاء مجلة "سايت أند ساوند" الأسطورية. هذا كله هو الجزء الظاهر من ثروة مواهب سينمائية نسائية تنام عليها فرنسا، كأن تجتمع كل شروط الصناعة والتعبير، من حرية وإمكانات وعراقة ودعم. إنها فعلاً "القوة الناعمة" لفرنسا، وليس بالمعنى المجازي فقط. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما