Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دوغين بعد هنتنغتون

الحضارات تتكامل وتتلاقح وما يتصادم هو المصالح والسياسات والأيديولوجيات والقيادات التي تريد أكثر مما لديها

راقصون فروا من أوكرانيا بسبب الحرب يؤدون عرضاً في أحد شوارع مدينة وارسو القديمة (أ ف ب)

ملخص

حان الوقت للإقلاع عن الهرب من تسمية السياسات بأسمائها إلى دمجها بالحضارات من باب تجميل القبيح.

حين أصدر صموئيل هنتنغتون كتابه "صدام الحضارات" جاءت الردود عليه من جهات عدة: أولاً من جهة الذين استغربوا تصوير الديانات على أنها حضارات مغلقة على بعضها بعضاً ومختلفة داخل مذاهب الدين نفسه. وثانياً من جهة الذين رفضوا ربط الأديان والحضارات بالأعراق. وثالثاً من جهة الذين استنكروا تفريغ الحضارات إلى ثمان وأكثر تدور كل واحدة منها على نفسها. وخلاصة ما قاله العلماء إن الحضارات لا تتصادم بل تتكامل وتتلاقح. فما يتصادم هو المصالح والسياسات والأيديولوجيات والقيادات التي تريد أكثر مما لديها. وهناك من دعا، ومن بينهم رؤساء دول، إلى "حوار الحضارات" وأقام له ندوات ومؤتمرات.

أما الجهة الوحيدة التي أفادتها نظريته، وهي تمارس مثلها بالعنف والإرهاب، فكانت تيارات الإسلام السياسي المتشددة وجماعة التكفير بدل التفكير، وفي الطليعة "القاعدة" و"داعش". وبعد سنوات جاءت الدعوة من مكان آخر إلى نسخة مختلفة من صدام الحضارات. وصاحب الدعوة هو المفكر الروسي ألكسندر دوغين الذي يقال إنه ملهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهو المفكر الذي سار على طريق الكونت نيقولاي تروتسكوي مؤسس "الأوراسية"، وبدأ دعوة إلى الأوراسية و"النظرية السياسية الرابعة" على أنقاض ثلاث نظريات: الليبرالية في اليمين واليسار، والشيوعية الماركسية أو الاشتراكية أو الاشتراكية الديمقراطية، والفاشية الاشتراكية القومية ومعها النازية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دوغين أصدر أكثر من كتاب حول أفكاره ودعواته، لكن التفصيل الواضح جاء في كتاب تحت عنوان "الأوراسية: الخلاص من الغرب، الحضارات البرية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية". فهناك، في رأيه، "حضارة البر وحضارة البحر". فحضارة البر "تعددية" وتؤدي إلى "عولمة بديلة". أما حضارة البحر فـ"إلغائية" لسواها وتقود إلى "عولمة أحادية". وهو يتحدث عن أربع حضارات برية: صينية وروسية وهندية وإيرانية في صراع أبدي مع "ثلاث حضارات بحرية أرستقراطية وأطلسية: بريطانيا وفرنسا قديماً وأميركا اليوم". لا بل يعتبر أن الأوراسية التي تعني أوروبا وآسيا كيان جيوسياسي وأيديولوجي. وهذه الثغرة واضحة في نظريته.

ذلك أن الفصل بين حضارات برية وحضارات بحرية هو مبالغة كبيرة ونوع من التعسف في استخدام المفاهيم وتبسيط المسائل المركبة والمعقدة. وهذا مثل التمييز النظري بين "إسلام الأنهار وإسلام الصحارى"، فالإسلام واحد. ولا حضارات برية معزولة عن حضارات بحرية وبالعكس. العالم واحد، والحضارات تجارب تتراكم عبر التاريخ ويأخذ بعضها من بعض من خلال التلاقي والتبادل الثقافي وحتى التبادل التجاري، ثم إن الحضارات البحرية في بريطانيا أثرت في حضارة الهند وتأثرت بها كما أثرت الحضارات الأوروبية في الحضارة الصينية وتأثرت بها. وحضارة أميركا البحرية هي نتاج حضارات عدة حملها المستوطنون الذاهبون إلى العالم الجديد، ولها اليوم تأثير في كل مكان في العالم.

والسؤال هو: ماذا نسمي حضارة اليابان اليوم بعد الانفتاح على العالم: برية أم بحرية أم مختلطة؟ وماذا نسمي حضارة الصين التي حافظت على جذور الحضارة الصينية القديمة وأخذت كثيراً من الغرب وسمت المواطن الصيني الذي يأتي بنسخ من تصاميم الابتكارات الأميركية "اللص الوطني": برية أو بحرية أو مختلطة؟
الوقت حان للإقلاع عن الهرب من تسمية السياسات بأسمائها إلى دمجها بالحضارات من باب تجميل القبيح. وليست نظرية هنتنغتون عن "صدام الحضارات" ونظرية دوغين عن الصراع الأبدي بين الحضارات البرية والحضارات البحرية، ودعوته إلى "العودة لما قبل الحداثة"، إلى العصور العظيمة والإمبراطوريات، سوى رجع صدى لدعوات الإرهابيين إلى العيش في القرن العاشر. وهي جميعاً ضد طبائع الأمور والتطور الطبيعي. مجرد حراثة في البحر.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل