Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا اللاتينية... هنا تلتقي كل الأطماع

هل فقدت واشنطن اليد العليا عليها لمصلحة روسيا والصين وإيران؟

مشهد العلاقة بين الولايات المتحدة وغالبية دول أميركا اللاتينية شهد اضطرابات ملحوظة في حقبة الستينيات وأزمنة المد الثوري (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - مواقع التواصل الاجتماعي)

ملخص

كيف أظهرت حرب غزة الأخيرة رغبة غالبية دول القارة في مكايدة واشنطن؟

جرى العرف على اعتبار قارة أميركا الجنوبية، الخلفية الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية، بل أكثر من ذلك الخلفية الجيوسياسية، والتي تمثل أهمية فائقة للإمبراطورية الأميركية المتمددة بطول الكرة الأرضية وعرضها.

مثلت القارة الجنوبية بدولها المتعددة، الكبيرة منها والصغيرة، ذات الإرث الحضاري القديم منها والحديث، رافداً مهماً طوال القرون الثلاثة الماضية، إذ تشابكت الخطوط وتداخلت الخيوط، بين ما هو ديموغرافي، إذ جرى الاعتماد كثيراً على الأيدي العاملة الوفيرة والرخيصة جنوباً، لخدمة المشروع الرأسمالي شمالاً، عطفاً على اعتبار أراضي تلك القارة مصدراً غنياً ومتاحاً في أي وقت وكل وقت، للجمهورية الأميركية الوليدة.

 على سبيل المثال لا الحصر، تزود أميركا اللاتينية الولايات المتحدة بنسبة 30 في المئة تقريباً من حاجاتها من البترول علماً بأن شركاء الولايات المتحدة الأساسيين هم المكسيك وفنزويلا والإكوادور وكولومبيا والبرازيل.

ومثلت هذه القارة في العقدين الماضيين أهمية خاصة لواشنطن، إذ كانت الحكومات الأميركية المتعاقبة تسعى في طريق زيادة هذه النسبة بغية تقليل اعتمادها على الشرق الأوسط وأفريقيا الغربية وتأمينها بالتالي مخزونها من الطاقة.

 غير أن مشهد العلاقة بين الولايات المتحدة وغالبية دول القارة، قد شهد قلاقل واضطرابات ملحوظة في حقبة الستينيات وأزمنة المد الثوري، لا سيما في ظل الدعم السوفياتي العلني والخفي، لعدد من دول القارة.

 

 تالياً، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي هدأت الثورات والفورات اللاتينية، مما أعطى "العم سام" برهة لالتقاط الأنفاس، غير أنها بدت برهة قصيرة، فمع بدايات الألفية الثانية وظهور "كاريزما" هوغو تشافيز في فنزويلا، لولا دا سيلفا في البرازيل، ثم خلافة نيكولاس مادورو لتشافيز، وسقوط مناصري واشنطن، بدا وكأن القارة اللاتينية تنقلب على عقبيها في مواجهة واشنطن مرة جديدة.

ما الذي يستدعى الحديث مجدداً عن هذه العلاقة المضطربة؟

المؤكد أن حرب غزة الأخيرة قد تركت بصمة واضحة على مآلات تلك العلاقة من جهة، عطفاً على أن الصراع الإدراكي على رقعة الشطرنج الكونية، بين واشنطن من جهة، والصين وروسيا وإيران من جهة ثانية، أمر يستدعي تأمل مسارات العلاقات الثنائية، ومساقات المنافسة الجيوسياسية، ذلك أن واشنطن التي تقود الناتو لجهة الشرق، حيث تتخلى دول عرفت بحيادها لعقود طوال، مثل السويد، عن حياديتها، وتنضم إلى حلف "الناتو"، كان ولا بد لها أن تتوقع أن هناك من سيسعى لمشاغبتها في الجنوب، عبر طريقين:

الأول: التوجهات الأيديولوجية التي تتخفى وراء النموذج الصيني الحديث، والذي لا يمكن وصفه الاشتراكي الشيوعي، ولا بالليبرالي الرأسمالي، غير أنه نموذج ناجح في كل الأحوال تحتاج دول القارة لاستلهامه في نضالها الموجه لواشنطن.

 الثاني: الإمكانات الاقتصادية التي تتوافر للصين من جهة، والعسكرية التي تحوزها موسكو من دون شك، ناهيك عن المربع الأكثر إثارة للجدل المتمثل في إيران، حيث تجد هناك فرصة تاريخية لمشاغبة واشنطن، ولو دعائياً في الحال، وقد يتغير الأمر في المستقبل، وهو ما جرت به المقادير بالفعل، إذ تطير المسيرات العسكرية الإيرانية في سماوات أميركا اللاتينية أخيراً.

هل لم تعد أميركا اللاتينية ملعباً للولايات المتحدة الأميركية قولاً وفعلاً؟

أميركا اللاتينية تناصر غزة 

في الأشهر القليلة الماضية، لا سيما بعد عملية "حماس" في غزة وردات الفعل العسكرية الإسرائيلية عليها، طرح تساؤل في أوساط المراقبين: "هل من مكايدة سياسية من جانب دول أميركا اللاتينية للولايات المتحدة الأميركية، تجري بها المقادير عبر دعم غزة في مواجهة إسرائيل الربيب الأقرب والحليف الأكبر للولايات المتحدة، أم أن في الأمر تعاطفاً إنسانياً ووجدانياً مع شعب مقهور، يكاد يشبه كثيراً من دول القارة التي عانت كثيراً الصدام مع واشنطن؟
يحتاج الجواب إلى شيء من التحليل، لا سيما بعد أن تحرك عدد ليس بقليل من دول القارة رفضاً لانتهاك إسرائيل للقانون الدولي في غزة.

 البداية كانت من وزارة الخارجية الفنزويلية التي دانت الضربات الإسرائيلية على مخيم جباليا، ثم جاء الرئيس البرازيلي، مناصر الكادحين في بلاده وحول العالم، إيناسيو لولا دا سيلفا، ليؤكد أن "ما يحدث في غزة هو نوع من الجنون من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يريد أن يمحو غزة".

أما الخطوة الأبرز فقد جاءت من بوليفيا، التي أعلنت قطع جميع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، ومتهمة تل أبيب بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في هجماتها على قطاع غزة.

 

وبعد ساعات من قطع بوليفيا علاقاتها مع إسرائيل، استدعت كولومبيا سفيرها لدى إسرائيل للتشاور بسبب التصعيد المستمر في القطاع المحاصر. والأمر نفسه فعلته حكومة تشيلي التي استدعت سفيرها أيضاً بعد أو وصفت ما يجري في غزة بأنه "انتهاكات إسرائيلية للقانون الإنساني الدولي".

عطفاً على هذه المواقف القاسية من الدول المتقدمة، فقد دعت دول أخرى من بينها البرازيل والمكسيك إلى وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي ترفضه واشنطن حتى الساعة.

أميركا اللاتينية وصعود اليسار 

يميل البعض إلى تفسير هذا التعاطف انطلاقاً من كونه موقفاً مشابهاً لمواقف مرت به شعوب تلك القارة، والتي عانت شعوبها الأصلية من حروب استعمارية أو حروب أهلية أو اضطهادات من الأوليغارشية الأميركية الشمالية بنوع خاص، ما جعل شعوب أميركا اللاتينية متعاطفة بالطبيعة مع الشعب الفلسطيني في غزة.

غير أن هناك أخباراً لا تسر واشنطن، تصل مواقف حكومات تلك الدول، مع مواقفها من غزة، وتتعلق بصعود حكومات يسارية في الانتخابات الأخيرة، إذ أصبح اليسار العالمي ذا موقف قوي ومتعاطف ومؤيد للحق الفلسطيني.

من جهته قدم موقع "ريسبونسبل ستيت كرافت"، الأميركي تفسيراً يحمل وجهة نظر لها أبعادها المؤدلجة كذلك، وتدور في سياق استقلال أميركا اللاتينية المتزايد عن الولايات المتحدة، وصعود الحركات اليسارية والسكان الأصليين، ووجود جاليات عربية كبيرة في الشتات في معظم أنحاء المنطقة.

 التفسير المشار إليه جاء في تقرير كتبه "كونور إيكولز"، وفيه يتوقف بشيء كبير من التفصيل مع مواقف بعض الدول الكبرى في القارة، لا سيما البرازيل.

يبدو التحليل وكأنه يحمل القيادات السياسية الأميركية في العقدين الماضيين، وزر تحولات السياسات الخارجية لدول أميركا اللاتينية الكبرى والفاعلة.

كنَّت واشنطن العداء لتشافيز، وليس سراً القول إن هناك محاولات ماورائية جرت لاغتياله، لابتعاد فنزويلا بعيداً جداً من مدارات واشنطن.

أما لولا دا سيلفا، فمنذ عودته إلى منصبه، وهو يرسم مساراً مستقلاً للسياسة الخارجية للبلاد، كما قاد الزعيم اليساري حملة لإجراء محادثات لإنهاء الحرب في أوكرانيا مع المساعدة في تعزيز نفوذ "مجموعة البريكس"، لذلك، عندما اندلعت جولة جديدة من القتال في غزة، لم يكن هناك أدنى شك في أن الرئيس البرازيلي سيتدخل ويحاول حل هذه الجولة.

هل فقدت واشنطن مقدرتها على الضغط تجاه دول أميركا اللاتينية، وما مشهد غزة إلا دليل واضح؟

 بحسب "إيكولز"، فإن المنطقة اللاتينية تغيرت بصورة كبيرة من حيث اعتمادها على الولايات المتحدة ومستوى التأثير الذي يمكن أن تتمتع به واشنطن على سياسة دولة القارة الخارجية.

 

تمرد طاقوي على الولايات المتحدة

هل هذه الاستقلالية من جانب عدد من كبريات دول أميركا اللاتينية يمكن أن يتسبب في أزمات آنية ومستقبلية لواشنطن؟

 يبدو الجواب مثيراً بالفعل، لا سيما أنه يتقاطع بصورة مؤكدة مع واحدة من أهم النقاط الاستراتيجية الأميركية، نقطة الموارد الطاقة، وبخاصة في ظل مخاوف مما يمكن أن نسميه "انقلاباً طاقوياً"، من أميركا اللاتينية في مواجهة واشنطن.

يوماً تلو الآخر تزداد الحاجة إلى مزيد من الطاقة الأحفورية التقليدية، من غاز ونفط، لا سيما في ظل الطلب المتزايد من الدول النامية الصاعدة في مدارك النهضة، ناهيك عن تحول الصين والهند إلى دول مستوردة وبشراهة لسوائل الحياة العصرانية، ودع عنك أحاديث البيئة ومحاربة التغيرات المناخية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الطلب المتسارع والمتزايد يؤثر تأثيراً مباشراً في ارتفاع الأسعار، مما يعني أن دول القارة اللاتينية ستجد أمامها أكثر من مشتر لنفطها وبالسعر الذي تريد، ما يعني أنها غير جبرة على بيعه للولايات المتحدة .

 علاوة على ذلك، لا يملك الأميركيون أي موارد غير متوفرة في المنطقة (في البرازيل خصوصاً) أو في الصين أو في أوروبا، من حيث رؤوس الأموال أو الوسائل التكنولوجية.

 وبحسب البروفيسور الفرنسي جان دودلان، من كلية نورمان باترسون للشؤون الدولية - جامعة كارلتون، في كندا، وكأن ذلك ليس كافياً، إذ تحوي البلدان المعاندة للالتزامات الطويلة الأجل مع الولايات المتحدة (فنزويلا والإكوادور وبوليفيا)، الجزء الأكبر من المخزون الاحتياطي.

 وتعمل البرازيل بنفسها - مع الأرجنتين وبوليفيا وبارغواي - على بناء شبكة إقليمية لتخزين الطاقة تتنافس بصورة مباشرة مع الشبكة التي يريد الأميركيون إنشاءها، ولهذا يفكر الأميركيون جدياً في تركيز الجهود الحثيثة على الفرائس السهلة، أي تطوير موارد المكسيك البحرية واستثمارها وإعادة علاقة لائقة مع فنزويلا، إضافة إلى استغلال النفط الكندي.

على أنه من الواضح للغاية أن عدداً فاعلاً ونافذاً من دول القارة اللاتينية، بات يرفض الانصياع لقواعد الليبرالية الاقتصادية.

 يكتب موسى نعيم رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي" السابق يقول "إن هوغو تشافيز استطاع أن ينشئ ما يشبه المحور الرافض لسياسات واشنطن، عبر كوكبة تضم كلاً من كوبا ونيكارغوا وبوليفيا وباراغواي وهندوراس، إضافة إلى محيط الإكوادور، وبطريقة عرضية الأرجنتين.

وتضم المجموعة بصورة أساس بلداناً فقيرة أو غير مستقرة، فتبدو متناقضة ومهددة قليلاً. غير أن إعادة تسليح فنزويلا وخطابات تشافيز، ومن بعده مادورو، وتعاطفهما الصحيح نسبياً منذ حين مع الميليشيات الكولومبية، إضافة إلى انفتاحه على إيران والصين وروسيا، تعد جميعها عوامل كفيلة بإقلاق "العم سام"، سواء كان ساكن البيت الأبيض، أو ممثلاً في أعضاء الكونغرس، والكثير من المحللين السياسيين الأميركيين.

يمكننا التساؤل في هذا الإطار هل أدركت موسكو وبكين وطهران، أن هناك فرصة تاريخية، لملء مربعات نفوذ في الداخل الأميركي اللاتيني في الجنوب، لمزاحمة الولايات المتحدة الأميركية في الشمال؟

العلاقات الروسية والتكتلات اللاتينية 

في أواخر فبراير (شباط) الماضي تحدث سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف عن تطوير العلاقات مع أميركا اللاتينية، باعتبار الأمر إحدى الأولويات الدولية الرئيسة لروسيا.

من يستمع إلى بقية التصريحات يدرك الرهان الروسي الكبير على تلك المنطقة الجغرافية، فخلال مشاورات حول القضايا الأمنية مع ممثلي نيكارغوا وكوبا وفنزويلا وبوليفيا، أكد باتروشيف ضرورة تطوير العلاقات الودية مع من وصفهم بشركائنا الرئيسين في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، والتشديد على أن هذه قضية من أولويات روسيا.

وتحمل كلمات المسؤول الروسي الرفيع دلالات أيديولوجية واضحة على الطريق الذي تخترق به موسكو منطقة أميركا اللاتينية، إذ يشير إلى الدعم الروسي الكبير الذي تم تقديمه في الماضي، ويستمر في الحاضر في مجال الدفاع عن المساواة في السيادة بين الدول وسيادة القانون، وعدم تجزئة الأمن، وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية، ومعارضة العقوبات غير القانونية، بما في ذلك في إطار عمل مجموعة الأصدقاء للدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة.

هل يستشف القارئ رائحة قصد روسي لتبيان الفارق في تعامل روسيا مع أميركا اللاتينية وتعاملات الولايات المتحدة الأميركية المنطلقة من نهج "الفوقية الإمبريالية" التقليدية؟

يخبرنا الكاتب الروسي "ليونيد سافين" مدير تحرير موقع "جيوبوليتيكا" عن تكثيف روسيا اتصالاتها مع دول أميركا الجنوبية، ويعطي مثالاً بكوبا وفنزويلا، لا سيما بعد أن قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عشية المؤتمر الوزاري لـ"مجموعة الـ20" بزيارة خاصة لهما... لماذا ؟

مؤكد لأن الموقع الاستراتيجي لهاتين الدولتين الكاريبيتين مهم، فهما في الواقع قريبتان من الولايات المتحدة، وهو ما يسبب القلق في واشنطن. والثابت أنه عند تقييم الاستراتيجيات العسكرية يشير الخبراء الأميركيون إلى أنه من خلال نشر الصواريخ والطائرات الاستراتيجية في كوبا وفنزويلا، ستكون روسيا قادرة على إغلاق خليج المكسيك، مما يؤدي إلى شلل الإمدادات التجارية والاقتصادية على نحو شبه كامل.

هل تعمد موسكو لاستغلال نفوذها في منطقة أميركا اللاتينية عسكرياً فحسب؟

بالقطع لا، إذ تحاول جاهدة التأثير في قدرات الدولار وإضعافه، إذ تسعى موسكو إلى بناء توافق حول نظام مالي جديد من خلال طريقتها الأكثر فاعلية للتخلص من الدولرة في التجارة الدولية بين روسيا وأميركا اللاتينية، وذلك عبر استخدام التجربة الكوبية، أي التبادل بالعملات المحلية، وزيادة استخدام نظام الدفع ببطاقة "مير" الروسية، إضافة إلى ذلك، اقترح بوريس تيتوف المفوض الرئاسي الروسي لحقوق رواد الأعمال، العودة إلى التجربة السوفياتية في استخدام ما يسمى "روبلات المقاصة"، وهو نوع فرعي من تجارة شبه المقاصة بين أعضاء مجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة لرفع مستوى التجارة بين موسكو والعواصم اللاتينية.

هل تسعى روسيا كذلك إلى عسكرة أميركا اللاتينية؟ يحتاج الجواب إلى قراءة مستقلة، وإن كان هذا الأمر يجري بالفعل، ولكن بطريق غير مباشر.

بكين واختراق ناعم لأميركا اللاتينية

ولأن الصين هي القطب القادم، المرصود عولمياً لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية، يضحى من الطبيعي جداً أن تكون له رؤية خاصة لتلك القارة الثرية، لا سيما من حيث مواردها الاقتصادية.

ولا يميل الصينيون إلى النموذج الأرسطي في تعاملاتهم مع بقية دول العالم، أي نموذج الظاهرة وما خارج الظاهرة يضحى العدو بالضرورة، بل تميل إلى النموذج الكونفوشيوسي، والذي يعتبر الوجود كل أنطولوجي، يمكن أن تجري فيه اختلافات، لكن ليس بالضرورة أن يتسبب ذلك في صراعات.

 

ما يهم الصين في أميركا اللاتينية، وقبل أي شيء، ثرواتها من الغاز والنفط والمعادن، ولهذا تنشأ من هنا الرغبة في اختراق ناعم عبر معادلة بسيطة، الأموال الساخنة في مقابل المواد الأولية.

 لماذا تجد الصين قبولاً هناك بأكثر من الولايات المتحدة؟

 الجواب يسير، ذلك لأن بكين لا توجد لديها قوائم مشروطية مثل حقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية وبقية المنظومة التي تحاسب من خلالها واشنطن بقية دول العالم.

 في هذا الصدد ارتفعت استثمارات الصين في قطاع الطاقة في أميركا اللاتينية، إذ عملت الشركات الصينية على توسيع عمليات التعدين في النفط والمعادن والليثيوم، وغيرها من العمليات المرتبطة بالطاقة في عديد من دول أميركا اللاتينية.

وبالنظر إلى التبادلات الجارية بين الجانبين، نجد دول أميركا اللاتينية تصدر عديداً من المنتجات إلى الصين، بما في ذلك فول الصويا والنحاس والنفط وغيرها من المواد الخام في مقابل منتجات مصنعة ذات قيمة مضافة أعلى.

وأنشأت الصين اتفاقيات تجارة حرة مع شيلي وكوستاريكا والإكوادور وبيرو، إضافة إلى 21 دولة في أميركا اللاتينية كجزء من مبادرة "الحزام والطريق"، مما يجعلها شريكاً تجارياً جذاباً، كما ضخت الشركات الصينية كميات هائلة من الأموال إلى المنطقة في صورة استثمارات وقروض في مشاريع البنية التحتية وشراء الأراضي وتطوير الموانئ.

وبحسب تقرير مؤسسة "أوبل برايس"، فإنه في الفترة من عام 2000 إلى عام 2018، استثمرت الصين نحو 73 مليار دولار في قطاع المواد الخام في أميركا اللاتينية، إذ ضخت عشرات المليارات في تطوير المصافي ومصانع المعالجة في المناطق التي تتمتع بإمدادات وفيرة من الفحم والنحاس والغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم.

ولم يعد سراً كذلك أن الصين تضع عينها على المعدن المسمى بالذهب الأبيض، أي الليثيوم، والذي بات جزءاً رئيساً في صناعة الطيران، تلك التي تدر مليارات الدولارات على أصحابها شركات ودول.

ويوجد الليثيوم في عموم القارة اللاتينية، وبخاصة في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، وفي السنوات الأخيرة، زادت بكين استثماراتها في إنتاج الليثيوم، وباتت الشركات الصينية تسيطر حالياً على نحو 70 في المئة من إنتاج الليثيوم في الدول التي تعرف بـ"مثلث الليثيوم"، في العالم، وهي الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، كما يعمل عديد من الشركات الصينية المملوكة للدولة في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، إذ تنفذ شركة "باور شينا" الصينية نحو 50 مشروعاً في أميركا اللاتينية حتى نهاية عام 2022.

هل يعني ذلك أن الصين بدورها باتت عصا في دواليب التحالف الأميركي الشمالي مع دول أميركا اللاتينية الذي دعا إليه الرئيس جو بايدن في إطار توسيع التحالفات الأميركية لمقاومة التدفق الصيني في نصف القارة الجنوبي؟

مؤكد أن الأمر يمضي بالفعل على هذا النحو، مما يعني مزيداً من مربعات النفوذ التي تخسرها الولايات المتحدة في القارة اللاتينية.

ما الذي يتبقى في هذه القصة قبل الانصراف؟

إيران... جولة رئيسي ومؤطئ قدم

في الـ11 من يونيو (حزيران) من العام الماضي 2023، قام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بجولة في دول أميركا اللاتينية زار فيها "أصدقاء من دول التحالف البوليفاري"، والذي يضم فنزويلا وكوبا ونيكارغوا.

 

 هذه الجولة جاءت بعد زيارة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان للدول الثالث في فبراير 2023، اعتبرت تمهيداً لزيارة رئيسي وتمهيداً أيضاً لمستوى أعلى من التعاون والتنسيق مع الدول اللاتينية الثلاث الواقعة تحت وطأة العقوبات الأميركية كما هي الحال مع إيران.

لم تكن هذه هي الخطوة الأولى من إيران الواقعة على خط التصادم الأميركي بامتياز، تجاه دول أميركا اللاتينية، فقد شهدت الفترة ما بين "2005 - 2013" مداً ذهبياً خلال رئاسة محمود أحمدي نجاد، تلك التي تزامنت مع المد اليساري في القارة وازدهار اقتصاد الدول اليسارية الكبرى مثل البرازيل والأرجنتين وشيلي وفنزويلا.

ولفت انتباه الولايات المتحدة في زيارة رئيسي أنه اصطحب معه وفداً رفيع المستوى يتألف من وزراء الدفاع والخارجية والنفط والصحة، الأمر الذي يدلل على أن طهران تسعى لنسج خيوط هيكلية متكاملة في علاقتها مع دول ذلك التحالف.

ما الذي كانت تعنيه تلك الزيارة؟

الرد يأتي على لسان البروفيسور برونو بيكليني أستاذ العلاقات الدولية في جامعة Unifin البرازيلية، والذي اعتبر أن أهمية الزيارة تأتي بسبب توقيتها، إذ تشهد الساحة الدولية تحركات كبيرة مدفوعة بصراعات سياسية واقتصادية مختلفة من أهمها الحرب في أوكرانيا ومواجهة الدول الغربية مع روسيا، إضافة إلى التنافس الاقتصادي المحتدم بين الصين والولايات المتحدة.

على أن أكثر ما بات يزعج وواشنطن ويقطع بأن يدها العليا فوق أميركا اللاتينية في تراجع، حدوث تعاون عسكري إيراني - لاتيني، لا سيما بعد أن أبدت دول جديدة في القارة رغبتها في شراء طائرات مسيرة من إيران، ومن بينها بوليفيا التي أظهرت اهتماماً بهذه المسيرات، فيما حذرت الولايات المتحدة من أن الدخول في اتفاقيات دفاعية مع طهران قد يؤدي إلى "زعزعة الاستقرار" في المنطقة.

عرفت إيران التي برزت خلال السنوات الأخيرة كلاعب رئيس في سوق صناعة المسيرات، كيفية إيجاد جسر قوي من التعاون العسكري مع عدد من دول القارة اللاتينية، وسينتقل لاحقاً إلى مدار أشد خطورة وضراوة على مصالح واشنطن الاستراتيجية في القارة اللاتينية وما حولها، وبخاصة حال التعاون في مجال الصواريخ الباليستية، والتي باتت إيران تمتلك خبرة عريضة فيها.

 هل من خلاصة؟

يبدو من شبه المؤكد أن واشنطن قد أصيبت بنوع من أنواع الشلل السياسي تجاه خلفيتها الجغرافية، لا سيما في ضوء البدائل الإستراتيجية المختلفة المتاحة لمنطقة كانت ولعقود طوال واقعة تحت النفوذ الأميركي، وربما حان لها أوان الفكاك من الأسر والعزف على أوتار مناقضة لشهوات قلب "العم سام"، إلى حين إشعار آخر.

المزيد من تقارير