Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا نظف بيكاسو وآراغون إبداعهما من بقايا الستالينية

استخدما ذكرى شكسبير و"دونكيشوت" لتحقيق مرادهما وزعيم الحزب الشيوعي الفرنسي عصى المزاج العام لجمهوره ففتح ذراعيه للترحيب بفنان العصر

لويس آراغون (1897 – 1982) (أ ف ب)

ملخص

بعد وفاة ستالين راح بابلو بيكاسو ولوي آراغون يعبران، في نشاطاتهما الإبداعية، ولكن من ورائها في فكرهما الذي راح يبدو متقارباً، عن دعوتهما الإبداع اليساري الذي سيصران على انتمائهما المشترك إليه، إلى اجتثاث النزعة السوفياتية بأسرها

تقول الحكاية التي يبدو أن الإعلام الشيوعي الذي كان واسع الانتشار في فرنسا في ذلك الحين، انقسم بالنسبة إلى التعامل معها بين من يصر على روايتها ومن يغض الطرف عنها عن تعمد، تقول إنه ذات مرة وحين كان الرسام الكبير بابلو بيكاسو جالساً في انتظار مشاهدة عرض ما في إحدى الصالات، دخل إلى القاعة زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي موريس ثوريز محاطاً بحاشيته وما إن لوحظ حضوره الصاخب حتى توجهت الأنظار ناحية المكان الذي يجلس فيه بيكاسو لتلمس تأثير ذلك الظهور المباغت على الفنان الذي كان في ذلك الحين على خلاف حاد مع الحزب الشيوعي ويتحدث في الصحافة بقدر من التحدي بل النفور عن سياسات الحزب تجاهه ومهاجمته علناً لأسباب فنية وسياسية سواء بسواء. والحقيقة أن قوة انتشار الفكر الشيوعي في فرنسا حينها كانت في أوجها. وكذلك كانت في أوجها أيضاً مكانة بيكاسو الكبيرة. في تلك اللحظة إذا راحت العيون ترصد كيف سيكون اللقاء، بدا أن ثوريز لم يرد أن يجعل التشويق طويلاً بل دنا من فوره من المكان الذي يجلس فيه الرسام ليحييه بحرارة وتبجيل فينهض بيكاسو ويقبله. وصفق معظم الحضور ولكن في المقابل وجم آخرون. ولاحقاً حين سئل ثوريز ودائماً بحسب الرواية التي من الصعب العثور على تفاصيلها في الأدبيات الحزبية، عن حقيقة الأمر كان جوابه بسيطاً: "حين يقوم خلاف بين فنان من وزن بيكاسو، وحزب ما، يكون الحق دائماً مع الفنان لا مع الحزب وعلى الحزب أن يبادر بالتراجع".

الستالينية جوهر الخلاف

كان الجواب مفاجئاً وبخاصة أن بيكاسو كان طرفاً في سجال عميق داخل الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتاد أن يكون قريباً منه وكان في السابق معروفاً بعدم اعتراضه على السياسات الستالينية التي اعتاد الحزب اتباعها. وذلك إلى درجة أنه، حتى حين أعلن في مارس (آذار) 1953 رحيل سيد الكرملين لم يتردد حين طلب منه صديقه الشاعر لوي آراغون، الشيوعي بدوره والذي كان رسمياً أكثر منه حزبياً، أن يرسم بورتريه لستالين ليزين نصاً "مفجوعاً" كتبه الشاعر الكبير تعليقاً على ذلك الرحيل "الذي هز العالم" بحسب وصفه، لم يتوان بيكاسو عن ذلك ما اعتبر "فضيحة أخلاقية وفنية لطخت سمعة الفنان نفسه". غير أن الذي حدث بعد ذلك، وإذ بدأ الزعيم السوفياتي خروتشيف، الذي حل بديلاً لستالين، نزع الستالينية في عملية مدهشة تواصلت حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، حتى انقلب بيكاسو على "تاريخه" جنباً إلى جنب مع آراغون نفسه والذي كان شاركه قبل حين في التعبير عن حزنه الشديد لرحيل ستالين. والأرجح هو أن ذلك الانقلاب الذي اعتبره كثر انعتاقاً من جانب بيكاسو وآراغون معاً من الجمود السوفياتي لسلوك دروب إبداعية تحررية، ذلك الانقلاب كان هو في خلفية ذلك الخلاف بين بيكاسو وقيادات كثيرة في الحزب، بل حتى الكثير من المناضلين والمثقفين الشيوعيين. ولو أن وسيلة المبدعين الكبيرين للتعبير عن ذلك الانقلاب لم تكن سوى تخليهما معاً عن سمات عديدة تسم تلك السياسات الجمودية التي كان جدانوف كبير مستشاري ستالين قد أرسى قواعدها تحت رعاية سيده منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

لحظة ملائمة

والحقيقة أن اللحظة الأساسية التي سجل فيها بيكاسو – آراغون ذروة خوضهما سياساتهما الجديدة كانت في صيف عام 1964 حين قررت مجلة "آراغون" الشهيرة والتابعة على أية حال للحزب الشيوعي الفرنسي مع أن صاحب القرار فيها كان الشاعر الكبير صاحب "عيون إلسا" و"الملصق الأحمر" وغيرهما من أشعار وكتابات كانت من الشعبية إلى درجة أن قراءها من اليمينيين كانوا أكثر عدداً من القراء الشيوعيين بكثير ولا سيما منذ أنشد كبار المغنين الفرنسيين من ليو فيري إلى جورج براسان مروراً بجان فيرا وجولييت غريكو... إلخ، قصائدهما. كان الشاعر الكبير يتحكم فيها بحيث لم يتمكن حتى حين زعم أنه يريد ذلك، من أن ينسب إلى الحزب نزوعها الستاليني في مناسبات عدة أخرى. المهم أن اختيار اللحظة "المناسبة" للضلوع في اجتثاث الستالينية ولا سيما في تلك المناسبة لم يخل من انتهازية كان من حظ بيكاسو وآراغون ألا تبدو واضحة إلا لعدد من أصحاب العقول الجامدة وهؤلاء هم على أية حال أولئك الذين اشمأزوا حتى من موقف ثوريز الذي بدا غريباً لهم. لكن الموضوع الذي كمن حول ذلك الانتهاز للحظة كان كبيراً على أية حال وهنا لب القضية بالتأكيد.

شكسبير وتسربانتس وسيلة للتمرد

ففي صيف عام 1964 اتخذت المجلة الآراغونية قراراً - سيوصف بالتاريخي لاحقاً – فحواه الاحتفال بشكل صاخب ويعبق بالإيجابية بالذكرى المئوية الرابعة لولادة شكسبير (23 أبريل/ نيسان) ما يفترض نوعاً من الاستذكار أيضاً لصاحب "دون كيشوت" ميغيل ثيربانتس، الذي لئن كان لم يولد في ذلك التاريخ فإنه رحل بعد ذلك في اليوم نفسه الذي رحل فيه شكسبير من عام 1616 (وأيضاً يوم 23 أبريل). ومن هنا وجد بيكاسو وآراغون أن في الإمكان دمج الاستذكار المزدوج في سياق واحد طالما أنه يشكل نوعاً من مناسبة يمكن "انتهازها" للتعبير عن موقف مشترك كانا يريان فيه نوعاً من الإعلان "على مستوى القمة" عن أن الوقت قد حان لانضمامهما نهائياً ومعاً إلى ذلك السياق الذي يخدم فهمهما المشترك للقضية الفنية بعيداً من المواقف الحزبية الصارمة التي على رغم كل المظاهر كانت تشير إلى أن اجتثاث الستالينية في الزمن السوفياتي الجديد لم يكن جدياً في الممارسات الحزبية تجاه الفن والإبداع والفكر والثقافة بصورة عامة. وأن الحرب الباردة بما تتضمنه من سياسة تقوم على تعزيز ما أسماه تشرشل بسياسة "الستار الحديدي"، تحاول أن تعيد المبدعين الحقيقيين إلى "الحظيرة الستالينو – جدانوفية". بالنسبة إلى الثنائي المبدع لا يجوز إطاعة سياسات "الواقعية الاجتماعية" و"الأبطال الإيجابيين" و"الفن في خدمة الثورة" بعد الآن، بخاصة أن تلك السياسات كانت تنتهي بإخضاع الفن للقرارات الحزبية. وهذا الإخضاع إنما كان بيكاسو وآراغون يجهدان للتخلص منه. وهكذا لاحت الفرصة الآن من خلال الاحتفال الذي لا غبار عليه بذكرى عملاقين لا شك أنهما، ومن دون التعمق في التعامل مع إبداعاتهما لا يمكن لجمهرة الشيوعيين في العالم أجمع لا سيما في مناطق النفوذ السوفياتية إلا أن يقبلوا بما هو مضيء من أعماهما و...إن على مضض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

القفز على هامش ضيق

وهذا الهامش على رغم ضيقه كان هو في صيف الاحتفال بمئوية شكسبير الرابعة وفي ركابها بذكرى تسيربانتس، المناسبة المثالية التي لاحت لبيكاسو وآراغون للتخلص من آثار ما تركه تأبينهما المشترك لستالين قبل أعوام. وهكذا امتشق بيكاسو ريشه وأقلامه وأمسك آراغون أوراقه وقررا أن يجعلا من صفحات "الآداب الفرنسية" منطلق المعركة الجديدة وبخاصة بالنسبة إلى بيكاسو. وكان هذا الأخير في ذروة مرحلته التي اتسمت بقدر من السير في الرسوم التخطيطية على طريقة رمبراندت التي جعلته يكثر من تلك اللوحات التخطيطية بالأسود والأبيض. وفي المقابل كان آراغون في ذروة مرحلته العاطفية بعدما انقضت أيام المقاومة ورومانطيقيتها. فراح الأول يرسم والثاني يكتب و"الآداب الفرنسية" تنشر، إنما من دون أن يسلك أي منهما درب العراك بصورة مباشرة. كل ما في الأمر أنهما تذكرا في وقت واحد أن آراغون كان من غلاة السرياليين قبل شيوعيته وستالينيته، وأن بيكاسو كان يصر دائماً على "برجزة" فنه حتى وإن كان قد حقق ذروة انتصاراته الفنية عبر لوحات مجدت الشعب الإسباني في خوضه الحرب ضد فرانكو أو نددت بالإمبريالية الأميركية وحربها في كوريا وغير ذلك. مع العلم أن الرسام كان دائماً أقل انخراطاً في الحياة الحزبية وجموديتها من الشاعر.

ومهما يكن من أمر، فإن الاثنين راحا يعبران الآن، في نشاطاتهما الإبداعية، ولكن من ورائها في فكرهما الذي راح يبدو متقارباً، عن دعوتهما الإبداع اليساري الذي سيصران على انتمائهما المشترك إليه، إلى اجتثاث النزعة السوفياتية بأسرها. ولعلنا نعثر على هذه الدعوة في أزهى تجلياتها في اللوحات العشر التي رسمها بيكاسو مستوحاة من شكسبير ولكن كذلك في عدد من رسومه الدون كيشوتية وأشهرها تلك التي تصور فارس طواحين الهواء في لغة باروكية كانت هي ما ولّد بالتحديد تلك اللوحات الملونة التي صور فيها الرسام فرسانه الباروكيين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة