Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأم العربية أسيرة مفهوم الإنجاب والصفة العائلية

مصطلح الأم في الغرب يعني المؤسسة والتجربة والأيديولوجيا المُنظمة للمجتمع

الامومة بريشة بول غيراغوسيان (متحف الرسام)

ملخص

يحتفل العالم اليوم 21 مارس (آذار) بعيد الأم وحلول فصل الربيع، وليس من المستغرب أن تلتقي هاتان المناسبتان، الإنسانية والطبيعية، في يوم واحد. فالأم هي بحق ربيع الحياة المتجددة وفصل الربيع هو موسم الطبيعة المتفتحة على الجمال والبهاء. هنا مقال عن مفهومي الأمومة، العربية والغربية، وأوجه الشبه والاختلاف بينهما.

تبدو الأمومة مرتبطة بذوات النساء ومسؤولة عن تحديد موقعهن في الثقافة، فتُشكل الثقافة صورتها عن ذاتها وعن الآخر من خلال النساء وأدوارهن. فالأم في الشرق عاطفية وحنون ومضحية في حين أنها في الغرب مادية وأنانية ولا مبالية.

تنسحب هذه التصورات على الثقافة كاملة فيصبح الشرق دافئاً والغرب بارداً، وتتشبث كل ثقافة بتصورات ذهنية نابعة من الرغبة في مواجهة الآخر بالنقيض الذي ينتقص منه ويزيد قوتها. فإذا كان الاستشراق قد اعتمد بقوة في القرن التاسع عشر على وضع النساء في الشرق، فهو استمر حتى الآن في الاعتماد على وضع النساء عموماً لتشكيل صور عما يُسمى الشرق. والعكس صحيح مع فارق رئيس: إنتاج المعرفة النقدية النسوية حاضر بقوة في الغرب مقارنة بالعالم العربي.

هناك تنظيرات نقدية ثرية لمسألة الأمومة في الغرب، في حقل الدراسات النفسية والنسوية والاقتصادية والدراسات المقارنة، بل إن الأمومة بوصفها فعلاً، تحولت إلى تيمة رئيسة في المناهج الأكاديمية. وبالتدريج خرجت الأمومة من الكلام المرسل والتصورات الذهنية الجمعية ليتم تقنينها، وهو ما انعكس على السلوك المجتمعي والمزايا الاقتصادية والرؤى الأدبية والتوجهات الفنية. في عالمنا العربي لا تزال الأمومة من المعطيات المسلم بها التي لا تستدعي التنظير أو النقاش، لأنها تُعد القاعدة التي تُشكل وجود النساء أو غاية وجودهن إذا شئنا الدقة. تتحول الأمومة في العالم العربي (والإسلامي) إلى فعل خطابي وأداء مجتمعي مرتبط مباشرة بمفهوم العائلة، فأي نقاش عن العائلة يستحضر دور الأم تلقائياً من ناحية مدحها أو لومها. ولا يفيد الجدال في صحة هذا الارتباط بين العائلة والمجتمع والأم؛ فالأدوار متداخلة غير منفصلة عن الإطار المعرفي الذي ينطلق منه المجتمع. فالأمومة في النهاية أحد تجليات البنية الفوقية التي تستند في رؤيتها إلى البنية التحتية. تكمن الإشكالية في المساواة بين تحقق ذاتية المرأة وفعل الأمومة- وهو فعل رعاية-؛ وبذلك يُمحى وجود النساء من الخريطة الإنتاجية ويحولها في الثقافة الدارجة إلى "مصنع الرجال"، بل مصنع الأمة ذاتها، كما قال حافظ إبراهيم، شاعر النيل، في عام 1910: "مــن لــي بـتربية الـنساء فـإنها / فـي الـشرق عـلة ذلـك الإخفاق / الأم مـــدرســـة إذا أعــددتــهــا / أعـددت شـعباً طـيب الأعـراق".

يُمكن بالطبع قراءة إشكالية الأمومة في الثقافات عبر عدة مداخل، فهناك المدخل النفسي، والاقتصادي، والاجتماعي. بالطبع هناك المدخل النسوي الذي تتعدد مداخله ليواكب التطورات العنيفة الناتجة من الصراعات والحروب؛ إذ لا يُمكن إغفال ما يقع على النساء من اغتصاب في الحروب يؤدي إلى تحويلهن قسراً إلى أمهات منبوذات في احتياج إلى رعاية صحية ونفسية، كما لا يُمكن تجاهل الأم المكلومة بسبب فقدان أبنائها. وأخيراً ظهر المدخل الجغرافي الاقتصادي الذي اكتسب مصداقية مع ازدياد عدد العاملات الأجنبيات اللواتي يعملن في رعاية أطفال مقابل أجر، في حين يتركن أطفالهن في بلادهن ليرعاهم غيرهن. يبرر كل هذا التعقيد إلحاق مصطلح "إشكالية" بفعل الأمومة. الأمر ليس ببساطة إنجاب طفل ورعايته، فلو اقتصر الأمر على هذا لكان عملاً فردياً تتحمل مسؤوليته المرأة كفرد، لكنه فعل يؤثر في ما حوله ويتأثر بنفس القدر بالعديد من المفاهيم والعوامل والخطابات الخارجية.

حركة التحرر

بدأ التنظير لمسألة الأمومة في الغرب بعد منتصف القرن العشرين وتحديداً في السبعينيات، وهو ما تزامن مع صعود الحركات التحررية في العالم بما في ذلك الحركات النسوية، وثورة الشباب في أوروبا، والتعافي من آثار الحرب العالمية الثانية، وظهور تجليات متعددة للحداثة. وقد انطلق التنظير للأمومة في الولايات الأميركية المتحدة، من إشكالية توزيع الأدوار بين الجنسين والتي تم طرحها من منظور علم الاجتماع. ومن أبرز الأسماء في هذا المجال: دوروثي دينرشتاين (1923-1992)، ونانسي تشودورو (1944)، وإدريان ريتش (1929-2012).

أصدرت دينرشتاين- وهي أكاديمية وناشطة نسوية- كتابها الأول "الحورية والوحش" عام 1976 المستند إلى أفكار فرويد كما تناولتها ميلاني كلاين. اشتبكت دينرشتاين مع فكرة الأم بوصفها الراعي الرئيسي للأطفال، وأكدت أن الأمومة ممارسة اجتماعية يُمكن تغيير الأسس التي تقوم عليها. واعتبرت أن إخضاع النساء له علاقة مباشرة بالمتطلبات والتوقعات الاجتماعية لفعل الرعاية. كما أشارت إلى المبرر الذي يضع النساء دائماً في خانة عدم النضج وهو ارتباطهن بمجال رعاية الأطفال. وطرحت فكرة ضرورة إشراك الآباء في رعاية الأطفال وهو ما يسمح للنساء بدخول المجال العام. ظلت قراءة الكتاب قاصرة على الدوائر النسائية الأكاديمية ولم يحصل على شهرته إلا بعد فترة طويلة. 

وفي العام نفسه أصدرت الشاعرة والمنظرة النسوية إدريان ريتش كتابها "عن المرأة المولودة: الأمومة كتجربة ومؤسسة" الذي أثار ضجة كبيرة لأنها استهلته بتجربتها الشخصية. بل إن عنوان الكتاب ذاته كان بمثابة صدمة للمجتمع الأميركي المحافظ بشدة في عقد السبعينيات الذي لم تختلف نظرته للأمومة عن الرؤية السائدة منذ بداية القرن: الأمومة هي المرأة والعكس صحيح. اشتبكت ريتش مع سياقات متعددة- القانون والرعاية الطبية ونظرة المجتمع والتنشئة- عبر سرد تجربتها الخاصة. وقد يكون ما أثار حفيظة المجتمع الأميركي المتحفظ هو قول ريتش: "الأمومة كمؤسسة هي حجر الأساس للأنظمة السياسية والاجتماعية المتعددة". قوبل الكتاب بهجوم شديد حتى أنها اضطرت إلى كتابة مقدمة للطبعة الثانية توضح فيها أنها لا تقصد مهاجمة الأمومة. وفي عام 1978 أصدرت عالمة الاجتماع نانسي تشودورو كتابها "إعادة إنتاج الأمومة" وهو كتاب يُشار إليه حتى الآن في الأبحاث المتعلقة بالأمومة. ألقت تشودورو باللوم على تقسيم العمل الذي يجعل رعاية الأطفال مهمة النساء في حين يحصل الرجال على مناصب في سوق العمل يراها المجتمع ذات قيمة.

تكوين الأمومة

في عام 1989، أصدرت باربارا روثمان كتاباً يشتبك مع الأمومة من زاوية علم الاجتماع بعنوان "إعادة تكوين الأمومة"، حيث حددت الأيديولوجيات المسيطرة على الثقافة وهي الأبوية والتكنولوجيا والرأسمالية. ومن داخل هذا الإطار تشرح الكيفية التي يتم بها إسكات أصوات –وخبرات- النساء بحيث تصبح الأمومة في هذه الثقافة دالاً على النساء والأطفال. انصب اهتمام روثمان على دحض فكرة تحويل النساء وعملهن ورعاية الأطفال إلى "منتج". في العام نفسه- 1989- أصدرت سارة راديك كتاباً بعنوان "التفكير الأمومي" حيث تعاملت مع الأمومة باعتبارها نشاطاً واعياً، وطورت ممارسة الملاحظة الذاتية لتصيغ مصطلح التفكير الأمومي. عموماً، انشغلت الثقافة النسوية الأميركية بمسألة الأمومة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وكان لا بد من انتظار مطلع الألفية الجديدة ليتمكن مصطلح الأمومة من اقتحام المجال الأكاديمي. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى النقيض من الفكر الأميركي، انطلقت الكتابات النسوية الفرنسية من مجال علم النفس التحليلي وليس من علم الاجتماع. ومع الموجة الثانية للنسوية في مطلع الستينيات من القرن العشرين ظهرت الأمومة كموضوع رئيسي في النقاش والمنتج الفكري. وفي هذا السياق تظهر أسماء مفكرات بارزات مثل سيمون دو بوفوار (1908- 1986) وهيلين سيكسو ولوسي إريغاري وجوليا كريستيفا. وفي ما عدا دوبوفوار فقد كان للحركة الطلابية عام 1968 في فرنسا تأثير كبير على هؤلاء المفكرات، كما أنهن جميعاً قد تأثرن بمدرسة جاك لاكان- وقمن بمعارضتها في ما بعد- وهو ما يفسر هيمنة التحليل النفسي على الإنتاج النسوي النقدي في فرنسا.

ازدهرت الدراسات عن الأمومة بشكل ملحوظ ويرجع الفضل في ذلك إلى الدراسات النسوية التي أدركت أن الأم بوصفها مؤسسة وتجربة وأيقونة وأيديولوجيا مُنظمة للمجتمع تساعد الخطاب الأبوي على تشييد أركانه بوصفه الذات الرئيسية الفاعلة التي تُهمش كل ما عداها. أدى هذا التراكم الفكري والبحثي- حتى وإن كان متفرقاً ويعاني من بعض انقطاعات- الذي أسهمت فيه أسماء كبيرة إلى ظهور مصطلح "دراسات الأمومة" للمرة الأولى عام 2011 في موسوعة الأمومة التي حررتها أندريا أوريلي الأستاذة في جامعة يورك في تورونتو، وهي أيضاً محررة أول مجلة علمية محكمة عن الأمومة. في المدخل التمهيدي يتم التأكيد أن موضوع الأمومة قد بدأ في الظهور في الثلاثين عاماً السابقة على 2011، في المجال الأكاديمي بوصفه موضوعاً بحثياً. وقد تطور المجال البحثي لتنتج منه ثلاث مسارات بحثية: الأمومة كمؤسسة، والأمومة كتجربة، والأمومة بوصفها هوية وذاتية. بدخول موضوع الأمومة إلى المجال الأكاديمي ظهرت مجلات علمية محكمة مخصصة لتناول الأمومة؛ في عام 1999 أصدرت أوريلي "مجلة مبادرة الأمومة" وهي نصف سنوية علمية ومحكمة، وفي عام 2009 ظهرت مجلة "دراسات في الأمومي"، وهي مجلة بينية علمية محكمة تنشر إلكترونياً مرتين سنوياً. وتهدف إلى توفير مساحة لمناقشة المناظرات النقدية المعاصرة حول الأمومي بوصفه تجربة حياتية، وموقعاً اجتماعياً، وممارسة علمية وسياسية، وتحدياً أخلاقياً واقتصادياً، وبُعداً وفي عام 2015 ظهرت مجلة دراسات الأم في نيويورك وهي بينية ومحكمة علمياً.

ما كان يُمكن أن يحدث هذا من دون تطور النظرية النسوية في مجالات العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية التي لم تهمل بدورها الجوانب الاقتصادية والسياسية. يبدو لي أن جرأة النظرية النسوية في الغرب وعدم ترددها في اقتحام مناطق لم تكن خاضعة للسؤال وقدرتها على إرساء معطياتها في البحث يشكل جوهر الاختلاف الذي أدى إلى عدم البحث في مفهوم الأمومة في الثقافة العربية. نحتاج إلى جرأة طرح السؤال، وهو أهم بكثير من الحصول على إجابة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة